بقلم : عبيدلي العبيدلي
كان هذا المقال "القيادة في الحرب: كيف حدد بوتين وزيلينسكي الصراع الأوكراني". بقلم: مارغريت ما كميلان، من بين المقالات الأكثر قراءة على موقع مجلة "الشؤون الخارجية (Foreign Affairs)" .
ومن يتابع موقع هذه المجلة الإلكتروني التي تصدر كل شهرين، يكتشف الأهمية الخاصة التي أولتها هذه المجلة للحرب الروسية – الأوكرانية من جهة، وطبيعة تناول تلك المواد لتلك الحرب من جهة ثانية. هنا لا بد من لفت القارئ إلى أن فحوى المواد التي تنشرها المجلة قريبة جدا من تصورات المستشارين المحاذين لدوائر صنع القرار في البيت الأبيض. لكن ذلك لا ينفي تمتع تلك المواد بنسبة عالية من متطلبات الموضوعية التي تتناسب وقيم البحث العلمي التي تحرص المجلة على مراعاتها.
يحاول المقال في مجمله التركيز على دور الأفراد، بدلا من المؤسسات – دون التقليل من الحيز الذي ما تزال تحتله المؤسسات الغربية في اتخاذ قرارات السلطات القائمة فيها- في صنع الاستراتيجيات التاريخية، بغض النظر عن سلامة تلك الخطط، ودون الأخذ في الاعتبار الحقائق المؤلمة، وأحيانا غير الإنسانية التي تفرضها على واقع ومستقبل تطور المناطق التي تمس واقعها مثل تلك المخططات. وساد المقال نبرة سلبية واضحة نحو فلاديمير بوتين والسياسات التي يطبقها. وعلى نحو مواز هناك انحياز إيجابي نحو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنيسكي، أو حتى الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن. وهو امر متوقع من مؤسسة لها تلك العلاقات الوثيقة بالإدارة الأمريكية التي هي الأخرى تقود اليوم الحرب ضد بوتين وفي صف زيلنيسكي
تستهل مارغريت مقالتها بجملة قاطعة، غير قابلة للنقاش، تؤكد دور الأفراد في اندلاع الحروب واستمرارها حين تقول "إذا كان هناك من يشك في أهمية القادة الفرديين في هيكلة الأحداث العالمية، فمن المؤكد أن الحرب في أوكرانيا قد بددت هذه الشكوك. فحرب أوكرانيا هي حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وليس حرب أي شخص آخر، مثلما كانت الحرب العالمية الثانية في أوروبا حرب أدولف هتلر. كلا الرجلين يريد الحرب. كلاهما اعتنق مذهب الحرب كاختبار للرجولة ضد عدو مضمحل".
وتتابع مارغريت مؤكدة ذلك، إذ "لم يكن غزو أوكرانيا ليتبع المسار الذي كان عليه لو لم يكن فولوديمير زيلينسكي رئيسًا لأوكرانيا. على الرغم من أن زيلينسكي كان قائدًا غير محتمل قبل بدء الحرب. فقد حدد الممثل الكوميدي السابق بأغلبية ساحقة مقاومة البلاد الرائعة ضد الجيش الروسي المتفوق، حيث أخبر مسؤولي المخابرات الأمريكية الذين عرضوا إخلائه، أنه بحاجة إلى ذخيرة، وليس طائرة سفر. وزيلينسكي هو الذي جعل من القضية الأوكرانية قضية لا يمكن للغرب تجاهلها، في مناشداته المباشرة المستمرة للقادة الغربيين والكونغرس الأمريكي ومجلس النواب البريطاني والبوندستاغ. في الوقت نفسه، من المهم للغاية أن يكون جو بايدن، وليس دونالد ترامب، موجودًا في البيت الأبيض وقادرًا على قيادة استجابة موحدة وصعبة، ولكن في الغالب هادئة، عبر الأطلسي".
وتحاول مارغريت في رحلة إثبات دور الأفراد على حساب المؤسسات، أن تتراجع خطوة نحو الوراء حين تقول "إن إسناد وكالة خاصة لهؤلاء الرجال لا يعني العودة إلى نظرية التاريخ (الرجل العظيم) التي فقدت مصداقيتها الآن. إنه ببساطة إدراك أن من يتولى المنصب في وقت معين، في مكان معين، يمكن أن يحدث فرقًا حاسمًا. في أزمة كبيرة، عشية الحرب، على سبيل المثال، من المهم من الذي يملك السلطة النهائية ليقول توقف أو ارحل. من المهم أيضًا من يقود الدولة التي تتعرض للهجوم وكيف يختار زعيمها الرد. وكما أوضح التاريخ الحديث بإسهاب، فإن أعظم الصراعات ونتائجها غالبًا ما تتشكل من خلال القيادة الشخصية بقدر ما تتشكل من خلال العوامل الموضوعية مثل الموارد أو القوة العسكرية".
....
واستطرادا لما بدأت به الكاتبة حول دور الأفراد في تقرير اتجاه الأحداث ومن ثم تحديد أشكال الصراع، نجدها تؤكد أنه "في الأزمة الحالية (المقصود هنا الأوكرانية)، ليس هناك شك في أن الزعيمين، بوتين وزيلينسكي، حددا شكل الصراع، في ساحة النزال. فقد أعاد بوتين "ترسيخ أسلوب القيادة شديد المركزية لستالين، أو أسلوب القياصرة الذي كان معجبًا به كثيرًا. ما يفكر فيه ويريده أن يصبح سياسة روسية لأنه يتحكم في مقاليد السلطة ويتخذ القرارات الرئيسية. ومع ذلك، من الواضح بالفعل أن أحد أكبر أخطاء بوتين هو عدم مراعاة الصفات الشخصية وتصميم الرجل الذي كان يغزو بلاده، وهو الرجل الذي اختار عدم الفرار أو الاستسلام، بل البقاء والقتال. وهذا القرار الذي اتخذه زيلينسكي كان له بالفعل عواقب وخيمة".
وتعزز الكاتبة ما ذهبت باسترجاع دور بعض القيادات التاريخية حيث تعتبر "أن مسألة القيادة هي مسألة قديمة - فكر في الاهتمام الممنوح للإسكندر الأكبر أو نابليون - فقد تم إغفالها نظرًا لأن الخبراء يركزون على الأنظمة أو مقاييس القوة القابلة للقياس الكمي. فاندلاع الحرب العالمية الأولى في صيف عام 1914، على سبيل المثال، تمت دراسته بشكل مكثف في مثل هذه المصطلحات لفهم سبب اندلاع الحروب، كما اقترح المؤرخون وخبراء العلاقات الدولية بشكل مختلف. إذ يمكن تفسير الانزلاق من السلام إلى الحرب في أوروبا على أنه مثال على انهيار ميزان القوى، أو نظام التحالف المستقطب بشكل خطير، أو المنافسات الإمبريالية، أو الاقتصادية، أو سباق التسلح... أو ربما نتيجة عوامل محلية مثل سعي الطبقات العليا للتغلب على الانقسامات الداخلية بالحرب. في كثير من الأحيان أقل تمحيصًا هم الأفراد الذين ساهموا أو فشلوا في منع هذا الانزلاق. ولم تكن قراراتهم قرارات فاعلين عقلانيين يفكرون بهدوء في المزايا التي قد يكتسبونها هم أو بلدانهم، ولكن نتيجة قيمهم وافتراضاتهم وعواطفهم".
وفي سياق اثبات بصمات القادة الواضحة في صنع السياسات، تركز الكاتبة على التاريخ حين تقول إن "الخصائص الفردية كانت مهمة أيضًا. أحب القيصر فيلهلم الثاني جنوده لكنه كان على علم أنهم اعتقدوا أنه جبان. أراد أن يكون حاكماً قوياً وكان يخشى ألا يكون كذلك. (فوجدناه) من خلال أفعاله وخطاباته المتهورة، قد ساعد في خلق الخوف من ألمانيا العدائية والعسكرية، الأمر الذي أدى بدوره إلى الشراكة المتنامية بين فرنسا وروسيا وفي نهاية المطاف بريطانيا العظمى. وبعد اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند في سراييفو، كانت الصقور في الحكومة الإمبراطورية النمساوية المجرية، مثل كونراد فون هوتزيندورف، رئيس الأركان، على استعداد لشن حرب على صربيا، حتى مع العلم أن روسيا قد تعلن الحرب نتيجة لذلك على النمسا."
وتواصل مارغريت استحضار التاريخ بعودتها لأحداث الحرب الكونية الثانية حيث تقول "وبالمثل، لم يكن من الممكن أن تحدث الحرب العالمية الثانية كما حدث بدون الرجل الذي كان يسيطر على ألمانيا. حدد هتلر بدايتها وتوسعها عبر أوروبا وداخل الاتحاد السوفيتي، والتدمير النهائي لألمانيا. بذل قادة الحلفاء، بريطانيا وفرنسا، قصارى جهدهم لتجنب الحرب من خلال التهدئة. عرف ستالين مدى عدم استعداد الاتحاد السوفيتي للحرب، وكان يأمل في التخلص من أي صراع بين الدول الرأسمالية وبناء قوته. لكن هتلر أراد شن حرب في أوروبا لمصلحتها وإثبات تفوق العرق الآري".
وتمضي الكاتبة في اسقاطاتها التاريخية حيث نجدها تقول "بالنسبة لهتلر، لم يكن كافياً أنه جعل ألمانيا القوة المهيمنة في القارة بحلول نهاية الثلاثينيات. لقد استولى على البلدان المزدهرة مثل النمسا وتشيكوسلوفاكيا دون إطلاق رصاصة واحدة. كانت القوى الأخرى في وسط أوروبا، مثل المجر ورومانيا، تتهاوى امام قواته؛ وكانت ايطاليا حليفا له. كان جنرالاته وأقرب زملائه في الحزب النازي راضين عن تعزيز موقف ألمانيا. لكن هتلر لم يكن كذلك. فقد اعتبر تجنب الحرب في العام 1938، عندما تم تقسيم تشيكوسلوفاكيا في ميونيخ، بمثابة هزيمة. لقد صُدم من الارتياح الذي عبر عنه العديد من الألمان بشأن الحفاظ على السلام، وأمر جوزيف غوبلز، وزير الإعلام والدعاية، ببدء حملة لإضفاء روح الحرب الصحيحة على السكان. حينها كان من غير المرجح أن يظل زعيم ألماني آخر يقاتل، لكن هتلر استمر في القتال. فحتى في نهايات المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، واصل هتلر الحرب بعد فترة طويلة من خسارتها".
وتنهي الكاتبة مقالتها الشيقة والمثيرة في آن متمسكة بدور الأفراد في صنع الحقائق على صفحات التاريخ، ومثيرة أيضا المزيد من التساؤلات والجدل في ذهن القارئ بالقول، " كما أظهر شهر واحد من الحرب في أوكرانيا، أنه يمكن أن تكون الصفات الشخصية للقائد في كثير من الأحيان ذات عواقب أكبر بكثير من أي قدر من القوة العسكرية الصارمة. والغرب يتجاهل تلك الصفات ويهددها. على الرغم من أن بوتين قد أخفى مساراته وأبقى حياته الخاصة سرية قدر الإمكان، إلا أن الكثير معروف عنه وعن تفكيره وطموحاته. لم يخفِ مخططاته بشأن أوكرانيا: على مدى العقد الماضي، كان يتحدث ويكتب عن كيفية ارتباطها بروسيا. كما أنه لم يخف استياءه من توسع الناتو أو قناعاته بأن الغرب منقسم ومنحل وغير قادر على التصرف بحزم واتحاد. حتى الآن، أثبت زيلينسكي وأنصاره في أوروبا والولايات المتحدة خطأ بوتين".
وتختم مارغريت مقالتها وهي أكثر تمسكا بدور بوتين المصيري في مسارات الحرب الأوكرانية – الروسية بقولها، "ما سيحدث بعد ذلك سيعتمد على العديد من الأشياء المختلفة، من قرار الأوكرانيين أنفسهم إلى حجم ونوع الأسلحة التي سيحصل عليها كل جانب. لكنها ستعتمد أيضًا على قرارات وقيادة اللاعبين الرئيسيين. هل سينجح بايدن في الحفاظ على التحالف الغربي معًا ومواصلة تقديم دعم قوي لأوكرانيا في رد محسوب بعناية على الإجراءات الروسية؟ هل سيستخدم الزعيم الصيني شي جين بينغ، كما كان يأمل الكثيرون، نفوذه لإقناع بوتين بالتوصل إلى تسوية؟ ماذا سيكون مقبولا لدى الأوكرانيين؟ هل سيقبل بوتين مخرجًا في أوكرانيا، أم أنه سيستمر؟ لا يمكن التكهن بالإجابات خاصة عند النظر بتمعن في سجل سلوك شخصية مثل بوتين. هنا قد يتعين على الغرب الاستعداد لجهد طويل ومكلف لاحتواء عدوان بوتين كما فعل في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي".
هذه التساؤلات وأخرى غيرها هي الأخرى تحلق في سماء عقول من يتابعون الحرب الروسية – الأوكرانية. بقيت نقطة أغفلها المقال في إطار معالجته لدور الأفراد في تسيير دفة الحروب وهو يتعلق بالولايات المتحدة. فهل من بين يديه صنع القرار في البيت الأبيض اليوم يملك مواصفات الزعيم الذي تتحدث عنه مارغريت؟ ذلك الزعيم القادر على ترك بصماته على مسار الأحداث، مستندا في ذلك على قوة دولته؟