أسطورة جلجامش... والبحث عن الخلود في دلمون الطاهرة
بقلم : عبد النبي الشعلة
في مدينة بومباي الهندية الصاخبة التي تسمى الآن مومباي، وفي العام 1969، في فترة انتظاري بدء العام الدراسي للجامعة قررت، أو بالأحرى وجدت نفسي مضطرا للالتحاق بدورة لتعلم اللغة الإنجليزية أو الارتقاء بالقدر المتواضع الذي كنت أعرفه منها في ذلك الوقت.
نصحني الإنسان الطيب المرحوم فيصل العيسى الجناعي، الذي كان حينها عميد السلك القنصلي وقنصل عام دولة الكويت في بومباي، بالالتحاق بالدروس الخصوصية التي يقدمها البروفسور “جِنا زيولا”.
البرفسور جنا هندي “بارسي”، أي من الطائفة الزرادشتية أو المجوسية التي كان موطنها الأصلي بلاد فارس، وبعد أن خضعت فارس للحكم الإسلامي بعد القضاء على الدولة الساسانية في العام 644م، أسلمت الغالبية العظمى من الفرس ونزح الكثير ممن تمسك بدينه إلى شمال إيران، ثم إلى جزيرة هرمز وأخيرًا إلى الهند خلال القرنين الثامن والعاشر الميلادي، وفي الهند أسسوا جالية عرفت باسم البارسيون بمعنى الفارسيون.
وإبان الحكم البريطاني للهند كان والد جنا يملك ويدير مدرسة خاصة عريقة في قلب مدينة بومباي في وسط محيط المؤسسات الحكومية والجامعات ودور النشر ومقار الشركات الكبرى ومراكز التسوق البريطانية الراقية، المدرسة تسمى “مدرسة فورت الإعدادية العليا” وتشغل طابقين من مبنى كبير بني على الطراز المعماري البريطاني أو الفكتوري تحديدا، مثل كل المباني في تلك المنطقة، وتطل المدرسة على محطة “الملكة فيكتوريا” المركزية للقطارات بمنطقة “فورت”، وقد ورث هو وأخوه سايروس المدرسة بعد وفاة والدهما.
كان جنا يبلغ من العمر وقتها 65 عاما، ولم يتزوج قط، وكان شخصًا دائم العبوس والاستياء والتذمر، كثير التحدث بحرقة ومرارة عن الظلم الذي لحق به وبأخيه عندما قامت الحكومة الهندية بتأميم المدارس والجامعات الخاصة بعد رحيل الإنجليز، ما جعله يتحول من مالك للمدرسة إلى موظف فيها يتقاضى مرتبًا “هزيلا” ويجعله في حاجة ماسة إلى تقديم دروس خصوصية كما كان يقول ويكرر.
وإضافة إلى ذلك فقد كان جنا يحمل أثقالًا من اليأس والحزن والأسى تعود إلى القرن الثامن الميلادي عندما اضطر أجداده إلى النزوح من وطنهم واللجوء إلى الهند؛ كل ذلك جعل منه إنسانًا لا يشعر بأي صلة بوطنه الأصلي، ولا أي انتماء للبلد الذي يعيش فيه، ويقول بلوعة وألم إنه يحمل جنسية لكن ليس لديه وطن.. عبارة ثقيلة على القلب والوجدان، فما أصعب على النفس أن يفقد الإنسان انتماءه وحبه وولاءه وارتباطه بوطنه.
ولم يكن جنا متدينًا، لكنه كان فخورًا بانتمائه الديني وبإيمانه بأن الديانة الزرادشتية هي منبع التوحيد وليس اليهودية كما يعتقد كثيرون، فقد اعتنق اليهود عقيدة التوحيد من الدين الزرادشتي عندما كانوا في بابل بعد أن أسرهم الامبراطور البابلي نبوخذنصر الكلداني في العام 596 ق.م. فيما هو معروف تاريخيًا بـ “السبي البابلي”؛ وكان جنا يقول إن أجداده أول من آمن بالتوحيد وبوحدانية الإله “أهورامزدا”.
جنا كان أيضًا عميق الإيمان والقناعة بأن الفرس هم أساس العرق الآري، وأنهم أنقى وأنبل وأشجع الأعراق، وقد تخرج جنا من أرقى الجامعات البريطانية، وأصبح مغرمًا بالفلسفة الجدلية، وصار كثير القراءة عالي الثقافة يجيد التحدث بعدد من اللغات؛ منها العربية والفارسية. يكرر دائمًا أن اللغة العربية هي أكثر لغة يحبها، وأن أمتع وقت يقضيه عندما يقرأ القرآن الكريم؛ ثم يتساءل بلغة عربية فصحى: كيف يمكن للإنسان أن يحب السيف الذي ذبحه؟ فبقوة القرآن الكريم تمكن العرب البدو المسلمون من الإجهاز على الإمبراطورية الفارسية، وقد كنت أراجع معه قراءته للقرآن الكريم وهو يراجع معي قراءتي باللغة الإنجليزية لكتاب “الأفاستا” وهو الكتاب المقدس عند الزرادشتيين.
ولكن ما علاقة كل هذا بأسطورة جلجامش؟
لقد انفرجت أسارير وجه البرفيسور جنا عندما كنت أتحدث معه باعتزاز وحماس عن وطني البحرين وتاريخها العريق الذي يمتد ويتزامن مع حضارة ما بين النهرين وحضارة وادي السند، وكان اسمها دلمون، وتوصف بأنها “الأرض الطاهرة المقدسة، أرض الخلود التي لا يوجد فيها مرض أو موت أو حزن” كما جاء في “ملحمة جلجامش” وهي الجزيرة التي لجأ إليها الملك السومري جلجامش بحثًا عن السلام والسكينة والاستقرار السرمدي، فالزرادشتيون يعتبرون أسطورة أو ملحمة جلجامش جزءًا من التراث الزرادشتي، وقد ارتبطت بعقيدتهم عندما كتبت قبل أكثر من 3500 سنة.
وتعتبر أسطورة جلجامش أقدم الأعمال الأدبية في تاريخ الإنسانية، وتتناول صراعات الإنسان مع نفسه ومع المغريات والقوى القاهرة، صراع الذات الحيوانية مع الذات الروحية، والصراع الأزلي بين الحق والباطل والخير والشر، وقد سبقت الإلياذة والأوديسة، وسبقت بقرون طويلة نزول الأديان السماوية ونصوصها المقدسة التي تضمنتها التوراة والانجيل والقرآن، وتروي الأسطورة مغامرات جلجامش ملك “أوروك” أحد ممالك ما بين النهرين، وكان ملكًا قويا، ولد من أم إله وأب بشر، ولذلك وصفته الأسطورة بأن ثلثيه إله والثلث الباقي بشر؛ ولهذا فإنه لن يكون من الخالدين مثل الآلهة، كان جلجامش ملكًا قويا مستبدًا متسلطًا، وقد أجبر شعبه وسخّرهم لبناء سور ضخم حول أوروك العظيمة، لكنه ظل أسير الخوف والجزع من الموت، فعاش في صراع بين الفناء والخلود وصار همه الأكبر أن يكون من الخالدين.
فبدأ جلجامش رحلة البحث عن الخلود والحياة الأبدية السرمدية، وعرف عن إمكان الوصول إليها في جزيرة دلمون حيث توجد “زهرة الخلود” وحيث يعيش إنسان واحد يتمتع بالخلود، إنه “أتنوبشتم” النجار الفقير الذي كان قد بنى سفينة فأنقذته هو وزوجته من “الطوفان العظيم” الذي قذفت أمواجه به إلى “جزيرة الخلود” وأصبح يتمتع بحياة أبدية بحماية الآلهة التي أعلنت أن أتنوبشتم “لم يكن قبل الآن سوى بشر، ولكن منذ الآن سيكون مثلنا نحن الآلهة، وسيعيش بعيدًا عند فم الأنهار في مدينة دلمون”.
ركب جلجامش البحر، في رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر والصعاب ووصل إلى دلمون والتقى أوتنوبشتم الذي نصحه بالبحث عن “زهرة الخلود” في قاع البحر المحيط بالجزيرة.
تمكن جلجامش من الحصول على زهرة الخلود من قاع البحر، وقرر أن يأخذها معه إلى أوروك ليجربها أولًا على الطاعنين في السن هناك قبل أن يتناولها، وفي طريق عودته، وعندما كان يغتسل في النهر تمكنت إحدى الأفاعي من الوصول إلى الزهرة والتهامها، واضطر جلجامش إلى مواصلة رحلة العودة إلى أوروك بعد أن فقد الزهرة واستسلم لإنسانيته وأدرك أن الخلود معضلة أزلية، وأن الحياة الأبدية التي يسعى في أثرها لن ينالها أبدا، وأن عليه أن يستمتع بما تبقى له من الحياة بدلًا من أن يقضيه في البحث عن الخلود.
هنا قال البروفسور جنا إن الملحمة تنتهي عندما اقترب جلجامش من مدينته أوروك ورأى سورها العظيم، الذي كان قد بناه من قبل، يقف شامخا حولها يحميها ويحمي أهلها من كل المخاطر، فتوصل إلى قناعة بأن الأعمال والمنجزات المفيدة هي التي تعطي الخلود للإنسان، وأن الطريق الوحيد للخلود هو في العمل الصالح والعدل والبناء.
رحم الله القنصل العام لدولة الكويت في بومباي فيصل العيسى الجناعي، ورحم الله البروفسور جنا زيولا، وأسكنهما فسيح جناته.