بقلم : عبدالله جناحي
نجاح فلسفة العقوبات البديلة، يتطلب وجود وعي مجتمعي لدعم المحكوم عليه والتعاطف معه وتشجيعه، والغفران له إذا ما لم يتمكن في البدء التأقلم مع وضعه الجديد، والدفاع عنه أمام الجهات الرسمية، والعمل على إيجاد بدائل أنسب له إذا لم يفلح في عمله الذي تم اختياره له.
كل هذه الطرق والوسائل والتدابير، شاهدتها في الفيلم البولندي جوني Johnny ٢٠٢٢. وهو فيلم مستوحى من قصة حقيقية حول علاقة كاهن مُعاق، ومُصاب بورم سرطاني في دماغه مع مجرم منذ صغره، مدمن لبودرة الهيروين، غير قادر على التأقلم مع المجتمع، قضى نصف حياته في السجون، والنصف الآخر في عالم المخدرات والسرقات والعطالة.
وحين يتم تطبيق قانون العقوبات البديلة عليه، في بنده "العمل في خدمة المجتمع"، يستقبله الكاهن الذي كان يدير داراً للمسنين المصابين بأمراض خطيرة لا أمل للشفاء منها، حيث يضطر إلى العمل معه في رعاية هؤلاء الذين في طريقهم إلى الموت البطيء. ورغم أن المحكوم عليه هذا، كان كارهاً لهذا العمل ويتغيب كثيراً؛ إلا أن الكاهن المُكلف بتوظيفه في دار المرضى المزمنين هذه، لم يقدم تقريراً سلبياً عنه، بل كان بمثابة أخ له، مستوعباً صعوبة تأقلمه. وتدريجياً، بدأت التحولات الإيجابية تتعزز في شخصيته، وتتراجع النزعات الإجرامية، وعدوانيته تجاه المجتمع. بدأ يقترب بحميمية وحب من المُسنات العاجزات، يحس بإنسانية المشاعر المتبادلة بينهما، وينهار كلما مات إحداهن بسبب السرطان. وهنا أدرك الكاهن رهافة مشاعر هذا "المجرم"!، وأدرك بأنه يمتلك موهبة وملكة الطبخ، والإبداع في صناعة أطعمة لذيذة، لذلك جاهد في إقناع الجهات الرسمية، من النيابة العامة، إلى إدارة السجون، بإعطاء هذا المحكوم عليه فرصة للعمل في مطابخ المطاعم الراقية ليصقل موهبته هذه. وفي نهاية الفيلم، نشاهد هذا الرجل وقد أصبح رئيساً للطباخين في مطعم راقٍ، ويحتضن ولديه وزوجته.
العبرة من هذا الفيلم الذي يسرد قصة واقعية حدثت بالفعل في بولندا، بأن نجاح فلسفة العقوبات البديلة يتطلب ليس فقط تأهيل وتدريب المحكوم عليه، والمطبق عليه هذه العقوبة البديلة الخاصة "بالعمل في خدمة المجتمع"، بل المطلوب أيضاً تدريب وتعليم الجهات التي ستحتضن هؤلاء بأن يكونوا كالمعلمين في المدارس، صبورين ورؤوفين ومحبين لهؤلاء الذين يحتاجون إلى دعم حتى يرجعوا للمجتمع أسوياء وأقوياء.
في سياق هذا الفيلم، كان لدى البعض في دار العجزة والمسنين المرضى، الشك في إمكانية إصلاح هذا المجرم، فكان جواب الكاهن:
"كما يكافأ في الشطرنج البيدق حين يصعد إلى النهاية، فيصبح أقوى. هكذا حين يبدأ الضعيف يكافح ليصعد، فيصبح الأقوى".
(البيدق، ذلك الجندي، هو أضعف أحجار الشطرنج، واللاعب الصبور-الكاهن في الفيلم- هو الذي يعمل من أجل توصيل البيدق-المحكوم عليه في الفيلم- إلى آخر مربع من رقعة منافسه، متخطياً ومتحدياً كل القلاع والأفيال والفرسان والبيادق، وحين يصل هذا البيدق الضعيف إلى المربع الأخير للاعب المنافس، يصبح وزيراً، أقوى الأحجار في لعبة الشطرنج). هكذا تمكن الكاهن/اللاعب أن يُحَوَّل المجرم الضعيف كالبيدق إلى طباخ ماهر، ورب أسرة مسؤول، مفعم بالحب والسلام والأمل.
إن فلسفة العقوبات البديلة هي أن يتم تحويل الإنسان المحكوم عليه بجريمة ما إلى إنسان جديد مقبول في المجتمع ومنتج وصالح. وهذا لن يتحقق إذا كان الطرف الآخر من المعادلة صاحب العمل، غير واعٍ وغير مستوعب لأهمية دوره في تعزيز الحب في شخصية المحكوم عليه، والإيمان بأن الجميع يستحق فرصة ثانية، لينطلق في المجتمع من جديد.