اول المناضلين الذين وطأة اقدامهم ارض ظفار .. وبقى عروبيا حتى وفاته
قاد عدد من الاضرابات العمالية وسجن لاكثر من مرة في سجون الاستعمار البريطاني
في بادرة إنسانية جميلة ونادرة والرد للمعروف ، رفعت احد المؤسسات الفلسطينية ( مشروع التكافل الاسري مع الشعب الفلسطيني - غزة ) وكذلك خمسة أطفال فلسطينين رسالة تعزية للبحرين ولذوي المناضل الوطني عبد المنعم الشيراوي الذي كفلهم خلال السنوات الماضية بارسال مبالغ نقدية شهرية منتظمة لهم ، والذي غادرنا السبت الماضي ( الأول من يوليو 2023 ) تاركا تاريخ نضالي طويل وتفاني ونقاء وطيبة لاهل البحرين واهل فلسطين واهل ظفار ، والعالم العربي .
عبد المنعم الشيراوي ( أبا فهد ) ، الذي يعتبر من احد المناضلين الأوائل الذين انضموا الى حركة القومين العرب ، وساهم في العديد من الفعاليات النضالية داخل البحرين وفي المنطقة ، في فلسطين وظفار والبحرين ، حيث كان اول بحريني زار المناطق المحررة من قبل الثورة ( الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي ) في ظفار ومارس عدة نضالات مع الثورة الفلسطينية ، وقاد عدة إضرابات في البحرين لتحقيق مطالب عمالية ،،،
وترأس اكبر شركة مبيعات لمنتجاب المنيوم البحرين ( بالكو ) عندما عاد للبلاد وساهم في التنمية التي نعمت بها البحرين بعد الاستقلال .
في لقاء أجرته الكاتبة باسمة القصاب ونشرته في كتابها " حق الحلم " عن حياته النضالية التي استمرت اكثر من 61 عاما تقريبا ، الطريق التي لا تصل بك ليست تُخسِرك، بل تعلِّمك. كنت لا أزال طالباً في المرحلة الثانوية حين التحقت بحركة القوميين العرب في البحرين عام 1962. انحدر من أسرة منخرطة في الشأن العام، والدي محمد الشيراوي أحد قادة هيئة الاتحاد الوطني التي قادت نضال البحرينيين ضد الاستعمار البريطاني 1954- 1956. تخرجت من الثانوية العامة عام 1964 وتم اعتقالي بعد انتهاء الامتحانات بأسبوعين.
بقيت في المعتقل الانفرادي بين أغسطس/ آب 1964 ويناير 1966، بعدها توجهت إلى القاهرة للالتحاق بكلية الطب بجامعة عين شمس حيث تم قبولي قبل منذ العام 1964. كانت السنة قد انتصفت وفاتني الكثير، لم تكن طريقي سهلة للنجاح. أعدت العام الدراسي..
في القاهرة أعدت اتصالي بالفرع الطلابي لتنظيم حركة القوميين العرب. كان آخر اتصال لي بتيار القوميين العرب في البحرين قبل اعتقالي في 1964، حتى التقيت بمسؤولي التنظيمي الأخ عبدالله المعاودة في سجن جزيرة جدة عند اعتقاله في انتفاضة 1965.
رغم أن توجهاتنا الفكرية ما زالت محدودة آنذاك، إلا أنه بدأت في تلك الفترة إرهاصات وبذور التوجه اليساري خصوصاً داخل الكادر التنظيمي في البحرين وعمان. لم يكن هناك استيعاب للنظرية أو قدرات تحليلية قد تساهم في تعميق الفكر أو تأصيله. في القاهرة تركز نشاطنا على العمل النقابي الطلابي من خلال رابطة طلبة البحرين. ساهمنا مع الاتحادات الطلابية الأخرى، اتحاد طلبة فلسطين على وجه الخصوص. أذكر أني مثلت البحرين في اجتماعات اتحاد الطلاب العالمي الذي عقد في القاهرة وغزة في صيف 1966.
في الربع الأول من عام 1969 عقد المؤتمر الطلابي للتنظيم في بيروت. تم انتخابي والرفيق المرحوم خليفة بوراشد والرفيق الشهيد راشد علي والرفيق أحمد البريكي لتمثيل التنظيم الطلابي الحزبي بالقاهرة. كان البريكي انضم لتنظيم القاهرة بعد رجوعه من الدول الاشتراكية.
خلال المؤتمر، سيبدو واضحا أن ثمة توجهاً يحاول طرق الخيار اليساري داخل الحركة القومية. وأن ثمة اختلافاً في وجهات النظر حول منهجية وأسلوب العمل النقابي الطلابي للكادر التنظيمي. إلى جانب أن قيادات التنظيم كانت لها قناعات معينة حول عناصر الكادر التنظيمي بالقاهرة. وسيصدر إثر ذلك قرار من المكتب الطلابي، بفصل بعض الطلاب من كادر القاهرة.
بعد العودة، اتصل بي أحد أعضاء المكتب الطلابي للتفرغ لإعادة تنظيم القاهرة. إلا إنني رأيت في قبول ذلك نوعا من طعن الرفاق الذين تم فصلهم والذين كنت أقرب لمعرفة معدنهم ووطنيتهم وإخلاصهم.
في الوقت نفسه، تعرفت إلى الرفيق أحمد عبدالصمد الذي استلم مكتب القاهرة بعد مؤتمر حمرين. وهو المؤتمر الذي تم على إثره تم تغيير تسمية "جبهة تحرير ظفار" وتوجهاتها ومرجعياتها وأيدلوجيتها. عقدت العزم على التوجه إلى ظفار لمساعدة الرفاق. كانت الحاجة شديدة للكادر السياسي في صفوف الجبهة هناك.
في العام 1969 أيضاً، أصبت بحمى روماتيزمية، احتجت معها إلى استخدام إبر بنسلين بشكل مستمر حتى أستطيع الاتكاء على ركبي. هكذا ذهبت إلى ظفار بركبة ملتهبة تتحيّن لي.
ركوب المنحدر .. والرحلة الى ظفار
غادرنا القاهرة على متن طائرة اليمدا بداية صيف 1969، يرافقني الرفاق محمد عوض السرج، وسعيد دبلان وعلي الرز ونبيل محاد وعلي سعيد والشهيد راشد علي وآخرين. توجهنا إلى عدن وبقينا هناك فترة محدودة، تلقينا خلالها بعض الدورات التدريبية، ثم ركبنا الطائرة متجهين إلى الغيضة عاصمة المحافظة السادسة. كان المطار أرضاً منبسطة يحيط بها سلك شائك وبوابة صغيرة من جانب واحد.
من الغيضة أنت على خصام مع الطرق المرصوفة. تختلف بك فرشات الطرق لا فراشاتها. تميد بك منعرجاتها وتمتد فيك، منذ الساعات الأولى ستدرك أنه قد تم إدخال أناس ليسوا مهيئين جسدياً للتعامل مع المنطقة الجبلية. نحن أبناء المدن المنبسطة بمساحاتها الصغيرة، المعتادون على الاستخدام الأقل لأرجلنا في الانتقال، الأكثر للسيارات المريحة، ها نحن الآن أمام مد بصري لا تصل أعيننا لنهايته، ولا لارتفاع جباله الشاهقة، لم تكن أجسادنا (المرفّهة) مهيأة للمسافات المفتوحة، ولا معدّة لمنحدرات الجبال، فضلاً عن قطعها مشفوعين بأحمالنا فوق أكتافنا.
كنت أول بحريني يطأ هذه المنطقة، وأول من دخل ظفار منهم. الطرق الصخرية لم يكن قد تم شقها بعد في الغيضة، ولا يوجد حينها سنبوك (قارب صيد صغير) يقطع المسافة نحو ظفار بحراً كما توافر لاحقاً، ولا ثمة سيارات للدفع الرباعي كما حظى بها من أتى بعدي في السنوات اللاحقة. لا شيء غير قدمك، هي قاربك وهي سيارتك، وهي ركبتك الملتهبة التي تتهددك. الطريق كلّه رهين قدمك وحدها.
بتنا ليلة واحدة وعاودنا السير في صباح اليوم الثاني إلى حوف. الوقت آلة لا تعمل. كل وقتك مقطوع لتصل الطريق بالطريق، طريق الثورة بطريق الجبل، هناك يجب أن تكون مستسلماً لما تستهلكه المسافات الطويلة والجبال، من ذروة وقتك ونهايات يومك.
سرنا من الغيظة إلى أطراف المحافظة السادسة. وصلنا معسكر الثورة الخاص بتدريب الكادر العسكري. حينها لم تكن التربية الفكرية طرحت بشكل كامل والتدريب العسكري بسيطاً. بقينا في حوف من أجل توزيع المهمات والاطلاع عليها واستلام السلاح. صار اسمي الحركي «جهاد سالم علي».
مرشد سياسي
كان الثوار خلال تلك الفترة قد أحرزوا نجاحاً كبيراً في الاستيلاء على معظم مناطق ظفار، وقد تم تقسيم ظفار إلى ثلاث مناطق عسكرية: المنطقة الشرقية (جبل سمحان)، والمنطقة الوسطى (جبال القرا)، والمنطقة الغربية (جبل القمر).
تم تعييني مرشداً سياسياً في ظفار الشرقية (جبل سمحان). صار علينا مواصلة التحرك نحو المنطقة الشرقية.
في اليوم الخامس غادرنا حوف نحو المحافظة السادسة، استغرق طريقنا إليها يومين آخرين. ثم من حوف عبرنا صعوداً الجبل المعروف باسم ضربة علي، حتى وصلنا مركز قيادة المنطقة، تطلب ذلك يومين جديدين من المشي المضني. عند اجتيازنا (ضربة علي)، كان لا بد من النزول للوادي والصعود منه بعد قرية ضلكوت الساحلية. لا يمكن لمن يشاهد منظرنا ونحن نعبر الجبال والوديان والطرق الوعرة الزلقة والأحراش، إلا ويستغرق في الضحك من شدة ما نحن فيه من معاناة الركوب والانحدار، الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لرفاقنا الظفاريين. أولئك المعدّة أجسادهم لمنحدرات الجبال. لا تعبأ منحدرات الجبال بأبناء المدن. أن تعجز ركبة أحدهم دون ركوبها. تأخذك الثورة إلى مغامرة لا نجاة لك منها. كانت ركبتي تعلن موتها في كل مرة، وأُلقنها حُلمي في كل مرة، تنهار بي، لكنها لا تستسلم للموت.
تعرضي للقصف
الجِمال هي الوسيلة الوحيدة لنقل المتاع. لم يكن قد تم استجلاب الحمير بعد، ولا اللنج. اشترتها الجبهة بعد تحرير (رخيوت) لنقل المؤن، لكن تم قصفها فيما بعد بصاروخ جو أرض، واستشهد على إثرها الرفيق محمد حبكوك أحد أعضاء القيادة.
في طريقنا من ظفار الغربية (جبل القمر) إلى ظفار الوسطى (جبال القرا)، نمر على منطقة المغسيل (وادي على البحر). هناك سيتم إنشاء جبهة (هوشي منّه) فيما بعد. لا توجد في هذه المنطقة أحراش مثل المنطقة الغربية والوسطى. المنطقة جبال صخرية جرداء. من السهل كشف المقاتلين واصطيادهم وهم يعبرون عليها.
في الأحوال العادية يخشى الإنسان طريق الأحراش الزلق، الوعر، والغامض. يفضل المساحات المكشوفة والممتدة بوضوح سافر. يظن أنها الأكثر سهولة والأكثر أماناً. لكن طريق المغامر لا تشبه طريق الإنسان العادي في الظرف العادي. الأكثر وضوحاً عند الإنسان العادي هو أكثر خطراً عند المقاتل. لا يمر الثوار في هذه المنطقة إلا بعد حلول الظلام. مشينا طوال الليل لأنه يجب أن نصل إلى أحراش المنطقة الوسطى قبل شروق الشمس حتى لا يتم كشفنا. بعد 6 ساعات من المشي فقدت وعيي بسبب ألم مفاصلي الذي أعلن عصيانه الكامل على كل جسدي. بقى معي الأخ سعيد دبلان حتى تمكنت من مواصلة المشي صباحاً. شعر بنا جيش العدو فقام بقصفنا، لكننا تمكنا من الوصول إلى الأحراش سالمين. توجهنا للداخل.
في جبل سمحان
بقيت في المنطقة الشرقية لمدة ثلاثة أشهر. يميز جبل سمحان أنه قمة منبسطة، مما أوجد كثافة سكانية مقارنة بالمنطقة الوسطى أو الغربية التي كانت أكثر وعورة.
المرشدون السياسيون يتواجدون في جميع المناطق. الثورة الجماهيرية بحاجة لتعبئة الجماهير في كل مكان وتثقيفها سياسياً وتدريبها عسكرياً، وقد تم تشكيل ميليشيات شعبية للدفاع المحلي، وهذه تعمل جنباً إلى جنب مع جيش التحرير الشعبي.
لا يخلو معسكر ثوري من قيادة: مرشد سياسي وقائد عسكري ونائب قائد. يتولّى هؤلاء الإشراف على تنفيذ البرامج السياسية والعسكرية وضبط الإدارة والإشراف على فصول محو الأمية. قوات جيش التحرير الشعبي تشارك في مهمات مدنية واجتماعية أخرى مثل مساعدة الفلاحين في الزراعة والري والحصاد وشق الطرق وغيرها. لديها برنامجها التدريبي والعسكري والتثقيفي صباحاً وفي المساء تعقد فصول محو الأمية وتشارك في المهمات المدنية المختلفة.
كنا نقوم بالتعليم عصراً في فصول محو الأمية، وإلقاء المحاضرات السياسية والتثقيفية على الناس. ومن بين مهماتي التفاعل مع سكان المنطقة والمليشيات الشعبية.
الدين والثورة في ظفار
الناس في المنطقة الشرقية أكثر استقراراً وأكثر تديناً من الأماكن الأخرى، ومنها بدأ التحريض ضد الجبهة والثورة. مجموعة يوسف بن علوي (وزير الخارجية الحالي) أعلنت الانفصال، اختارت المنطقة الشرقية (جبال سمحان) بسبب وجود الكثافة السكانية.
من خلال المليشيات الشعبية، تلقيت أنباء عن أنشطة تقوم بها جماعة من المنشقين، لترسخ عند الأهالي، فكرة أن الثورة ما هي إلا مدّ شيوعي واختراق يستهدف القضاء على الدين. ولأن الدين أكثر تجذراً في هذه المنطقة، فسوف تكون أكثر استعداداً للانقلاب على الثورة. بدا واضحاً أن حراكا تحشيدياً يراد به تحريف أهداف الثورة من أجل فك ارتباط الناس وخلخلة إيمانهم بها.
بادرتُ سريعاً بإيصال ذلك إلى سعود العنسي القائد العسكري للقطاع الشرقي، وارتأينا نحن الاثنين أنه يتحتم علينا العمل على تفنيد هذه التهمة من خلال الفعل، قررنا إظهار الجانب الديني بإقامة الصلاة أمام الأهالي في الأماكن التي نذهب إليها، والتخفيف من إظهار المبادئ الشيوعية، مقابل التركيز على أهداف الجبهة في مواجهة الاستعمار، وكان هدفنا من ذلك تحقيق انسجام اجتماعي وثقافي مع الأهالي. كنت متأثراً بتجربة بفيتنام أكثر، فهناك تمكن الثوار من الانسجام مع الجميع، ونجحوا في جعل أصحاب الديانة البوذية يساهمون معهم. اتفقنا على ذلك وبالفعل بدأنا بتنفيذه.
في إحدى الجلسات التي جمعتني في قرية جاذب، مع ليلى فخرو وعبد العزيز القاضي وهو أحد قيادات الثورة والمسؤول عن تدريب المرشدين العسكريين، أخبرت القاضي بما قمت به والعنسي في المنطقة، فهدّدني مازحاً بمحاكمتنا عسكرياً بتهمة خيانة المبادئ الثورية العلمانية.
أدركت أن وجودي في جبل سمحان غير مناسب بسبب الكثافة السكانية واللغة التي لم أكن متقناً لها. تجربتي هناك أقنعتني أننا بحاجة إلى عناصر أكثر من أبناء المنطقة نفسها. هناك كفاءات مركزة في المنطقة الغربية، لكن ليس ما يكفي منها في المنطقة الشرقية.
الضياع في صحراء الربع الخالي
في العودة من المنطقة الشرقية الى الوسطى (جبال القرا) ثم الى الغربية (جبل القمر)، كان الجيش يحاصر أغلب الطرق بما فيها الطريق الساحلي في المغسيل. القرار أن نعبر عن طريق المنطقة الجبلية من الشمال للوصول إلى المنطقة الغربية. عددنا قرابة 10 بيننا مجموعة من القيادة العامة.
كانت هذه أشدّ تجربة مررت بها في ظفار، فبعد يومين من المشي، نفد الماء وأضعنا الطريق، فبسبب الحصار أخذنا طريق فوق الجبال النجدية قريبة من صحراء الربع الخالي. الصحراء ممتدة أمامنا إلى ما لا نهاية، والبوصلة لا جهة لها. قلت سابقاً إن الطريق التي لا تصل بك تعلّمك. لكن الطريق التي تتوه بك تمتحنك. المحنة تروضك بقدر ما تختبرك. بقينا تائهين لمدة 3 أيام بلا ماء ولا طعام وسط هجير الصحراء، ووسط خطر انتشار الجيش في كل مكان. في اليوم الخامس وصل بنا الجوع والعطش أني اضطررت إلى شرب بولي. نعم لكم أن تصدّقوا. كان خياري الوحيد وقد تشققت شفتي من شدّة العطش، وعند وصولنا إلى أطراف المنطقة الغربية بدأنا في مضغ أوراق الأشجار.
مشروع ليلى
كنت في تنقل بين حوف والغربية حتى العام 1970. الرطوبة شديدة خصوصا في الخريف والتعب والإرهاق يشتد بك فأنت في حركة دائمة. عاودتني آلام الروماتيزم حتى نقلت إلى حوف على ظهر جمل، ومنها إلى العلاج في عدن الذي لم يكن سوى بعض الأطباء المتطوعين وأدوية بسيطة.
هناك التقيت الرفيقة ليلى فخرو. كانت في طريقها إلى ظفار قادمة من بيروت. سيكون نزولها هذا هو الأهم، ستعمل فيه على تأسيس مدارس الثورة. بقيتُ في عدن فترة للعلاج، وسبقتني ليلى بالنزول إلى ظفار، ونزلت بعدها. كان الرفاق حفيظ الغساني وأحمد حميدان موجودين في زيارة في ظفار في معسكر الثورة. هذه المرحلة بداية عودة علاقتي بالتنظيم الحزبي. عدت لحوف ومنها إلى الغربية، وكان مشروع ليلى فخرو قد بدأ في حوف. كانت ليلى مسؤولة عن التثقيف الفكري بالإضافة إلى محو الأمية.
بدأت الرفيقات في ظفار يصررن على التطوع. وبدأنا بتطبيق محو الأمية للمرأة في المنطقة الغربية حيث جبل القمر. اهتممت إلى جانب العمل الفكري والحراسة والدوريات، بدروس محو الأمية. كنا نقوم بالتدريس في مجموعات.
الغريب أنه في العام 1996 كنت ذاهباً إلى صلالة برفقة عائلتي، عندما استوقفني شاب وسألني بدهشة: جهاد؟ طالعته وقلت في خاطري، يوم كنت في ظفار، لن يزيد عمر هذا الشاب عن 8 سنوات، هل يعقل أن يعرفني؟ قال: كنت أحضر مع والدتي دروس محو الأمية في جبال القمر. كيف انحفرت هذه الصورة في عقل هذا الصبي كل هذا الزمن؟
دراستي المحدودة في الطب، مكنتني أن أقوم هناك بشيء من المعالجة مثل خياطة الجروح والتضميد. أذكر أن طفلاً أصابه والده برصاصة عن طريق الخطأ. كان يحاول تنظيف بندقيته فانفلتت رصاصة داخل الكهف وارتدت على الطفل وأصيب في الرأس إصابة سطحية. لم أملك الجرأة لمعالجة الأطفال. استخرجت الرصاصة لكن الخياطة قام بها شخص آخر.
العودة
بقيت في المنطقة الغربية أمارس نشاطي كمرشد سياسي ومسعف طبي. في بدايات عام 1970 زار المنطقة الغربية الرفيق أحمد الشملان. كان لقائي التنظيمي الأول به في مؤتمر المكتب الطلابي في بيروت. بقى الشملان معنا في المنطقة الغربية (جبال القمر) مشاركا في التثقيف السياسي والمحاضرات المسائية التي تحضرها الوحدة العسكرية (مقاتلين وقيادات وكادر سياسي).
عاد الروماتيزم من جديد يشاكل مفاصلي وأجزاء جسدي بعنف. فعدت إلى عدن مرة أخرى وإلى إمكانات العلاج المحدودة، وهناك التقيت سعيد سيف (عبدالرحمن النعيمي) ودار بيني وبينه نقاش حول التجربة. كانت لدي انتقادات على بعض الممارسات والأفكار، فاقترح النعيمي أن أساهم في موقع آخر. وحدد لي لجنة الاتصال في مكتب الاتصال بدبي.
كان المكتب مركزاً رئيسياً لتهريب السلاح والأشخاص لداخل عمان. وعلى أساسها غادرت إلى دبي. بداية وصولي حدث خلاف على قبول قرار عبدالرحمن النعيمي بتعييني، بعض الأعضاء غير موافقين على القرار. كان ذلك جزءا من الخلافات القديمة الموجودة بين تنظيم القاهرة وتنظيم بيروت. بقيت هناك فترة وظل نشاطي محدوداً حتى تم اعتقال الرفيق عيسى في المطار وهو في طريقه إلى بيروت، فاستعان بي الرفيق حمدان، خصوصاً أن التركة ثقيلة والكادر الحزبي محدودا. لم أقتنع بالعمل هناك. شعرت أن بقائي لا معنى له. عدت إلى البحرين.
بعد وفاة ليلى
وأنا أسترجع التجربة، أعتقد أن ليلى فخرو (هدى سالم) هي أكثر من ترك أثراً في ظفار وفي كل عمان. كلنا حملنا بنادق وكلنا شاركنا في الثورة. لكن لم نكن نمتلك مثل إصرارها العجيب، مثل نقائها الثوري، مثل روحها المسكونة بغيرها، مثل مشروعها النابض الذي تدين له كل عمان، مثل توجهها المنقطع لنشر التعليم، كل هذا ترك أثراً لا يمكن أن يمحوه أحد، ولا يمكن إلا أن يكون حضوراً بارزاً أقوى من البندقية في كثير من الأحيان. يؤلمني أنه في ذكراها السنوية، ابتعد الكثيرون عن دورها النضالي، ليلى ابنة الجبهة وابنة الحركة الثورية. لا يمكن محو الأثر الذي تركته كرفيقة وزميلة في عمان والخليج العربي. شعرت بأن هناك توجهاً لفصل تاريخ ليلى الثوري. أُظهرت ليلى وكأنها ابنة الذوات التي اهتمت بقضايا المحرومين والمرأة والفقراء من منطق الرحمة والتعاطف، وليس من منطلق ليلى ابنة المبادئ التي تجعلها لا تقبل أن تعيش الحياة إلا مثل هؤلاء. ليلى التي تكره الترف ولو كان بسيطاً.
كانت لدي رغبة لم أستطع البوح بها بعد وفاة ليلى، رغبة جامحة أن ألف جسد ليلى بأعلام الخليج العربي، فأثرها سيبقى معنا كما هي ليلى دائما وأبدا. مثل ليلى هي الطريق، أو سمها الطريق إلى الطريق إن شئت. ليلى طريق كلها. هي الطريق التي بقدر ما تتعلم منها، تصل.
قبل وفاته ،كان كثير التردد على ظفار وخصوصا صلالة لما له من علاقات ودية بقيت بعد انتهاء الثورة وبعد العفو السلطاني السامي على جميع المشاركين فيها ،،،
رحم الله الدكتور المناضل الإداري الخلوق عبد المنعم الشيراوي ، وحشره الله مع الشهداء والصديقين . آمين يارب كريم .. وسيبقى ذكراك محفورا في تاريخ هذه الأرض التي قدمت لها الكثير .