بقلم : عبدالنبي الشعلة
أهداني مشكورًا الأخ العزيز عادل بن عبدالله فخرو نسخة من كتاب قيم كتبه باللغة الإنجليزية، بعنوان “عائلة فخرو في البحرين.. تجار ومصلحون” وقد وُفق الكاتب في اختيار العنوان؛ فعائلة فخرو من بين أبرز العوائل البحرينية العريقة التي ساهمت بفاعلية، منذ فجر القرن التاسع عشر في نهضة وتطور البحرين وتقدمها، وقد تميزت عن غيرها من العوائل في أن عطاءها ومساهماتها لم تنحصر في المجال التجاري والاقتصادي، بل تمددت وامتدت إلى مختلف الأوجه والمجالات والأنشطة؛ فإلى جانب أدوارهم ومساهماتهم في ميادين التجارة والاقتصاد، فإن عطاءهم وإسهاماتهم غطت مجالات السياسة بفروعها الحركية والفكرية والتشريعية والإدارية العليا، والتعليم، والطب، والمحاسبة والتدقيق، والثقافة، والفكر. لقد كان لأعلام هذه العائلة الكريمة منذ البداية التزام عميق بقضيتي التعليم والإصلاح في المجتمع، وتمسك حازم بالولاء والإخلاص للوطن وقيادته مع عدم التردد في إبداء النصح والنقد البناء عند الحاجة، وكان لهم دور ملحوظ ومحسوس في مختلف الأنشطة الاجتماعية والخيرية والتطوعية وضمن فعاليات مؤسسات المجتمع المدني، من بينها تولي أربعة من أعمدتهم رئاسة مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة البحرين في فترات مختلفة، كان آخرهم الدكتور عصام بن عبدالله فخرو شقيق مؤلف الكتاب، واليوم فإن ابن المؤلف، الوزير الشاب عبدالله بن عادل فخرو يتولى مسؤولية وزارة الصناعة والتجارة، كما أن شقيقه الأكبر الدكتور حسن بن عبدالله فخرو وزير الصناعة والتجارة الأسبق يتقلد الآن منصب مستشار جلالة الملك المعظم للشؤون الاقتصادية. وقد عُين جمال بن محمد فخرو عضوًا بمجلس الشورى عند تأسيسه في العام 1992 وحافظ على عضويته منذ ذلك العام إلى أن أصبح اليوم نائبًا أول لرئيس المجلس.
وإنني أحمد الله الذي مد في عمري ومكنني من التقرب والتعرف على عدد من أقطابهم، ممن يمكن وصفهم بالـرعيل الأوسط من هذه العائلة المعطاء؛ فلا تزال ذاكرة الصبا تحتفظ بصورة المرحوم محمد بن عبدالرحمن فخرو والد المربي والمفكر الدكتور علي بن محمد فخرو، الذي كان بدوره أول جراح بحريني وأول وزير للصحة، ثم وزيرًا للتربية والتعليم، ثم اختتم رحلة عطائه للدولة بتعيينه سفيرًا للبحرين في فرنسا.
وقد تميز المرحوم محمد بن عبدالرحمن فخرو بلطف معشره ودماثة خلقه وتواضعه، ورأيت بأم عيني وأنا في سن الصبا حرصه على التواصل مع الجميع بمختلف شرائحهم وأطيافهم، والاحتكاك والتنقل بين مختلف فعاليات ومكونات السوق التجاري، ملتزمًا في كل الأوقات بارتداء بشته وأناقة هندامه، وكان واسع الاطلاع والمعرفة والثقافة؛ ولذلك كان يلقب بـ “نص الدنيا” أي نصف الدنيا، بمعنى أن المعرفة والاطلاع والثقافة كانت مقسمة إلى قسمين؛ واحد منها من نصيبه، والنصف الآخر يتقاسمه كل سكان الدنيا؛ وهي مبالغة لطيفة تعكس تقدير وإدراك المجتمع لاطلاعه وثقافته، كما عرف عنه حرصه أيضًا على صب جل اهتمامه واستثماره في تربية وتعليم أبنائه؛ وقد نجح في ذلك أيما نجاح، وشاءت الأقدار أن يكون أعز وأقرب أصدقائي وزملائي في فترة الدراسة الجامعية في الهند ابنه خالد بن محمد فخرو، حيث كنا في بداية السبعينات من القرن الماضي ندرس في كلية “القديس زيفيرز” التابعة لجامعة مومباي، وظلت أواصر الصداقة والمودة ممتدة معه حتى الآن ومع إخوته الآخرين، الذين ورثوا عن أبيهم كل خصاله الحميدة بما فيها الطيب ودماثة الخلق.
وذاكرة الصبا لا تزال محتفظة أيضا بمشاهد عديدة من شارع باب البحرين، عندما كانت الحركة التجارية متركزة في ذلك الشارع، وكان من بين أبرز المؤسسات أو الوجوه التجارية في شارع باب البحرين والد المؤلف المرحوم عبدالله بن يوسف فخرو أحد كبار تجار البحرين، الذي لم يسعفني الحظ للتعرف عليه بشكل أقرب؛ نظرًا لفارق السن أو ضياع الفرصة.
إلا أن ذاكرتي لا تزال محتفظة بصورته وهو واقف أمام متجره، فقد اعتاد، كما علمت، الخروج من مكتبه بين الحين والآخر والوقوف أمام باب “حفيزه” أو متجره ليحيي المارة ويستقبل زبائنه وعملاءه، وقد امتازت ملامح وجوه أقطاب آل فخرو كلهم بالوجاهة والوقار، إلا أن قسمات وملامح وجه عبدالله فخرو، كما صورته عدسة ذاكرتي اليافعة، تفردت بالجدية والحزم والصرامة، لكنه عندما يبتسم فإن أساريره تكشف عن مكنونه؛ إذ تتفتح وتشع منها مشاعر الود والسماحة والمحبة والطيب والإخلاص، وهي أسارير وملامح وقسمات ورثها ابناؤه منه.
وعلى الشارع نفسه، وعلى بعد خطوات فقط من متجر عبدالله فخرو يقع “حفيز” أو متجر أخيه المرحوم علي بن يوسف فخرو الذي ربطتني به علاقة وثيقة ولسنوات عديدة، خصوصا في تسعينات القرن الماضي أثناء توليه رئاسة مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة البحرين، حيث كنت عضوا في المجلس ذاته ونائبا ثانيا لرئيسه.
وذاكرة الصبا والشباب تعود بي أيضًا إلى منتصف عقد الستينات من القرن الماضي عندما كنت أتردد على مكتب العم بوشوقي؛ وعلى الرغم من صغر سني وقدري في ذلك، الوقت كان يستقبلني بكل حفاوة ويرحب بي ويتحدث معي ويأمر بتقديم القهوة لي.
وإلى جانب دوره وعطائه في ميادين التجارة والاقتصاد، فإن المرحوم علي بن يوسف فخرو تجسدت فيه قيم العلاقات الإنسانية، وكان معروف بأريحيّته وسخائه وكرمه حتى آخر أيام حياته؛ فكان مكتبه وبيته لا يخلوان من الضيوف والزوار، وقد خصص “عبيد” أحد موظفيه، للعناية بضيوفه وزواره في المكتب وتقديم الشاي والقهوة العربية لهم، كما أنه كان يحرص على تلبية الدعوات التي يتلقاها ومشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم، وزيارة المرضى ومجالس عزاء المتوفين لمواساة أهاليهم مهما كان مركز المتوفى أو مكانته أو انتماؤه الديني أو المذهبي.
وخلال فترة صحبتي وعملي مع المرحوم علي بن يوسف فخرو عندما كان رئيسا لمجلس إدارة الغرفة، سافرت معه كثيرا ضمن وفود الغرفة للمشاركة في الاجتماعات والمنتديات والمؤتمرات أو حضور المعارض أو لغرض الترويج للبحرين في الخارج، ووجدت فيه خصائص إدارية متميزة، أهمها استعداده لتفويض نوابه ومساعديه لأداء المهام والمسؤوليات الإدارية المنوطة بالرئاسة، واهتمامه بالصورة الأكبر والأوسع للأمور والقضايا على عكس الرئيس الذي سبقه، والذي كان من عائلة فخرو أيضًا؛ ابن أخيه المرحوم قاسم بن أحمد فخرو، الذي عملت معه أيضًا عضوا في مجلس إدارة الغرفة، اذ كان رحمه الله شديد الإيمان بأهمية التمسك بزمام المسؤولية وتقديسها، وكان يهتم بأدق المعلومات والتفاصيل، ولديه طاقة جبارة للعمل والإنجاز والمتابعة، وقدرة هائلة على التعبير والنقاش والحوار.
لكنني للأسف الشديد لم ألتق بأحد أبرز وجوه آل فخرو المرحوم أحمد بن يوسف فخرو، الذي رأس مجلس إدارة الغرفة لعدة سنوات في ستينات القرن الماضي، لقد سمعت الكثير عن شمائله وخصاله وقوة شخصيته ونفوذه ومكانته البارزة، وعن فطنته وحنكته التجارية ما يضعه في مقدمة الفعاليات التجارية البارزة، وهو لا يشذ عن باقي أعمدة آل فخرو في إسهاماته الوطنية وحرصه على العطاء والإصلاح، مخلفًا وراءه إرثًا زاخرًا وسمعة طيبة حافظت عليها الأسرة، ورعاها ابنه الأكبر قاسم فخرو،
إن عنوان الكتاب الذي كتبه عادل فخرو كان لافتًا جذابًا ومؤثرًا، بحيث جعلني أكتب ما ورد أعلاه قبل أن أقرأ الكتاب نفسه، وبعد أن قرأته وجدت أن ما كتبت صار مجرد شهادة فقيرة ناقصة بحق هذه الأسرة الكريمة وعطائها وإنجازاتها، جاءت من واقع مشاهداتي واحتكاكي وتجاربي مع عدد غير قليل من أفرادها، كما جاءت داعمة ومؤكدة لصحة ودقة ما ذكره المؤلف في كتابه.
وبعد قراءتي للكتاب لم أحاول أن أضيف أو أعيد صياغة أي جزء مما كتبته تجنبًا للمزيد من الاستطالة والاستطراد، بعد أن استنفدتُ المساحة المتاحة ولم يعد بإمكاني استعراض محتواه بالشكل اللائق ولو باختصار شديد؛ ولذلك فإنني أكتفي بنصيحة قرائي ومتابعيَّ بأن يقرأوا هذا الكتاب القيم الذي يعمل الآن مؤلفه على ترجمته إلى اللغة العربية.