بقلم : عبدالنبي الشعلة
يهمنا نحن العرب، أو الخليجيين العرب على أقل تقدير، ما يجري في أوكرانيا الآن، أو الصراع المحتدم في أوروبا بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة أخرى، هذا الصراع يهمنا بالفعل، ويفرض علينا في هذه المرحلة بالذات الإسراع في تصفية خلافاتنا، وتكثيف التشاور والتعاون والتنسيق فيما بيننا لتحديد وتوحيد مواقفنا، والسعي للاستفادة بقدر الإمكان من المعطيات التي أفرزتها والتي ستفرزها هذه الأزمة.
كما علينا الإعداد والاستعداد لفترة “ما بعد أزمة أوكرانيا”؛ فهذا النزاع، مهما كانت نتائجه النهائية، ستكون له تبعات وتداعيات كونية مصيرية عميقة ستؤثر على مجرى التاريخ وستغير منظومة العلاقات الدولية؛ فإذا لم نستيقظ ولم نعِ أهمية وخطورة ما يُحاكُ وما يجري الآن ولم نسعَ لحماية أنفسنا ومصالحنا، وإلى أن يكون لنا مكان ودور في رسم مجريات الأحداث على الساحة الدولية؛ فإن مصيرنا سيكون مزيدا من الضعف والتفكك والتهميش، وسنبقى عرضة للابتزاز والاعتداء.
ومنذ الاجتياح الروسي لأوكرانيا واندلاع الأزمة الأوكرانية قبل أكثر من 70 يوما، قضيت أكثر من نصفها أتنقل في أوروبا بين عدد من مراكز القرار في بريطانيا وألمانيا وإسبانيا؛ أتابع وأتصل وأقرأ وأسأل، وأتحدث مع من ألتقي بهم من مسؤولين ورجال أعمال وإعلام وسواق التاكسي، ونُدُل أو جرسونات المطاعم ونزلاء الفنادق، كما التقيت في مدريد عددا من اللاجئين الأوكران، ونتيجة لذلك فقد تأكدت لدي القناعة، مثل الملايين غيري بأن الأحداث والتطورات التي يشهدها العالم اليوم انطلاقا من أوكرانيا ليست أقل أهمية وخطورة من الأحداث والتطورات التي أدت إلى اندلاع الحربين العالميتين السابقتين، وما نتج عنهما من استحقاقات، والتي لم يكن للدول العربية وقتها أي دور محسوس فيهما؛ بل على العكس فقد كانت هذه الدول مجرد كيانات متفرقة وأدوات تم تشكيلها وتحريكها والتحكم في مصائرها حتى يومنا هذا، ويبدو أن السماء قد شاءت أن توفر لنا هذه المرة فرصة لتصحيح أوضاعنا، وتثبيت موقعنا على خارطة الأحداث الدولية، والانتقال من خانة الدول المتلقية المتأثرة الخانعة والتابعة إلى موقع متقدم في صفوف الدول المؤثرة الفاعلة التي تضع مصالحها قبل وفوق أي اعتبار آخر، وتستخدم أوراقها بحكمة وروية لتضعها في المكان الصحيح على طاولة اللعبة السياسية؛ ففي هذا الصراع برز عنصر الطاقة كعامل جوهري حاسم، وبما أننا نشكل أكبر تجمع أو كتلة منتجة ومصدرة للطاقة النفطية والغازية فإن القدر قد وضع في أيدينا مفاتيح تمكننا من فتح أبواب جديدة؛ لتعزيز وتأكيد موقعنا ومكانتنا، وقد يصدق المثل القائل “مصائب قوم عند قوم فوائد”.
لقد كنا قبل أزمة أوكرانيا عرضة للتهديد والابتزاز والتلويح برغبة الولايات المتحدة في التخلي عن التزاماتها الدفاعية تجاهنا أو تقليصها، في الوقت الذي كنا نواجه أخطار وتحديات أمنية متزايدة ومتفاقمة مما اضطرنا إلى البحث عن حلفاء جدد والسعي في هذا السبيل للتحالف مع إسرائيل.
وربما يكون في إطار الابتزاز ذاته ما كان يقال لنا من أن منتجاتنا النفطية والغازية قد فقدت قيمتها وأهميتها بالنسبة إلى الولايات المتحدة والغرب بشكل خاص والاقتصاد العالمي عموما؛ لأسباب كثيرة منها اكتشافات الطاقة البديلة، وأن العالم لم يعد في حاجة ماسة إليها؛ ما أدى إلى تراجع وتدهور أسعارها، إلى جانب ما كان يقال لنا من أن منطقتنا قد خسرت وفقدت أهمية موقعها الاستراتيجي وسقطت من قائمة الأولويات في قاموس السياسة الأميركية بشكل خاص التي حولت اهتمامها الاستراتيجي من منطقة الخليج العربي إلى بحر الجنوب في مواجهة الصين.
مثل هذا الطرح أو هذا السيناريو أدخلنا في مربع القلق والخوف من الانكشاف الاقتصادي والأمني، إلى أن جاءت الأزمة الأوكرانية لتكشف الحقيقة وتقلب الصورة رأسا على عقب؛ ليتضح ويتأكد للجميع أن ثرواتنا النفطية والغازية أصبحت أغلى وأعلى قيمة، وأن موقعنا الاستراتيجي صار بالفعل أكثر حساسية وأهمية من ذي قبل، هذا الانقلاب في القناعات جعلنا في وضع وموقع أفضل وأقوى للمساومات والمناورات، وحتى لاستخدام سلاح الابتزاز الذي لا يعتبر تصرفا معيبا أو مشينا في ميادين المنازلات والمفاوضات والصفقات السياسية.
وعلى جبهات القتال في أوكرانيا فإن الصورة الآن أصبحت أكثر وضوحا؛ فروسيا ستحتل أوكرانيا أو تكتفي باحتلال أجزاء كبيرة منها، وستلحق بها الكثير من الدمار والخراب، وستهزم الجيش الأوكراني، ولن يدخل جندي أميركي أو أوروبي نظامي إلى الأراضي الأوكرانية لمواجهة الروس ووقف زحفهم.
حرب أميركا والغرب ضد روسيا في أوكرانيا لن تكون حربا مباشرة ولن تكون حربا نظامية، لكنها ستكون حربا حاسمة ستغير مجرى العلاقات الدولية كما ذكرنا، أميركا والغرب سيحاربون الروس في أوكرانيا بالوكالة؛ فالشعب الأوكراني سيقاوم الاحتلال بالدعم المالي السخي والتسليح المتطور والمساندة العسكرية الأميركية الغربية، والجيش الأوكراني سيتفكك ويتحول إلى مجموعات مقاتلة بأسلوب حرب العصابات، أو كما حصل للجيش العراقى الذي تم تفكيكه وتفتيته بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003 فتجمعت فلوله وعناصره المشتتة فيما بعد وشكلت نواة وفصائل “داعش” التي احتلت لاحقا أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، ولم تُمكن أميركا من الانتصار في العراق أو تحقق أهدافها إلا هدفا واحدا وهو تقسيم العراق وإضعافه.
وقد بدأت بالفعل مليارات الدولارات وكميات هائلة من الأسلحة المتطورة تصل إلى أيدي الأوكرانيين المقاومين للاحتلال الروسي، وبدأ المتطوعون المسلحون الأوروبيون وغيرهم في التدفق على أوكرانيا للاشتراك في قتال الجيش الروسي فوق الأراضي الأوكرانية، ومن الواضح أن الولايات المتحدة وأوروبا لن تستخدم عضلاتها أو نفوذها للتوسط لإنهاء الاقتتال في الوقت الراهن، لا سلما ولا حربا، بل على العكس فهي تريدها حرب استنزاف طويلة الأمد، فالكل يدرك أن الدول الكبرى أو ذات القوة العسكرية المتفوقة لا تستحمل حروب العصابات أو حروب الاستنزاف، روسيا تدرك ذلك بعد أن تعلمته في أفغانستان، وأميركا تعلمته في أفغانستان أيضًا وفي العراق وقبل ذلك في فيتنام.
وبهذا الشأن كنت قد كتبت مقالًا على هذه الصفحة بعد 4 أيام فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا ذكرت في أحد محاوره: “أن الولايات المتحدة قد ورطت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجرته إلى اتخاذ قرار غزو أوكرانيا، وأنها بدورها لن تبادر أو تنجر إلى القيام بأي خطوة قد تؤدي إلى صدام عسكري مباشر ونشوب حرب عالمية ثالثة، وستكتفي وحلفاؤها بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية القاسية الخانقة ضد روسيا، وتحويل أوكرانيا إلى مستنقع أو أفغانستان جديدة لروسيا يتم فيها إنهاكها واستنزاف قدراتها وطاقاتها” إلا أن عددا غير قليل من القراء والمتابعين لم يستصوبوا أو يتفقوا مع هذا الطرح ورأوا فيه عوارا فادحا ناتجا عن تمسكنا نحن العرب بـ “نظرية المؤامرة”.
واليوم وبعد مضي أكثر من 70 يوما من الغزو الروسي، فإننا ننفي وقوعنا تحت تأثير “نظرية المؤامرة” ونجزم بأن الولايات المتحدة قد نجحت في استفزاز الرئيس بوتين ودفعه إلى غزو أوكرانيا عندما رفضت مطلبه بالتعهد بعدم توسيع حلف الناتو شرقا ليشمل أوكرانيا، واستمرت في تشجيع الرئيس الأوكراني على التمادي في إثارة الرئيس الروسي والإلحاح في المطالبة بالانضمام إلى حلف الناتو، ولم تحاول الولايات المتحدة أن تطلب منه التراجع عن إصراره بعد أن بدأت الأمور في التعقيد والتصعيد.
ومثل هذا الأمر ليس شاذا أو غريبا في السياسة ولا على الولايات المتحدة بالذات؛ فقد فعلتها من قبل عندما ورطت الاتحاد السوفيتي (روسيا اليوم) ودفعته إلى التدخل في أفغانستان في عهد الرئيس الديمقراطي أيضًا جيمي كارتر في العام 1979، فقد اعترف وأقر مستشاره للأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي بأنه شجع ودعم الأصوليين الإسلاميين في أفغانستان ما أدى إلى تدخل الاتحاد السوفيتي وهزيمته وانهياره بالنتيجة.
والرئيس بايدن يختلف عن سلفه الرئيس ترامب؛ فهو يرى في روسيا الخطر الأكبر على الولايات المتحدة ومصالحها وليس الصين، ولذا فهو يرى ضرورة محاصرتها وتضييق الخناق حولها وإرهاقها واستنزافها اقتصاديًا وعسكريا وليس ثمة أفضل من مستنقع أوكرانيا لتحقيق ذلك.