بقلم : عبد النبي الشعلة
لدينا مَثَل في دول الخليج العربية يقول: “الملدوغ من الحية يخاف من الحبل”، ولأشقائنا المصريين مثل مشابه يقول: “الي اتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي”؛ ولعل في الحكمة من وراء هذين المثلين ما يبرر أو يفسر موقف بعض المسؤولين في الأجهزة الرسمية المعنية بالجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى في بلادنا الحبيبة، الذين أصبحوا يتحملون جزءا ليس قليلا من المسؤولية عن تراجع وتقهقر النشاط الأهلي والتطوعي وعدم تطور ونمو الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى.
فالجمعيات والمؤسسات القائمة لم تعد تلقى الاهتمام المطلوب ولا الرعاية اللازمة، ولا تتلقى أي دعم أو إسناد مادي مناسب؛ فلا توجد لدى الحكومة ميزانيات أو مخصصات مالية مجزية لدعم وتشجيع هذه الجمعيات والمؤسسات تتناسب مع دورها وأهميتها؛ في الوقت الذي يتم فيه التضييق على قنوات التمويل الموجهة إليها منعًا لتسرب الأموال المشكوك في مصادرها ومقاصدها وأهدافها، كما يتم استصدار قوانين وتعديلات قانونية معرقلة بما يفضي إلى تراجع أنشطتها وفعالياتها.
والأدهى والأمر من ذلك فإن المتطوعين القائمين على أمر هذه الجمعيات والمؤسسات بدأوا منذ فترة ليست بالقصيرة يتعرضون للمضايقات ويتلقون معاملة مهينة محبطة مجحفة ومثبطة للعزائم، ويتم معاقبتهم جنائيا بالغرامة أو الحبس لأبسط الأسباب، وحيث إنني لا أريد أن أطلق التهم جزافًا؛ فإنني سأسند ما أقول (وباختصار شديد تجنبًا للاستطراد) إلى واقعتين أو حالتين فقط من الحالات الكثيرة المماثلة؛ فقد تم استدعاء رئيس وأمين سر أحد الأندية من قبل الوزارة المعنية، وجرى التحقيق معهما واستجوابهما وأخذ أقوالهما ثم تمت إحالة ملفهما إلى النيابة بجريمة التأخر لبضعة أيام عن تقديم صورة من محضر اجتماع الجمعية العامة للنادي، وصدر بحق كل منهما أمر جنائي بدفع غرامة 50 دينارًا أو الإحالة لعدالة المحكمة! ونتيجة لذلك قدم أعضاء مجلس الإدارة وعدد من أعضاء النادي استقالتهم احتجاجًا على هذا الأسلوب المهين بحق من يعمل لخدمة المجتمع.
والحالة الثانية حدثت قبل أيام، فقد رفضت الوزراة ذاتها طلبًا لعقد اجتماع الجمعية العمومية للجمعية البحرينية الهندية لانتخاب مجلس إدارتها الجديد، وقامت الوزارة بشطب اسم أحد المرشحين من رجال الأعمال الهنود البارزين دون إبداء الأسباب! هذه الأساليب الجارحة تؤدي بكل وضوح إلى إحراج وإرهاب المتطوعين وإخافتهم، وتجعلهم يفرون من العمل التطوعي ويبتعدون عن أداء دورهم تجاه المجتمع.
وبالنسبة للجمعيات والمؤسسات الجديدة، فإن الأجهزة التنفيذية المعنية تقوم بتمديد وتطويل وتعقيد إجراءات تسجيلها، والتشدد في تطبيق هذه الإجراءات واستحداث مزيد منها ومن المتطلبات الأخرى، كما تعددت جهات المراجعة والمتابعة، بحيث أدى كل ذلك بالنتيجة إلى إعاقة نموها وتوسعها وتطورها وحرمان المجتمع من عطائها ومساهماتها.
وعندما أقول ذلك فإنني أضم صوتي إلى صوت المنتقدين، وأدعم ما أقوله هنا بتجربة شخصية، فإنني ما زلت ومنذ أكثر من ثلاث سنوات أحاول مع عدد من المؤسسين تسجيل جمعيتين؛ الأولى “جمعية خريجي الجامعات الهندية” التي تهدف إلى مساعدة الطلبة البحرينيين الراغبين في الدراسة في الهند والسعي لتذليل العقبات وحل المشكلات التي يواجهونها هناك، وهذا الطلب ما يزال معلقا.
والثانية “الاتحاد العالمي لمنظمات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة (اليونيسمو)”، الذي نجح المؤسسون البحرينيون في إقناع باقي المؤسسين من قارات العالم الست على اختيار البحرين مقرًا لها بدلًا من سويسرا، وقد تم رفض الطلب مؤخرًا بعد هذه المدة وبعد أن تنقل بين عدد من الوزارات، وليس لأي من هاتين الجمعيتين كما هو واضح أي أغراض أو أهداف سياسية. فبعد أن تقدم المؤسسون بطلب التسجيل وجدوا أنفسهم في دوامة بين مختلف الجهات الرسمية التي طلبت مزيدا من الأوراق والمستندات، والشطب والتعديل والتوضيح، واستلزم الأمر إرسال رسائل وإجراء اتصالات ومتابعة الموضوع من جهة إلى أخرى ومن وزارة إلى أخرى؛ ولكن دون جدوى!
وأحب أن أؤكد للمتسائلين والمنتقدين والمراقبين والمتربصين أن هذه ليست سياسة الدولة أو توجيهات قيادتها، وإنما هي اجتهادات من الموظفين المعنيين؛ “وما كل مجتهد مصيب”، ومن تجربتي السابقة على رأس وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وهي الجهة التي كانت مسؤولة عن الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، ولأكثر من سبع سنوات شهدت خلالها إرساء وإطلاق البرنامج الإصلاحي لصاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه؛ والذي جعل من تأسيس ونمو مؤسسات المجتمع المدني أهم أركان وقواعد النظام الديمقراطي الذي يتطلع جلالته إلى تحقيقه، حيث تسود قيم التعددية والحرية والانفتاح والعدالة والمسؤولية الاجتماعية.
هذه التصرفات مناهضة ومناقضة لتوجيهات القيادة، ومخالفة لميثاق العمل الوطني وللدستور نصًا وروحًا، ومعرقلة لتحقيق التنمية المستدامة التي تعد مؤسسات المجتمع المدني أهم قواعدها ومحاورها وشركائها.
لقد ظلت الدولة وحدها مشكورة تتحمل أعباء التنمية، ووضعت على عاتقها توفير احتياجات المواطن كافة، وأصبح الفكر الرعائي هو المسيطر، وصار المواطن يتوقع الحصول على كل شيء من الدولة؛ وهنا يبرز دور مؤسسات المجتمع المدني، وهو تحمل الكثير من الأعباء والمسؤوليات، وتصبح الرديف والمساند والشريك والمكمل لدور الدولة ومؤسساتها، ولا نبالغ إذا قلنا إن البحرين كانت من أوائل الدول في المنطقة التي أدركت هذه الحقيقة؛ فأصبح للبحرين علاقة طويلة وقصة جميلة مع مؤسسات المجتمع المدني، فقد كان لها الأسبقية في المنطقة في تأسيس الجمعيات الثقافية والاجتماعية والخيرية والأندية الاجتماعية والرياضية، وانتعشت فيها الجمعيات المهنية وأصبح لكل هذه المؤسسات دور محسوس وملموس في الارتقاء بمستوى الأداء الثقافي والرياضي والاجتماعي والمهني في المجتمع، وعملت هذه الجمعيات على الارتقاء بمستوى المهن وحماية حقوق ومصالح أعضائها مثل جمعية الأطباء وجمعية المهندسين وجمعية المحامين وغيرها.
وبعد إطلاق البرنامج الإصلاحي لصاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه تلقت الوزارة المعنية عددا كبيرا من الطلبات لتأسيس جمعيات ومؤسسات مدنية أخرى، بما فيها الجمعيات السياسية، وكانت الدولة تسهل وتشجع قيام هذه المؤسسات التي كان يتم تسجيلها وإشهارها في غضون أيام وبكل سهولة ويسر.
إلا أن رياح ما سمي بالربيع العربي التي هبت بكل قسوة وقوة مع إطلالة العام 2011 كشفت عن قيام جهات وأطراف مختلفة داخلية وخارجية باختراق بعض من هذه الجمعيات والتسلل إليها بأجندات وأغراض تختلف وتتعارض مع أهداف هذه الجمعيات ومع الأنظمة والقوانين ومع سياسة الدولة ومصلحة الوطن وسلامة المجتمع، فاضطرت الجهات المعنية للأسف الشديد إلى وقف نشاط عدد محدود منها ووضع الروادع والضوابط لمنع انحراف جمعياتنا ومؤسساتنا المجتمعية عن أهدافها الحقيقية النبيلة المشروعة.
لقد تركنا خلفنا أطلال وخرائب ما سمي بالربيع العربي، وتجاوزنا بسلام تلك المرحلة القاسية بفضل حكمة وحنكة قيادتنا الرشيدة، ونحن نعيش الآن مرحلة من التعافي والانتعاش والأمل والثقة والروح الإيجابية، ولا يجب أن نظل ضحايا وأسرى لكوابيس وأضغاث تلك الفترة فنخنق جمعياتنا ومؤسساتنا المدنية ونعاقب ونلاحق بالعصي المتطوعين والقائمين عليها فينطبق علينا المثل القائل: “الملدوغ من الحية يخاف من الحبل”.