اعداد : عبد الله جناحي
مسيرة تشكيل المنظمات المسلحة في الكيان الصهيوني:
إذن، ماذا سيحصل للخوف عندما ينغرس في داخل الحياة والهوية السياسية لدى اليهود؟. لنأخذ سيرة أحد الصهاينة الأوائل لنرى ما يحذرنا من مخاطر الخوف، فيوسف برتر الذي شهد قتل أخته في المذابح الروسية التي حدثت في سنة 1905، كتب هذه المشاعر "كيف يمكنهم أن يمضوا في العيش كما لو أنه لم يكن ثمة ما يحدث؟ هل يمكنهم أن يمحوا من ذاكرتهم اغتصاب أخواتهم وتعذيبهن، وذبح أطفالهم وأمهاتهم؟ هل يمكنهم أن ينسوا ضربة الحديد التي تقتل؟. أشعر أن روحي ترتعش، ويداي يصيبهما الوهن". لذلك يمكننا تتبع المسار التاريخي للمنظمات اليهودية التي تأسست للدفاع عن النفس، وذلك قبل تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948. ابتدأت من الوحدات اليهودية الروسية للدفاع عن النفس، إلى وحدات المليشيا المكونة من الصهاينة الشباب والمسماة هاشومر، وهي مليشيات تشكلت في فلسطين بين سنة 1907 وسنة 1914 لحماية المستوطنات الزراعية، إلى الألوية اليهودية التي حاربت إلى جانب الجيش البريطاني في الفترة ما بین 1917 و 1918، إلى إنشاء الهاغانا، نواة الجيش اليهودي الحديث الذي أنشئ سراً في سنة 1920 والبالماخ ، وهي وحدات الجيش القتالية ذات التدريب العالي، التي تشكلت بتعاون كامل مع البريطانيين وتمويل منهم، كما ضمت منظمة الإرغون إلى قوات الدفاع "الإسرائيلية" في سنة 1948.
الأبناء الصهاينة يعلمون آبائهم معنى "الحياة العنيفة":
أهم من كل هذه المنظمات العسكرية المشار إليها أعلاه، هو حدوث تحول جذري بين الموجات الأولى من المهاجرين إلى فلسطين الذين استقروا في المستوطنات الزراعية، وبين الجيل التالي من أبناؤهم، حيث حدث صراع بين الآباء والأبناء. والعامل الحاسم لهذا الصراع هو أن الجيل الجديد عاش فترة ثورات العرب الفلسطينيين ما بين سنة 1934و 1939 إذ حلت شخصية المحارب اليهودي محل شخصية اليهودي المستكشف الرائد من الجيل القديم. وأصبح من واجب الأبناء أن يعلموا الآباء ("الحياة" في هذا البلد الذي تحتاج إلى المسدس والسكين والقنبلة والقتل مثل أي مكان آخر. فلماذا يُطلب من اليهود في "إسرائيل" أن يكونوا مختلفين عن بقية الخلق؟). وجد هذا الجيل نفسه محصوراً بين مؤسسي الوطن والمهاجرين الذين سيتدفقون بعد الحرب العالمية الثانية، معلقاً في الزمن، ولا يجد مكاناً يتحرك فيه من غير القوة العسكرية. وسيظهر من صفوفه أشخاص مثل موشي دايان، وشيمون بيرس، وإسحاق رابين.
الصهيونية تُقدم لنا فرصة فريدة لرؤية العذاب وهو "يتعسكر":
كتب أحد اليهود الروس في رد فعل له على موجة جديدة من المذابح ضد اليهود في روسيا عام 1903 "يسعدني أنني تعذبت. اقترب المشاغبون من البيت الذي أعيش فيه، النساء بدأن بالصراخ والعويل وبضم الأطفال إلى صدورهن، ولم يكن يعرفن إلى أين يتجهن، وقف الرجال مشدوهين، وتصورنا جميعاً أن حياتنا ستنتهي بعد لحظات. ولكن حمدًا لله، فقد خافوا من الجنود وهربوا ولم نُصِب بأذى. يسعدني أنني تعذبت". لقد ذهب الكثير من أوائل الصهاينة إلى فلسطين هرباً من المذابح الروسية، (ولذا غدا إنقاذ اليهود من العذاب التاريخي كان العامل الأساس في البداية للهجرة إلى فلسطين، أكثر منه استعادة للوطن المفقود).
العذاب التاريخي يتحول إلى العار القومي:
بدأت التعبئة في صفوف الشباب اليهود الروس سنة 1905 تحت مقولات مثل "يجب علينا الآن تحويل الوحدة المرعبة لآلامنا واحتجاجاتنا، لصرخاتنا وعويلنا، ولكل ما اختنق في حلوقنا. لأن الخوف من أعدائنا منعنا من إخراجه، أما الآن فإلى العمل الضخم الذي بدأناه لإنقاذ شعبنا وبعثه". لكن هناك في هذا المنطق التفافة مخيفة أخرى- حسب كتاب روز، (فالعذاب لا يصبح مجرد استجابة لخطر راهن محدق، بل يصبح شيئًا أشبه بالعار القومي، فما إن جرى الربط بين العذاب والهوان، أو فلنقل ما إن تحولت مسألة الظلم التاريخي إلى جرح نرجسي، حتى غدا كل ما يُرى على أنه اعتداء على اليهود، مهما كانت أسبابه، بمثابة الاعتداء على الهوية اليهودية، وليس على أنه مجرد خطر غير مقصود، أو حتى عندما لا يكون خطراً على الإطلاق، وإنما توهم بوجوده. فالجرح النرجسي يحوله إلى خطر). وما تاريخ إنشاء شعب "إسرائيل" سوى جزء من سلسلة من الإزاحات يصبح فيها أعداء اليهود، مرة بعد أخرى، أشباحاً من الاضطهاد الذي تعرضوا له في السابق، كل شبح منها حقيقي وغير حقيقي في الوقت نفسه، خطير خطراً لا حدود له لكنه أيضا شبح. فمثلاً: ظهر العرب الذين كانوا يغيرون على المستوطنات اليهودية من دون أسلحة، تذكر في تصريحاتهم وكأنهم نفس ما حدث في روسيا: جماهير المشاغبين في المدن الذين تدعمهم أجهزة الدولة الروسية تحرضهم لقتل اليهود.
عقدة الصهاينة:
في مايو 2003 کتب جونثن سپایر، المستشار السابق لحكومة الليكود للعلاقات الدولية لصحيفة الغاردين: (خضوع "إسرائيل" معناه المزيد من الاعتداءات عندما نبدو ضعفاء نكون عُرضة للهجوم). ولذا فإن كل إنجاز تحقق للفلسطينيين بالمفاوضات هو - حسب هذا المنطق - هزيمة داخلية ساحقة. ولذلك تحولت عودة ياسر عرفات إلى غزة بعد اتفاقية أوسلو إلى شعور بالمهانة على المستوى القومي. كتب الدكتور تالمُن، المحاضر في الجامعة العبرية في القدس في سنة 1957 "قد يكون مصير شعبٍ من الشعوب، مثل مصير الفرد؛ نتيجة للجراح التي تعرض لها في طفولته المبكرة، أي باختصار - نتيجة لتجربة أساسية حاسمة". هذه هي عقدة اليهود الصهاينة.
اليهودي يجب أن يبقى الضحية دائماً؛ لأن الضحايا لا يخطئون
أما رسالة "إسرائيل" الأخلاقية، فهي (الشعب الذي لا وطن له يجب أن يبقى بلا وطن. العالم انقسم هكذا، وهكذا يجب أن يبقى. تلك هي الأخلاق إن أردت. أو ببساطة: أتريد أخلاقاً أم تريد أرضًا؟)، هذا ما يكرره الصهيوني في الماضي والحاضر، ولربما في المستقبل. أما اليوم فإن هذه المحاجة تصل نتيجتها المنطقية بالادعاء بأن كل نقد "لإسرائيل" هو معاداة للسامية؛ لأنها تلقي على اليهودي طلبات أخلاقية غير منصفة.
"هناك كثير من الطيبين الذين لا يكرهون اليهود، ولكنهم يمقتون اضطهاد الفلسطينيين، ولهذا السبب يتهمونهم الآن بأنهم أعداء للسامية". إن النظر إلى مشكلة اليهود على أنها تعبير عن عداء أبدي للسامية، وليس على أنها جزء لا يتجزأ من الواقع السياسي للعالم الحديث، وهذه العقدة كانت وما تزال من أخطر أخطاء الصهيونية السياسية.
التحرير من البحر إلى النهر، شعار طرفي الصراع!:
إن الصهيونية الراهنة، كما الصهيونية الأولى، هدفهم احتلال كل فلسطين، والقضاء على كل الفلسطينيين، سواء تم الإعلان عن ذلك حالياً من قِبل الصهاينة، أو كان مسكوت عنه في الماضي من قِبل الصهاينة المؤسسين.
في إعلان بلتمور في مايو 1942 بعد اجتماع غير عادي للصهاينة الأمريكان حضره كل من فايتسمان وبن غوريون، اتخذ الاجتماع قرارًا بالمطالبة بكل فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني. وقد أتخذ قرار لاحق في أتلانتك ستي وأيدته المنظمة الصهيونية العالمية، وهذا القرار لم يرد فيه ذكر للعرب الفلسطينيين على الإطلاق.
كل هذا التاريخ المكشوف والمخفي للحركة الصهيونية بكل تياراتها العلمانية والاشتراكية والتوراتية والخلاصية-الصوفية- تؤمن، وتعمل، من أجل تعزيز كيان صهيوني على كل فلسطين، من البحر إلى النهر. كلهم -إلا القلة - يعملون لإنجاح الثوابت الثلاثة لديهم: القوة، المزيد من الأراضي، بناء الدولة. ووسيلتهم المشتركة: المزيد من تهجير الفلسطينيين، مع المزيد من توطين اليهود. نعم، التهجير والتوطين وجهان للعملة الصهيونية. فهل بعد ذلك يصر البعض على "وهم" الدولتين!. بدلاً من الإصرار على تحرير كل فلسطين، من البحر إلى النهر؟.