بقلم : الدكتورة انيسة فخرو
أحداث لا تُنسى من ذكريات انتفاضة مارس العظيمة التي استمرت فترة غير قصيرة، ولم تتوقف التظاهرات والاضرابات والاحتجاجات، إلا بعد أكثر من ثلاثة أشهر، حينما تم اعتقال قيادات الحركة الوطنية، ونفي تشريد الصف الثاني والثالث إلى أقطار الخليج العربي، وبالأخص إلى السعودية والكويت وقطر، واستشهاد العديد من خيرة شباب البحرين، من مختلف القرى والمدن.
تاريخيا وفي ٤ مارس ١٩٦٥، قرر كل من الشباب: أحمد عبدالملك وأحمد الجودر وصقر البنعلي ويوسف عبدالملك وعبدالله الخباز، الاحتجاج على تسريح الدفعة الاولى من العمال في بابكو، فتوجهوا إلى مدرسة الهداية يوم الخميس ٤ مارس ١٩٦٥ في الطابور الصباحي لمنع الطلبة من دخول الصفوف، احتجاجا على تسريح العمال، لكن المدير عبدالله فرج بحكم وظيفته، اتصل بالأمن وأخبرهم بالأمر، فوصلت الشرطة في الحال، واقتحموا مدرسة الهداية للقبض على الشباب الخمسة الذين رفعوا يافطات تطالب بإعادة العمال المفصولين، فتوجه الشباب إلى الجهة الشرقية من المدرسة وهربوا إلى نادي البحرين، ولم تستطع الشرطة القبض عليهم، واشتروا بعد هروبهم من محل بوخماس طلاء باللون الأحمر، وكتبوا على جدران المحرق:
)يا عمال الحركة والشركة مرتبكة والبحرين في معركة ).
وأبرز الجدران التي كتب عليها كان جدار بيت المرحوم مبارك سيار، رحمة الله عليهم أجمعين.
ومنذ تلك اللحظة وثق التاريخ بداية النضال التاريخي الجماهيري لانتفاضة ٥ مارس، كما يروي المناضل الأستاذ عبدالله مطيويع.
بدأ التحرك الطلابي في مدارس البحرين تضامنا مع عمال بابكو المُسرّحين من الشركة، لأن أغلب الطلبة آبائهم من العمال، وبالأخص بدأ التحرك من مدرستي الهداية بالمحرق وثانوية المنامة يوم الخميس الموافق ٤ مارس، وحدث هجوم الشغب بالخيول على الطلبة.
وفي عصر الجمعة بتاريخ ٥ مارس ١٩٦٥، احتشدت جماهير المحرق والمنامة، لتنادي مرددة:
(يا عمال الحركة والشركة مرتبكة والبحرين في معركة)، والمقصود بالحركة هي الحركة العمالية والوطنية، والشركة هي بابكو.
وفي يوم السبت ٦ مارس، تحرك عمال بابكو من خلال ( تيلرات خضراء) شاحنات العمال الكبيرة، متوجهة إلى ثانوية المنامة، وكان الطلبة يريدون الخروج من المدارس، ونزل العمال كلهم من الحافلات وصاروا خلف الشغب، فالتفت قوات الشغب نحوهم لمواجهة العمال، فاستغل الطلبة الفرصة وفتحوا بوابات المدرسة، فصار الشغب يفصلون بين الطلبة والعمال، ثم ألتحمت الحشود الطلابية والعمالية معا في مسيرة واحدة ضخمة، وتوجهت إلى ثانوية البنات في المنامة ومنها إلى المحرق، ولتجتمع الحشود المتوجهة من المحرق إلى المنامة ومن المنامة إلى المحرق، ولتحتشد كلها عند مسجد حمد بن عيسى بالمحرق، ويقف المناضل راشد المعاودة ليلقي خطابًا حماسيًا، وبعده ألقى العديد من المناضلين خطاباتهم، ولتندلع الانتفاضة الكبرى في مارس ١٩٦٥، وتعمّ جميع مدن وقرى البحرين تضامنا مع عمال بابكو، وكل الجماهير كانت تردد:
لا سنية لا شيعية وحدة وحدة وطنية.
وعسى الله أن يرحم شهداء الانتفاضة ويبعد عنا سوسة الطائفية إلى الأبد.
كان السبب الرئيس للمظاهرات في مارس ١٩٦٥ هو تسريح شركة بابكو الكثير من العمال البحرينيين، وصار تحالف الطلبة مع العمال، لأن أغلب آباء الطلبة يعملون في بابكو.
وكان المطلب الرئيس: إرجاع العمّال المفصولين لأعمالهم في بابكو.
ويقول د. عيسى مكي (أبو منير)، الذي عايش الحدث وكان طالبا في الثانوية بالقسم التجاري:
لقد أضيف إلى المطلب الرئيس مجموعة من المطالب الأخرى، ألا وهي: المطالبة بنقابة عمّال، والتخفيض في أسعار المواد الغذائية والبضائع الأساسية. وزيادة الأجور.
وكان المناضل أحمد الشملان مع مجموعة من المناضلين المحبين للأدب، يصيغون الشعارات والأراجيز التي ترددها الجماهير، وكان الهتاف الذي ردده الطلاب، ومن خلاله أوصلوا مطالبهم إلى الحكومة هو كالتالي: نبي نقابة عمّال وتخفيض في الأسعار وزيادة في الأجور.
ومن الهتافات التي انتشرت كالنار في الهشيم:
" الله الله يا مفرج المصايب..
اضرب رصاص خلي رصاصك صايب..
وِنْ (وإن) جاك الموت افتحْ له اصْديْرَكْ..
خَلِّيْها اتصير من جُملةْ المصايِبْ".
استمرت انتفاضة مارس العظيمة حتى نهاية مايو ١٩٦٥، وبعد استشهاد المناضل عبدالله بونوده في ٢٤ مارس ٦٥، ازداد الغضب الشعبي، وكتب الشاعر (علي عبدالله خليفة)، قصائد رائعة في رثاء الشهيد في ديوانه (عطش النخيل) يقول فيها:
"لنك عظيم وقوي شديت بك راسي.. يا عبيد أصلك وفي للضيج متراسي".
وفي ديوان (إضاءة لذاكرة الوطن) قصيدة مطلعها:
" وانتظرناك طويلا أنا والليل وجدران المدينة
والشبابيك وكل الطرقات
تسأل الجدران:
هل عاد عبيد؟
غائر وقع الثواني..
قطرات من دمك
صبغت حائط بيت في طريق للمدارس..
وصدى طلقة نار
سجل الرابع والعشرين صبح الأربعاء
كان يوما نابضا من شهر مارس".
وبعد استشهاد (عبدالله حسين نجم) الملقب (بونوده) على يد أحد المرتزقة، قررت قيادة الحركة الوطنية (القوميين العرب واليسار) إعطاء درسًا للقتلة.
يقول عبدالله مطيويع:
" كان (بوب) الضابط الإنجليزي مديرا للمخابرات آنذاك، وبتاريخ ١٢ مارس ١٩٦٦ يلقى بوب حتفه، إثر انفجار قنبلة شرّكها له المناضل مجيد مرهون في فرامل سيارته، وفي الوقت نفسه انفجرت قنبلة في سيارة الضابط الأردني أحمد محسن، مما تسبب في كسر عموده الفقري وإصابته بالشلل ليظل مُقعدا حتى موته.
المناضل مجيد مرهون، وبعد أكثر من عام تم القبض عليه في ٦٨، وحكم عليه بالمؤبد في ٢٣ مارس ١٩٦٩، وذاق المناضل عذاب السجن الطويل حتى أُفرج عنه في إبريل ١٩٩٠.
كان المناضل محمد جابر صباح سيادي شغوفًا بالكيمياء وماهرًا في صنع القنابل المحلية، وأجبرت تلك القنابل المحلية الصنع مركبات الشرطة بقيادة الإنجليز على التوقف وعدم الدخول الى أحياء المحرق ليلا.
وبعد تشكيل لجنة لحل مشكلة تسريح العمال من شركة بابكو، وبتأثير حركة القوميين العرب خرج المتظاهرين يهتفون:
"بكره النار النار
بكره لما العامل يصرخ
تلقى الاستعمار في الفخ
والطالب يهدر وينفخ
وينك يا غدار".
في اليوم الأخير من شهر مارس العظيم، نسجل حكايات بطولية متفرقة من أحداث مارس ١٩٦٥، يسردها المناضل عبدالله مطيويع قائلا :
بعض العسس الذين كانوا مكشوفين بالنسبة إلى الحركة الوطنية، كان الناس يطلقون عليهم ألقابا لكي يصغرون من شأنهم مثل: بوضروس والعاطوّه.
وبعض المناضلين عندما أحسوا بالخطر يحوم خلفهم ليلتقط أنفاسهم، هربوا من البحرين إلى العديد من الأقطار العربية، أمثال المناضلين عيسى رشدان وإبراهيم كمال الدين.
وبعض من الجنود البحرينيين الشرفاء رفضوا قتل المتظاهرين أمثال إبراهيم الجودر وسعد سلطان.
وكان المناضل الحقيقي الذي ينفخ في الرماد لكي تشتعل شرارة انتفاضة ٥ مارس، هو الشيخ الضرير أحمد أبراهيم المطوع، بعمامته الأزهرية وجلبابه الفضفاض، كان الشيخ يتوكأ على عصاه ويتوجه في شهر رمضان الكريم يوميًا إلى مسجد (بن مجرن)، أو مسجد (الشيخ مشرف) ويسمى أيضا مسجد (عبدالرحمن الفاضل)، ويقع جنوب بيت الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى، وكان للشيخ الضرير صوتا جهوريًا قويًا، وقلبًا شجاعًا، فما إن تنتهي صلاة التراويح، حتى يبدأ بصوته الرائع خطبته العصماء، ليكرر الآيات والأحاديث التي تحثّ على الجهاد، "فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، "ومن رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، "والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، ثم يكرر الأحاديث بنغمات تصاعدية، ويتوقف فجأة ليسأل: ما هو المنكر؟ ويجيب: إنه فعل شركة بابكو بتسريح آلاف مؤلفة من العمال وقطع أرزاقهم ورزق أولادهم، هذا هو المنكر والظلم بعينه.
فيخرج كل مصلي وفي قلبه قوة جبارة لمقاومة الظلم والمنكر، وتموج الشوارع بالمتظاهرين،
وفي يوم 14 مارس حدثت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة في قرية النويدرات، أصيب فيها الشهيد عبدالله سرحان، وعندما هبّ خاله عبدالنبي لاسعافه اُستهدف هو الآخر وخرّ شهيداً بجانبه. وفي مظاهرات المنامة استشهد الشاب جاسم خليل عبدالله الصفار من قرية الديه، حيث خرج من مدرسته ليلتحق بالمتظاهرين، وليسقط برصاص الغدر.
مع هذه الدماء الغزيرة، تطورت الأمور سريعاً، خصوصاً مع زيارة الأمير فليب للبحرين بتاريخ 24 مارس، حيث توجه أبناء المحرق لاستقباله بغلق شارع المطار بالأخشاب، والحجارة الضخمة، مما أدى إلى تدخل القوات البريطانية، التي هاجمت المتظاهرين، ولاحقتهم في الأزقة، حتى أصابت الطالب عبدالله حسين بونودة في قدمه، وأعتقلته ثم أجهزت عليه بالرصاص، وقد كان استشهاده فاجعة كبيرة، نظراً لأنه لم يتجاوز ال17 ربيعاً، لتُروى الأرض بالدماء الزكية الطاهرة، وليكون الرابع والعشرين من مارس 1965 يوماً حزيناً في تاريخ البحرين، أما الأمير فليب فنُقل إلى قصر الرفاع بطائرة عسكرية، لتعذّر المرور عن طريق المطار.
وفي 13 إبريل يسقط الشهيد عبدالله سعيد الغانم في المحرق.
ويبدأ جهاز الاستخبارات اعتقالاته، بعد إرسال طائرة هليكوبتر تابعة للجيش البريطاني تحوم يوميا على المناطق، وتقوم بإلقاء مسيلات الدموع، وتصوير المتظاهرين، ومن ضمن المعتقلين كان الشيخ الضرير أحمد المطوع، وعلي الشيراوي، وعلي ربيعة، ومحمد جبارة، وعبداللطيف جناحي، و4٠٠ مناضل آخر.
ومن الشيلات والأراجيز التي كان يرفعها الشعب في الشوارع:
"قلت لك يا شيخ أحسب للشعب، بتعيش براحه وما فيها تعب،
والشعب غضبان وثوري الطلب، لكن الحاكم عمره ما حسب،
خله الاستعمار يضرب في الشعب،
يركب الكدلك والي الرفاع، والشعب عريان وأكثرهم جياع،
يلبس الديباج وينعم بالحرير، والشعب عرين وأكثرهم فقير.
صاح صايح في الرفاع، يا خلق وشذا النزاع،
جاوبه في الحد شايب، أهل محرق هالحبايب، يصرخون مثل السباع.
يا منامي ويا قلالي في الزحام بالك تبالي،
إن ذكرت اسمك لأهلي، يفخروا بك بالجماعي.
في سترة صارت معجزة،
الضابط منتوف والجيب اختفه.
أسمع يا خويا ويا يبه، عبد السلام واللي خطبه".
والمقصود كان الرئيس العراقي عبد السلام عارف الذي تولى رئاسة العراق في 1963 واغتيل في 1966.
وكل عام والشعب البحريني بخير وضمير وحرية وكرامة وسلام.
وعسى الله أن يرحم جميع الشهداء الأبرار وعساهم يرفلون في جنات النعيم.
ومن ذاكرة انتفاضة مارس المجيدة:
-الخميس 12 مارس 1965- مدرسة ثانوية المنامة للبنين.
للمكان الذي يجمع أهل البحرين في المدن والقرى أهمية بالغة في التعارف والتعايش والتضامن، فمثلما جمع العمل في شركة بابكو العمال من كل أنحاء البحرين، وتضامنوا معًا، حين أحاق بهم الظلم والطغيان، حصل الشيء نفسه بين الطلبة، في المدرسة الثانوية، حيث تضامن الطلبة مع العمال، وكان في طليعتهم طلبة وشباب حركة القوميين العرب وجبهة التحرير وحزب البعث.
عائلات ذات انتماء عروبي وشخصيات وطنية، من الطائفتين الكريمتين، مثل أحمد يعقوب كمال، وشاكر عبدالله عقاب، وكريم الشكر، وعادل العياضي، وأحمد حارب، وعقيل سوار، ومحمد الجسرة، وحكيم الحجيري، ومحمد المران، وعبدالله محمد صالح الشيراوي، وعلي الشرقاوي، وعبدالرحمن السندي، وجميل فالح، وجميل المسقطي، ومحمد اليماني، وعبدالله مطيويع، وغيرهم كثير.
كان المدير آنذاك الأستاذ عبدالملك الحمر، وقرر شباب حركة القوميين مع بقية الطلاب، الامتناع عن الدخول إلى فصولهم، وأخرجوا اليافطات المُخبأة تحت ملابسهم، ورفعوها، وجابوا بها ساحة المدرسة، وهم يهتفون منددين بشركة النفط (بابكو) وبالاستعمار البريطاني.
وإذا بالشرطة على الخيول تهجم لتدخل الحرم المدرسي، وترتفع الهراوات على أجساد الطلبة، ويتعالى هتاف الحماس ليمتزج مع صراخ الألم، فيهرَع الطلبة إلى مقصف المدرسة، ويُفرّغون صنادق المشروبات الغازية، ليضربون الشرطة بالقناني وبكل ما يصل إلى أيديهم، فتجفل الخيل وتحمحم، وتنطلق من ساحة المدرسة نحو البوابة هاربة، ذلك بعد أن أصابت الهراوات عدة طلاب، منهم الطالب محمد الجسرة من (قرية الحد) الذي أُصيب في رأسه، فسقط أرضا وتم سحبه إلى الخارج، وأدخلوه سيارة الشرطة عنوة، كما أصيب العديد من الطلبة، منهم طالب من (قرية الحجر)، فأغلق الطلبة بوابة المدرسة بعد أن هرب الخيالة منها.
وليرابط الجنود بخيلهم خارج أسوار المدرسة، ويحتج بعض المعلمين على اقتحام الشرطة الحرم المدرسي، ومنهم الأستاذ محمد خليفات، ولتحمل الريح أخبار ما يحدث في المدرسة الثانوية إلى كل الأنحاء، ويتقاطر العمال نحو المدرسة ومعهم عدد من موظفي الحكومة، خوفًا على أبنائهم الطلبة، ويحيطون بالخيالة، فيصبح المشهد السوريالي، الخيّالة تحيط بالمدرسة والعمال يحيطون بالخيّالة.
وتنتشر الأخبار حتى تصل إلى طلبة الإعدادية في مدرسة الحورة، ليخرج الطلاب ويتبعهم طالبات المدرسة الثانوية للبنات، التي كانت تقع في فريق (الحطب) غرب مستشفى الإرسالية الأمريكية، وتنتقل الأخبار بسرعة الضوء، وتزداد حمى التظاهرات في كل أنحاء البحرين، وتتأجج النفوس وتتأهب استعدادًا للمواجهة.
-الجمعة 13 مارس - جامع الشيخ حمد بن عيسى بالمحرق.
يتم استدعاء عدد من عناصر حركة القوميين العرب وطلابها في المحرق، ومنهم محمد بونفور، ومحمد سيف عجلان المناعي، ومحمد جابر صباح سيادي، وأحمد النيباري، ويوسف عبدالملك، وسالم سبت، ومحمد السيد يوسف، والكثير من شباب المحرق، ثم يتم استدعاء بعض الطالبات من المحرق. وكان للمرأة دور مهم في انتفاضة مارس، الأم والزوجة والأخت، رفع الهمم، وتلبية احتياجات المناضلين من الزاد والمنشورات، وتوصيلها إلى مخابئهم، واستقبال المصابين من المتظاهرين ومعالجتهم، وتخبئة المطلوبين، وغيرها من المهمات.
وينشر عدد من الشباب الأخبار عن مسيرة من المقرر أن تنطلق من جامع الشيخ عيسى بن حمد بعد صلاة الجمعة، وكان الجامع مكتظًا بالناس، وبعد الصلاة لم يغادر المصلون المسجد، حيث أنهم يترقبون المسيرة، وإذا بالصوت الجهوري المألوف، إمام وخطيب مسجد بن مجرن، الشيخ أحمد بن إبراهيم المطوع، يُسلّم على المصليين ويُحيّهم، ثم يلقي خطابًا حماسيًا مزلزلا، يهيّج الحماس ويشعله، وليكرر الآيات والأحاديث التي تحثّ على فرض الجهاد، وليختتم خطبته قائلا: يا شعب البحرين المكافح: ها قد لبيتم النداء، لكي تقفوا في وجه الظلم والمُنكر.
وما إن يبدأ تدريجيا خروج المصلين البطيء من المسجد، حتى يظهر لهم الشاب يوسف عبد الملك، من فريق محطة السيارات القديمة، بصوته القوي، مقلدًا طريقة الزعيم عبدالناصر في الخطابة، وهو يقول: أيها الأخوة المواطنون: يا أبناء المحرق والحد وقلالي والمنامة، يا أبناء البحرين هيا إلى النضال هبّوا إلى الكفاح.
وتنطلق المظاهرة تجوب شوارع المحرق حتى ساعات العصر المتأخرة، ويُشاع خبر المظاهرة في كل أرجاء البحرين.
نتابع توثيق أحداث انتفاضة مارس، ففي السابع من مارس 1965 عند الساعة الثالثة والنصف فجرًا، داهمت المخابرات بقيادة بوب، مع مجموعة من الشرطة المدججة بالسلاح، منزل المناضل مطيويع في المحرق، الواقع في فريق محطة السيارات القديمة (استيشن)، وكان الجميع يتوقع قدومهم، ذلك أن طائرة الهليكوبتر المؤجرة من الجيش البريطاني -التي وُضع ملصق جانبي عليها على عجل، كُتب عليه شرطة البحرين- كانت وسيلتهم الوحيدة لالتقاط صور المناضلين، والإبلاغ عنهم، بعد عرض تلك الصور على الجواسيس، للتعرف على المناضلين، وخصوصا الذين يُحملون على الأكتاف، ويهتفون الأراجيز.
ومنذ اندلاع الانتفاضة في بداية مارس 65 ، لم تتمكن الشرطة من الاقتراب أو تصوير المتظاهرين في أحياء المحرق وشوارعها.
ولم يكن لديها إلا عدد قليل من الجواسيس، لا يتعدى الثلاثة، وكانت الناس تعرفهم، ويُطلق عليهم قرّاريص ومفردها قرّوص، نسبة إلى النملة الكبيرة المشهورة بقرصتها المؤلمة.
هجمت الشرطة عند فجر السابع من إبريل على بيت المناضل مطيويع، وطرقت عدة أبواب، وكان البيت في زقاق غير نافذ، وكان يبعد عن المسجد عدة أمتار، وكان المناضل قد أحكم باب البيت من الداخل بجذوع النخيل (الدنجل)، لكي يؤخر اقتحامهم، وليتسنى له الهرب عبر أسطح الجيران، أو عبر حظيرة البهائم المحاذية لبيته، ثم يليه بيت مبارك سيار، أي أن أسطح الجيران متقاربة وممتدة من فريق محطة السيارات القديمة شمالا إلى فريق سيادي والحياك جنوبا.
طرقوا الباب مرات عدة، بعنف وبأعقاب البنادق.
يقول مطيويع: " كنت أطلّ عليهم من ثقب الباب، وأنا مطمئن بأنهم لن يستطيعوا الدخول إلى البيت إلا بخلع الباب، أو عندما يفتح لهم أحد الباب من الداخل، حينما يتمكن من إزالة جذوع النخيل، وتمنيت آنذاك أن تكون بين يدي آلة تصوير، لأوثق المشهد، وأشار بوب رئيس الاستخبارات على جنوده آمرًا إياهم أن يأخذوا عدة الخلع ويهجموا على البيت، وعندما سمعت صوت مزلاج الباب، قلت لنفسي: أهرب في الحال، وتسلقتُ جدار بيتنا، ودخلت سطح الجار الأول، بيت إبراهيم بدري، وبعده بيت أحمد شمسان، خال عبدالعزيز ويوسف مال الله، وإذا بخُوار البقر يلعلع، وكأنهم يخبروني أن العسعس قد دخلوا البيت، لأن البقر لا تخور إلا في حالة الخوف أو عند دخول غريب مكانها، وكانت إنارة كشافات الشرطة تضيء أسطح المنازل الملاصقة كلها، وعندما وصلتُ إلى بيت أحمد شمسان، نزلتُ مسرعًا إلى المطبخ وبقيتُ فيه حوالي الساعة، حتى عاد الهدوء وسكتت الأبقار عن الخوار، وكانت الشرطة تفتش بيتنا بحثًا عن أي شيء، وأفرغوا شوالات العلف كلها بحثًا عن سلاح أو منشورات، وعندما لم يعثروا على أي شيء، أقتادوا أخي إبراهيم وأخي عيسى رهينتين، وهددوا أبي بأنهم سوف يعتقلونه لاحقًا إن لم يسلم لهم عبدالله نفسه.
وعند صلاة الفجر خرجتُ مع المصلين، وذهبتُ مباشرة إلى البيت الذي يختبأ فيه أحمد الشملان وعيسى بن رشدان وراشد القطان وشاكر عقاب، وكانت الاعتقالات على أشُدها، منذ نهاية مارس وحتى نهاية مايو 1965، وممن تم اعتقالهم آنذاك المناضلين: محمد سيف عجلان المناعي، ومحمد جابر صباح سيادي، وحمد المخضبي، وأحمد بوجير، وأحمد يعقوب كمال، وعبدالله إسماعل والعديد من شباب نويدرات، وسترة، والحد، وقد وصل عدد المعتقلين إلى حوالي 500 معتقل".
تُعلمنا انتفاضة مارس الكثير من الدروس المهمة، أولها: وحدة الشعب بكل طوائفه، وثانيا: تضامن الشعب كله مع مطالب الانتفاضة، ثالثا: مشاركة مختلف الطبقات الاجتماعية في الانتفاضة سواء الأغنياء، أو الطبقة الوسطى (البرجوازية الصغيرة)، أو العمال (الطبقة الكادحة)، رابعا: وحدة وتضامن مختلف فئات المجتمع مع الانتفاضة، المهندس والطبيب والطالب والعامل والموظف والمعلم والبنّاء والتاجر والبائع وغيره، ، وتضامن المرأة مع الرجل والطفل والشيخ مع الانتفاضة، كلهم مع الانتفاضة المُباركة، خامسا: الروح الوطنية الجامعة التي تُقدّم مصلحة الوطن على مصلحة الفرد.
ومن ذكريات مارس 1965 الطريفة، كانت المنشورات لحركة القوميين العرب تصدر باسم جبهة القوى القومية التقدمية، وكانت تُطبع في المنامة على آلة كاتبة (ستانسل)، سرقها أحد شباب الحركة من إحدى المدارس، كان بيت محمد جاسم الشكر في المحرق، هو المكان الذي تصل منه الرسائل والمنشورات إلى المناضلين، وكان للمرأة دورًا بارزًا في توصيل المنشورات وتوزيعها، وذات يوم تم إرسال عدد كبير من المنشورات من المنامة إلى المحرق، وكان المُكلف بإيصالها الأخ خلف أحمد خلف، وكانت التوصية أن يُسلّم المنشورات إلى مطيويع، وصل الأخ خلف إلى فريق محطة السيارات القديمة، حاملا معه كيس كبير من المنشورات، ودخل إلى زقاق بيت مطيويع غير النافذ، وطرق الباب، لكن لم يلق ردًا، ولم يُفتح الباب، واحتار ماذا يفعل، وكان يوجد مقابل البيت مكانًا مهجورًا، دخل الخرابة، وخبأ كيس المنشورات تحت الحجارة، وعندما همّ بالانصراف، فإذا بالكلاب التي تسكن المكان تهجم عليه وهي تنبح، أصابه الذعر وصار يهرول مسرعًا كالصاروخ حتى نهاية الشارع، وكان لحظتها مطيويع عائدا إلى البيت، فسمع نباح الكلاب من بعيد، فعرف أن غريبًا قد دخل الزقاق، فأسرع الخطى، ولمح خلف وهو يهرول نحو الشارع، عرفه وأوقفه متسائلا عن سبب هلعه، فقال له: الكلاب أولاد الكلب هجموا عليّ وفضحوني. استغرقا في الضحك، واستلم عبدالله المنشورات لتكون أكبر كمية تصل من المنامة، ليتم توزيعها في المحرق والحد وعراد وقلالي.
وحادثة أخرى حدثت عند بيت يوسف الساعي، قرب عين العمامرة، حيث ألتحم بعض المتظاهرين مع شرطة الشغب، وكان من المتظاهرين رجل يُدعى بوصلّوح، ومن صفاته أنه عفوي ومرح لكنه بذيء اللسان، وعندما أرادت الشرطة الدخول إلى داخل الأحياء، تصدى لهم عدد من الشباب بالحجارة، لكن بوصلّوح أراد أن ينفرد بحركة تصدٍ أكبر، فقام يكيل الشتائم على الشرطة، وهو يقول: يا مرتزقة يا أوغاد، وأعطاهم مؤخرته وفعل حركة بذيئة، فإذا بخراطيش الشوزن تنهمر على ظهره ومؤخرته، ليسقط على الأرض مضرجا بالدم وهو يصرخ مستغيثا.
هرع كل من مطيويع وحمد العليوي، لسحبه لكي لا تقبض عليه الشرطة، وأدخلوه بيت العليوي، وأقفلا الباب من الداخل، واستمرت المظاهرة حتى آذان المغرب. وفيما بعد أرسلت الجبهة بوصلّوح إلى الكويت للعلاج.
ربما أجمل ما في انتفاضة مارس هو تضامن الشعب كله مع المتظاهرين، كانت البيوت مفتوحة أبوابها لكل من يريد أن يحتمي بها، يُقدمون للمتظاهرين رؤؤس البصل والماء للتخفيف من تأثير مسيلات الدموع التي تقذفها الشرطة على المتظاهرين، ويمكن أن يختبأ المناضلين في أي بيت، فكل البيوت ملجأ لهم.
إن توثيق أحداث انتفاضة مارس المجيدة أمانة في أعناق من عايشها، حيث لم تُعد ملكًا لأي أحد، بل هي أمانة للتاريخ وللأجيال القادمة.
*ذاكرة المناضل عبدالله مطيويع هي المرجع الأساس لتسجيل هذه المذكرات.