بقلم : عبد النبي الشعلة
قلنا في الوقفة السابقة إن قرار تشكيل الحكومة الجديدة قبل ثلاثة أشهر جاء بدون أدنى شك موفّقًا من حيث التوقيت والمضمون، وحمل بين طياته الكثير من الدلالات والرسائل والمؤشرات الإيجابية الواضحة، التي تدعونا إلى الثقة والتفاؤل بأن قاطرة التنمية والتطوير والإصلاح ما زالت منطلقة، رغم ما يعترض سبيلها من معوقات وتحديات.
واليوم فإننا نقف على أبواب الانتخابات النيابية والبلدية التي ستجرى في شهر نوفمبر المقبل، وقد تمكنّا من تحقيق الكثير من المكتسبات والإنجازات التي يشهد ويشيد بها الجميع، رغم ما واجهناه من صعوبات وعراقيل؛ إلا أنه في المقابل ما يزال لدينا الكثير من الطموحات والتطلعات التي نصبو إلى بلوغها وتحقيقها، وما يزال أمامنا الكثير من التحديات والأخطار التي تفرضها علينا بشكل أساسي المتغيرات والصراعات الإقليمية والدولية التي تلقي بظلالها على المشهد الوطني وتعوق انطلاقنا نحو تحقيق المزيد من تلك المكتسبات والإنجازات، وتضع على كاهلنا مسؤولية وطنية تتطلب منا وتفرض علينا جميعًا المحافظة على هويتنا ولحمتنا الوطنية والتشبث بروح التفاؤل والحرص على التعاون والتآزر ونبذ الشقاق والفرقة والتصدي لمحاولات شق صفنا الوطني وبث الفتن فيما بيننا.
إننا، بكل تفاؤل وثقة سنخوض الانتخابات المقبلة في خضم واقع محلي وإقليمي وعالمي جديد، مع إدراكنا أننا سنظل كغيرنا من الشعوب والأمم نواجه الصعاب والتحديات، وكغيرنا من الشعوب والأمم أيضًا فإننا لا نعيش في “المدينة الفاضلة” فقد نرتكب بعض التجاوزات والأخطاء التي يجب محاسبة ومعاقبة مرتكبيها، وستبقى لدينا مشاكل وتعقيدات وقضايا داخلية ثبت خطأ وفشل البحث عن حلول لها في الخارج، فاستقرت قناعتنا على أننا سنتمكن من مواجهتها وعلاجها بتعاوننا وتآزرنا وتمسكنا بقيم التآخي والمحبة والتسامح والتعايش ونبذ الاصطفاف المذهبي أو القبلي، وترسيخ عزمنا على عدم السماح للإملاءات والتدخلات الخارجية بالتسلل إلى شؤوننا الداخلية، أو السماح لمسوِّقي الأوهام وسماسرة الشعارات البالية المستهلكة والخطب العتيقة المستوردة للمتاجرة بقضايانا والرقص فوق جراحاتنا، وأن لا يغيب عن أبصارنا وبصائرنا وأسماعنا الأنين الذي ما يزال ينبعث من الدمار والمجازر والانهيارات ومن تحت الأنقاض في بيروت وبغداد وصنعاء ودمشق وغيرها، ولا عن آلام ومعانات أشقائنا هناك الذين صدّقوا وانخدعوا بمثل تلك الشعارات والخطب.
إن الواقع المحلي والإقليمي والدولي، وما قامت به الدولة من مبادرات أدّت إلى إجهاض أو تقلص نشاط المعارضة وتراجع حدة وشدة خطابها، وإن ما يوصف بالاختلاف والانشقاق في صفوفها هو في الحقيقة ناتج عن انسحاب عدد من أقطابها من دائرة التشدد والتعنت وانتقالهم إلى أحضان الواقعية والعقلانية، وانضمام عدد منهم إلى الصفوف الوطنية المطالبة بالإصلاح والداعمة لبرامج الإصلاح والتنمية والتطور التي أرساها جلالة الملك حفظه الله ورعاه منذ أكثر من عشرين سنة.
إن هذا المشهد الوطني أدى بدوره إلى توسع رقعة الأمل في الانفراج الكامل وعودة باقي عناصر المعارضة المسؤولة وانضمامها إلى السواعد الوطنية الرافعة لدعائم المستقبل والدافعة لقاطرة الإصلاح والتنمية؛ فصدرُ الوطن سيبقى مفتوحًا لهم وأيدي قادته ستظل ممدودة إليهم، ولا غرابة في ذلك، إذ لا يجب أن يغيب عن أذهاننا في هذا المقام أن البرنامج الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك قبل أكثر من 20 عامًا كما ذكرنا ارتكز أساسًا على إدماج وإشراك المعارضة في عملية الإصلاح وإدارة شؤون الدولة حسب المعايير الديمقراطية، فتم فتح الأبواب للمعارضين في الخارج للعودة دون قيود أو شروط مسبقة، وأنيط بعدد منهم مناصب إدارية عليا في الدولة؛ وفي مرحلة لاحقة أسندت إلى أحد أبرز رموزها حقيبة وزارية مهمة، وعُرض على رمز آخر حقيبة وزارية أخرى أكثر أهمية، لكنه اعتذر عن ذلك وفضل المساهمة في البناء الوطني عبر السلطة الخامسة، كما تم تبييض السجون، والسماح بتشكيل الأحزاب السياسية تحت مسمى “جمعيات سياسية”، وتشجيع تأسيس الجمعيات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى لتكون كما هو معروف أعمدة ودعائم للنظام الديمقراطي، وقد تم في الوقت ذاته صوغ “ميثاق العمل الوطني” وعرضه على الشعب في استفتاء عام حصل من خلاله على موافقة 98.4 % من أصواتهم، وصدر على أساسه دستور 2002، وسار ركب العمل الوطني بعد ذلك لعشر سنوات بانتظام ضمن التموجات الطبيعية لأي حراك سياسي، وصار المعارضون جزءًا من النظام السياسي يمارسون نشاطهم من خلال مؤسسات قانونية، كما صار لبعضهم مطالب ومواقف وآراء مرتفعة تختلف عن الآخرين وهو أمر طبيعي ومتوقع، واستمرت بلادنا تنعم بالأمن والسلام والاستقرار وتسير نحو التطور والازدهار.
إلى أن هبّت علينا أعاصير ما سُمِّي بالربيع العربي في العام 2011 فكانت الطامة أو الكارثة التي ألمت بالمشهد الوطني بعد أن نُصبت المشانق في دوار مجلس التعاون، وارتفعت الأصوات المنادية بإسقاط النظام واستبداله بالنظام الجمهوري الإسلامي بنسخته الخمينية.
إن هذه الوقائع بحلوها ومرها، وبدروسها وعبرها وتلك الأحاسيس والآمال صارت تشكل المشهد الوطني الذي نعيشه اليوم، والذي انعكس في عدة مظاهر وتجليات، من بينها الإقبال المبكر والملحوظ، وتزايد أعداد المترشحين للانتخابات المقبلة في كافة مدن وقرى البحرين واشتداد المنافسة بينهم؛ وهو أمر يعكس بدوره مستوى الوعي والنضج السياسي الذي بلغه شعب البحرين، ومدى قناعته وثقته وتمسكه بالمشروع الإصلاحي لجلالة الملك المرتكز أيضًا على قواعد التدرج والتطوير وبناء وتدعيم الممارسات والمؤسسات الدستورية واحترامها واستمرار عملية التطوير السياسي من خلالها وفي إطار النظام الملكي الدستوري.
وانطلاقا من هذا المشهد؛ فقد بات علينا الاستمرار في تعزيز ثقتنا بأنفسنا، وترسيخ تفاؤلنا، والتمسك بآمالنا وتطلعاتنا وطموحاتنا، والنظر إلى المستقبل وإلى الأمام أكثر من النظر إلى الوراء وإلى الماضي، وعلينا التفاعل والانخراط في العملية السياسية الوطنية من خلال مؤسساتنا الدستورية، والمشاركة في الانتخابات المقبلة بكل حيوية وحماس، وعلينا أن لا نصغي أو نلتفت إلى دعوات مقاطعة الانتخابات؛ فالمقاطعة هي سلاح الضعفاء والعاجزين.