بقلم : عبيدلي العبيدلي
الجمعة الموافق 20 مايو 2022، يتوافد المهنئون على قاعة جلجامش في فندق جولدن توليب بالمنامة تستقبلهم باقة من فتيات المنبر التقدمي. المناسبة، ليس عرسا بالمعنى التقليدي، لكنه المنتدى الفكري السنوي الثامن الذي يعقده المنبر التقدمي - مملكة البحرين كل عام، ومن\ ما يقارب من عقد من الزمان.
"المدينة الخليجية.. تحولات وآفاق" كان عنوان المنتدى/العرس الثقافي لهذا العام. وقد كان الاختيار موفقا، حيث تحاشى "المنبر التقدمي" الموضوعات السياسية الساخنة، وارتأى، آخذا بعين الاعتبار الظروف الإقليمية والمحلية القائمة كي يهاجر مؤقتا، ولا أقول يتحاشى، إلى محطة أكثر هدوءا.
وكما عودنا المنبر التقدمي في منتدياته السابقة، وجه الدعوة لنخبة من الباحثين والمهتمين بالشأن العام يتقدمهم مقدمي الأوراق الأساتذة: أحمد الديين، وعلي الرواحي، وهشام العقيل.
ورقة الديين " قصة مدينتين: الكويت والأحمدي"، يبدو أن الباحث استعار عنوانه من " قصة مدينتين بالإنجليزية: A Tale of Two Cities"، وهي رواية الكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز الشهيرة التي كتبها عام 1859. وتعتبر رواية ديكنز من أعظم الروايات التي تناولت الثورة الفرنسية. فقد نجحت حينها في رسم صورة تفصيلية قربت من خلال أحداث تلك الرواية ارهاصات الثورة الفرنسية والأحداث التي تلتها بما فيها الهجوم على سجن الباستيل.
وكما كانت مدينتا ديكنز هما باريس ولندن، فقد اختار الديين مدينتا "الكويت والأحمدي" كي تكون كل منهما على حدة موضوعا للقضايا التي توقف عندها المنتدى.
ولا يخفي الديين استحضاره ديكنز في ورقته حيث يقول " وتحاول هذه الورقة، التي تحمّل عنواناً مستوحى من رواية تشارلز ديكنز، (قصة مدينتين: الكويت والأحمدي) أن تلقي ضوءاً على نشأة هاتين المدينتين والتحولات التي شهدتاها واستشراف آفاق مستقبلهما... ".
يستهل الديين مقدمة ورقته بإشارة نظرية في غاية الأهمية ذات علاقة بتأريخ المدينة يقول فيها " عندما نتناول في منتدانا المدينة الخليجية من حيث جغرافيتها أو تاريخها أو ديمغرافيتها أو بيئتها والتحولات التي شهدتها والتحديات التي تواجهها وآفاق تطورها، فإنه من الصعب علينا أن نحصر أنفسنا في نطاق علم جغرافية المدن، على الرغم من أهميته، ولا يمكننا أن نقصر بحثنا على الجوانب العمرانية أو البيئية أو الديموغرافية أو غيرها من جوانب البحث المتخصص المتصل بالمدن، وإنما سنجد أنفسنا بالضرورة عندما نكتب أو نتحدث عن المدن أننا أمام واقع بالغ التركيب والتعقيد والتشابك. واقع تتقاطع فيه الجغرافيا مع التاريخ مع الديموغرافيا، ويمتزج فيه الاقتصاد ملكية وانتاجاً وتوزيعاً مع المجتمع بطبقاته وصراعاته، وتتشابك فيه السياسة مع الحرب، والثقافة مع البيئة، والدين مع نشوء الدولة والمؤسسات والقانون، ويتم ذلك كله في وحدة وترابط وتناقضات وحركة مستمرة وتغيرات في الكم من حيث عدد السكان والمساحة تؤدي إلى تغيرات في الكيف من حيث طبيعة المدينة ووظيفتها وأهميتها ومدى احترام حقوق مواطني المدينة في مدينتهم أو إهدار هذا الحق، وتنعكس بالتالي على حجم المدينة ومستويات نموها، وهكذا في حركة جدلية مستمرة من التأثير والتأثر والتبدل والتناقض".
هنا يستخدم الديين مبضع المحلل اليساري الذي يحاول أن يرى الحاضر بعين التاريخ، ومنظار الحاضر، كي يرسم معالم المستقبل.
وتبحر سفينة الديين كي تسبر أغوار تاريخ تينك المدينتين، وينجح كربان تلك السفينة أن يحط رحاله في أكثر من ميناء في مسيرة المدينتين التاريخية والتحولات التي رافقتهما في تلك الرحلة، وهي تحولات غنية بالمعلومات، ومتحدية من حيث الاستنتاجات.
لا أريد أن أشوه ما جاء في تلك الورقة باللجوء إلى الاختزال، كي لا أحرم القارئ أيضا من متعة العودة لها، ولذلك، أرجو أن يسمح لي القارئ أن أقفز إلى الآفاق المستقبلية التي يراهما الباحث للمدينتين:
فعلى مستوى "الآفاق المستقبلية لمدينة الكويت"، يخلص الكاتب، وأنقل هنا نص ما جاء في ورقته والاقتراحات التي يتقدم بها الديين حين يقول:
لا شك في أنّ هناك عقبات صعبة تعترض إحياء مدينة الكويت والنهوض بها، وتحويلها من مدينة مخصصة لأعمال الإدارة والتجارة والمال لتكون كما يفترض مدينة حقيقية بسكانها، ومجتمعها، وأنشطتها، ومرافقها.
ويرتبط تحقيق مثل هذا التوجه باتخاذ قرار سياسي جريء يصعب توافره في ظل حالة الجمود والركود في مركز القرار السياسي للدولة الكويتية، وجدية التعامل مع الخطط والقرارات الإدارية ووضعها موضع التنفيذ وهو أمر لا يمكن أن يتحقق في ظل ترهل الجهاز الإداري للدولة، ولكن مع ذلك فإنني أشير هنا إلى ما يفترض أن يتم اتخاذه من قرارات وما يفترض تطبيقه منها على أرض الواقع، لإحياء مدينة الكويت الآخذة في الأفول، ومن بين هذه القرارات المقترحة:
• تنفيذ المؤسسة العامة للرعاية السكنية مشروعات السكن في مدينة الكويت، وتجنب سلبيات تجربة مجمع الصوابر.
• خفض سعر العقار في مدينة الكويت، وقمع المضاربات العقارية عليه، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل سطوة ونفوذ كبار الملاكين العقاريين الذين سيتضررون من مثل هذا القرار.
• خفض القيمة الايجارية في مباني المدينة.
• الاهتمام بالمباني والأسواق التراثية وتطوير مراكز التسوق والترفيه في مدينة الكويت.
• حصر مقار البعثات الديبلوماسية والقنصلية في مدينة الكويت العاصمة.
• توسيع تعريف نطاق مدينة الكويت العاصمة ليشمل عدداً من الضواحي والمناطق المحيطة بها، حتى الطريق الدائري الثالث، بحيث تشمل معظم مناطق محافظة العاصمة، لتكون جزءاً من مدينة الكويت العاصمة، وليس مجرد جزء من محافظة العاصمة، مثل: الشويخ السكنية، والشويخ الإدارية، والشويخ الصحية، وميناء الشويخ، ومركز جابر الأحمد الثقافي، وحديقة الشهيد، والشامية، وضاحية عبد الله السالم، والمنصورية، والدسمة، وبنيد القار، وكيفان، والفيحاء، والنزهة والقادسية والدعية والشعب البحري ومركز عبد الله السالم الثقافي.
• إنشاء مجلس بلدي خاص بمدينة الكويت العاصمة.
ويذهب إلى المدخل نفسه عند حديثه عن مدينة الأحمدي حيث يذيل حديثه عنها بالقول نصا: “الآفاق المستقبلية لمدينة الأحمدي:"
على الرغم من تراجع الدور الوظيفي لمدينة الأحمدي، فإنها لم تفقد أهميتها، وأغلب الظن أنها ستستمر إلى عقود على ما هي عليه الآن، ولكنها عرضة لعدد من العوامل التي قد تؤثر على وضعها كمدينة، من بينها:
1. انتقال إدارة مدينة الأحمدي من شركة نفط الكويت إلى الدولة، ما سينعكس على تخطيطها وخدماتها وصيانتها.
1. تمكين سكان بيوت الشركة من امتلاكها في إطار برنامج الرعاية السكنية الحكومي، ما سينعكس على استمرارية سكانها.
1. تغيير الطابع العمراني للمدينة، سواء عبر السماح فيها ببناء العمارات ذات الأدوار المتعددة أو هدم المباني الحالية وتشييد مبان جديدة.
1. إنشاء مراكز تسوق وترفيه جديدة فيها.
1. تنشيط الحياة الثقافية في مدينة الأحمدي.
ولا يخفي الديين نظرته التشاؤمية حول ذلك المستقبل حيث يؤكد "ولكن المؤسف في جميع الحالات، أن مثل هذه القرارات أو غيرها المتصلة بمدينة الأحمدي، لن يتخذها سكان المدينة، بل لن يشاركوا فيها، إذ لا يزال الحق في المدينة حقاً معطلاً في بلداننا".
أما ورقة الكاتب علي الرواحي فقد حملت عنوانا تساؤليا يخفي في باطنه بعض التحديات النظرية يقول " الفضاءات العامة في مسقط أو كيف يتشكل الفرد في الريف المتمدن؟".
وحرص الباحث الرواحي في معظم مكونات الورقة على أن يحتفظ بهذه النبرة النظرية، حتى عند وقوفه على أعتاب مدينة مسقط فلم تحصر الورقة نفسها " حول مفهوم الفضاءات العامة أو العمومية في مسقط، ليس بالمعنى الجغرافي والمكاني الضيق، بالرغم من أهميته القصوى في معمار المدينة، والجانب النفسي والتفاعلي للفرد، وبشكل ٍ خاص بعد أحداث عام 2011، بل أيضاً وانطلاقاً من جغرافية العاصمة العُمانية، في انعكاسات التقسيم الجغرافي بما يتضمنه من تقسيم ريفي، وقبلي، ومناطقي على العقل الجمعي الذي تساهم في تكوينه. وذلك من خلال معالجة أسئلة محددة، حول تأثير المسميات العائلية والقبلية للأماكن العمومية (القُرى والبلدات) في الوعي الجمعي للأفراد في مسقط، أولاً، وثانياً: التساؤل حول انعكاسات وجود الريف في المدينة بما يعنيه من عراقة وعمق تاريخي من جهة، ومقاومة للتحديث بما تنسجه من علاقات تقليدية من الجهة الأخرى. ثالثاً: التساؤل حول كيفية تشكل الفرد في هذه الفضاءات الهجينة أو المتداخلة بشكلٍ كبير وعلاقة ذلك بالزمن بما يعنيه من تحولات مستمرة، وعلاقة ذلك بالآخر الداخلي والخارجي على حدٍ سواء له الحق في تأسيس مدينة حضرية مناسبة للعيش".
وتجاوز الرواحي بشكل جدلي بين " مفهوم الفضاءات العامة أو العمومية في مسقط، ليس بالمعنى الجغرافي والمكاني الضيق، بالرغم من أهميته القصوى في معمار المدينة، والجانب النفسي والتفاعلي للفرد، وبشكل ٍ خاص بعد أحداث عام 2011"، منطلقا "من جغرافية العاصمة العُمانية، في انعكاسات التقسيم الجغرافي بما يتضمنه من تقسيم ريفي، وقبلي، ومناطقي على العقل الجمعي الذي تساهم في تكوينه. وذلك من خلال معالجة أسئلة محددة، حول تأثير المسميات العائلية والقبلية للأماكن العمومية (القُرى والبلدات) في الوعي الجمعي للأفراد في مسقط، أولاً، وثانياً: التساؤل حول انعكاسات وجود الريف في المدينة بما يعنيه من عراقة وعمق تاريخي من جهة، ومقاومة للتحديث بما تنسجه من علاقات تقليدية من الجهة الأخرى. ثالثاً: التساؤل حول كيفية تشكل الفرد في هذه الفضاءات الهجينة أو المتداخلة بشكلٍ كبير وعلاقة ذلك بالزمن بما يعنيه من تحولات مستمرة، وعلاقة ذلك بالآخر الداخلي والخارجي على حدٍ سواء له الحق في تأسيس مدينة حضرية مناسبة للعيش".
ويختم الرواحي بورقته بنتيجة في غاية الأهمية حول العلاقة بين المدينة ومن يقطنها من أفراد حيث يخلص إلى القول" لا يتشكل الفرد بطريقة عشوائية كما يبدو للوهلة الأولى، فمواضيع مثل التربية والتعليم تساهم في تشذيب الفرد بشكلٍ منهجي ودمجه ضمن القيم والمعايير الموضوعة من قبل المؤسسة التي تتولى هذه المهام، غير أن التربية ليست هي العامل الوحيد في تشكيل الفرد، فالمعمار، والفضاءات العمومية، وما يرافق ذلك من مؤسسات ومنشآت مختلفة، تساهم بنسبةٍ كبيرة في إعادة تشكيل الفرد ليس من ناحية واحدة، بل بما يتناسب مع الحياة الجديدة التي تتطلب عُدّة مختلفة عن التجهيزات السابقة للفرد. وهذا لا يتشكل، كما سبق التوضيح، بدون قيم معنوية، وفضاءات مادية، تُحيط بالمدينة، التي تفتقد لها المدينة العُمانية إن وجدت".
وكانت ثالثة الأوراق المشاركة بحرينية قدمها الباحث هشام عقيل، وعنوانها، " المدينة الخليجية ونمط الإنتاج الكولونيالي". ركز الباحث عقيل على الجانب الاقتصادي، كما يوحي عنوان ورقته في تشكل "نمط الإنتاج"، ومن ثم تأثيرات ذلك النمط المباشرة وغير المباشرة على تشكل سلوك الفرد في المدينة الخليجية.
وكي يصل إلى تلك النتيجة بشكل سلس غير مفتعل، اجتهد الباحث في رصد "مميزات رأس المال الكولونيالي"، الذي تعتبره الورقة العنصر الرئيس في تشكل المدينة الخليجية الحديثة، ومن يقيم فيها. فحدد تلك المميزات في النقاط التالية، كما وردت نصا:
1. لا يتقدم رأس المال الكولونيالي إلا إذا قامت حركته المحوّرية على توجه واحد بالتحديد، في تحقيقه لوظيفته، إذ إن هذه الوظيفة هي التي يتمحوّر عليها معدل الربح.
1. كلما يتقدم رأس المال الكولونيالي كلما يخلف - بالضرورة - مقادراً أعظم للتراكم النسبي.
1. هذا المقدار من التراكم النسبي لا يُمكن أن يستثمر في تنمية الوسائل الإنتاجية فلا بد أن يُستثمر في قطاعات اخرى (وفي نموذج لتراكم، يستثمر التراكم النسبي في رأس المال الثابت للقطاع الثاني).
1. ينص القانون العام لتطور نمط الإنتاج الكولونيالي بأنه كلما هبط معدل الربح كلما تضخم معدل التراكم النسبي (أيّ التراكم النسبي قسمة القيمة الزائدة).
1. يتضخم التركيب العضوي الكولونيالي بفعل تضخم التراكم النسبي، والعكس بالعكس.
1. وفقاً لهذه الحقائق، لا بد أن نقول بأن القوى الإنتاجية الكولونيالية تتطور بشكل محدود بنيوياً كأثر لطبيعة العلاقات الإنتاجية نفسها.
1. إذن نكتشف بأن نمط الإنتاج الكولونيالي محدود بنيوياً (أو لنقل: لأسباب داخلية) قبل أن نحلله في علاقته التبعية في النظام الرأسمالي العالمي، إذ إنه محدود بنيوياً بطبيعته لا بفعل خارجي (سواء أكان الشكل الملموس الذي يظهر عليه أو "التأثير الإمبريالي" المباشر عليه كما تقول نظريات النظم العالمية، والتبادل اللا متكافئ، وغيرها)؛ هذا بغض النظر عن كل التأثيرات الخارجية الأخرى.
شكلت الأوراق في مجملها منظومة متكاملة رسمت لوحة أولية لصورة المدينة الخليجية، أثارت الكثير من التساؤلات التي وجهها الحاضرون إلى الباحثين الثلاثة. فتحول المنتدى إلى عرس ثقافي يطرح الكثير من التحديات الفكرية، ويثير معها العديد من علامات الاستفهام الجادة الباحثة عن إجابات، من غير المستبعد أن يتحول البعض منها إلى مشاريع تنتشل المدينة الخليجية من الأخطار المتربصة بها، ويجعل منها مدينة معاصرة تحتفظ بمكوناتها الثقافية، وتحمي حصونها الحضارية.