DELMON POST LOGO

صناعة الألمنيوم في الخليج وإرادة عقلين متوقدين متنورين

بقلم : عبد النبي الشعلة

في الأسبوع الأول من هذا الشهر زرت مسقط بسلطنة عمان الشقيقة، وشاركت كالعادة في الاحتفال الذي يقام سنويًا بمناسبة انعقاد مجلس إدارة “المجلس الخليجي للألمنيوم”، الذي يعقد جلساته كل عام في إحدى الدول الخليجية المنتجة للألمنيوم النقي، الذي يتم إنتاجه تحت درجات حرارة عالية جدا، بعد صهر وتنقية مادة الألومينا المستخلصة من خامة البوكسايت؛ وهي عملية تستهلك كميات هائلة من الطاقة أو الغاز الطبيعي المتوافر في المنطقة بكميات كبيرة. إن توافر الطاقة كان العامل الجاذب لإقامة هذه الصناعة في الدول العربية الخليجية، التي أصبحت الآن من أبرز المناطق العالمية لإنتاج الألمنيوم النقي، حيث يبلغ إنتاجها السنوي أكثر من 6.5 مليون طن، ما يشكل 10 % من الإنتاج العالمي. وتُوجه الدول العربية الخليجية 40 % من إنتاجها للصناعات التحويلية المحلية، وتصدر الباقي إلى أكثر من 62 دولة حول العالم، ما يعزز مكانتها كمصدر رئيس للألمنيوم في الأسواق الدولية.

في مسقط، اجتمع هذا العام حوالي 200 شخصية خليجية، من مختلف دول العالم، من كبار المصنعين والموردين والخبراء والمختصين ومتخذي القرار في هذه الصناعة، التي صارت تمثل أحد أعمدة التوسع والتنوع الاقتصادي في المنطقة، وتعزز الصادرات الخليجية غير النفطية، وتسهم بفعالية في توظيف وتأهيل الأيدي العاملة الوطنية.

وفي السنوات الأخيرة، سيطر الهم البيئي على مناقشات هذا الاجتماع وغيره من الاجتماعات واللقاءات المتعلقة بصناعة الألمنيوم في دول مجلس التعاون، التي أصبحت جادة في سعيها نحو تقليل البصمة الكربونية لهذه الصناعة بتبني مبادرات واستراتيجيات عدة، من بينها إعادة تدوير الألمنيوم، واستخدام التقنيات الحديثة النظيفة والطاقة المتجددة التي تؤدي إلى تقليل الانبعاثات الكربونية وتتفق مع أهداف الاستدامة الإقليمية، ورغم الصعوبات والتحديات فإن قادة صناعة الألمنيوم في الدول الخليجية ملتزمون بدعم جهود حكومات بلدانهم وتحقيق إنجازات ملموسة نحو الحياد الصفري بحلول 2050.

إن استمرار وانتظام انعقاد اجتماعات مجلس الألمنيوم الخليجي سنويًا وبهذا الحضور الدولي اللافت، يؤكد أهمية المكانة والدور الخليجي في المشهد الصناعي الدولي، ويعكس صورة ناصعة ونادرة لروح التعاون الإقليمي الخليجي، ويوفر منصة رفيعة لتبادل التجارب والخبرات والمعلومات والتقنيات اللازمة لتطوير هذه الصناعة الحيوية.

وعبر تعاون وتفاعل متخذي القرار الخليجيين المعنيين مع رواد هذه الصناعة في الدول المتقدمة، فقد حققت الدول الخليجية اختراقات وتطورات وإنجازات تكنولوجية بارزة في هذه الصناعة، من بينها نجاح دولة الإمارات العربية المتحدة عن طريق “شركة الإمارات العالمية للألمنيوم” في تطوير تقنيات بديلة وأكثر فعالية لصهر الألمنيوم وإنتاجه بكفاءة أعلى وتأثيرات بيئية وتكلفة مالية أقل، وهذه التقنية تسمى “DX Ultra”، وتضاعف القدرة الإنتاجية لخلايا الاختزال، وتقلل استهلاك الطاقة بنسبة 37.5 % مقارنة بالتقنيات الأخرى أو السابقة، كما أصبحت هذه الشركة في العام 2016 أول شركة صناعية خليجية إماراتية ترخص تقنياتها الصناعية الأساسية على الصعيد الدولي.

واستنادًا للمقولة المشهورة “ليس الفتى من قال كان أبي، إن الفتى من قال ها أنذا”، فإنني من بين المحبذين لتجنب تكرار الإشادة والإشارة إلى أن البحرين كانت سباقة بين دول المنطقة في هذا المجال أو ذاك، إلا أنني لا أجد مفرًا في هذا السياق من أن أقف أمام حدث تاريخي بارز لا يمكن تجاهله أو اعتباره مجرد إنجاز ماضٍ؛ لأنه أصبح حقيقة شامخة حاضرة ماثلة أمامنا اليوم، إضافة إلى كونها مسؤولية مستقبلية تركت وما تزال تترك آثارها وتداعياتها الإيجابية على البحرين والدول الأخرى في المنطقة، وهذا الحدث كان مبادرة البحرين بإرساء صناعة صهر وإنتاج الألمنيوم النقي في منطقة الخليج العربي في العام 1968م، عندما أسست “شركة ألمنيوم البحرين” وكانت خطوة رائدة جريئة وشجاعة صارت مصدر فخر واعتزاز لشعب البحرين وشعوب المنطقة، وحافزًا للدول الخليجية الأخرى لولوج هذه الصناعة، كما أصبحت، وفي فترة قياسية، قاعدة أساسية للاقتصاد البحريني بعد أن بدأت إنتاجها في العام 1971م.

إن مبادرة اقتحام هذه الصناعة وتوطينها جاءت في الأساس نتيجة لإرادة وعزيمة وبعد نظر عقلين متوقدين متنورين؛ الأول كان المغفور له صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وشقيقه صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، طيب الله ثراهما وأسكنهما فسيح جناته، كان هدفهما تعظيم وتكثيف الاستفادة من مصادرنا الطبيعية وإيجاد مصادر دخل رديفة وتوفير فرص عمل للبحرينيين وأجيالهم اللاحقة، وقد أسندت مهمة تنفيذ هذا المشروع إلى الوزير القدير المرحوم يوسف بن أحمد الشيراوي، وزير التنمية والصناعة وقتها، والمعروف بقدراته المتميزة وكفاءته الإدارية العالية، وقد نجح في إنجاز المهمة وتنفيذ المشروع بعد أن وُفق في استقطاب الاستثمار اللازم والحصول على أحدث التكنولوجيا المتوفرة وقتها، وجلب الكفاءات الإدارية والفنية اللازمة لتحقيق هذا الحلم.

إن الوفاء يحتم علينا أن نقف وقفة إكبار وتقدير أمام شخصية المرحوم يوسف بن أحمد الشيراوي، الذي اختاره الله إلى جواره في العام 2004م.

كان الشيراوي مؤهلا أكاديميًا؛ فقد كان حاصلًا على درجة البكالوريوس في الكيمياء من الجامعة الأميركية في بيروت ودرجة الماجستير في الكيمياء الصناعية من جامعة (غلاسكو) في المملكة المتحدة. وإلى جانب تأهيله الأكاديمي العلمي، فقد كان أديبًا مثقفًا ومتحدثًا لبقًا لا تنقصه الجرأة في طرح أفكاره ورؤاه.

وبعد إكمال دراسته الجامعية التحق الشيراوي بالعمل الحكومي في العام 1950، وصار مساعدًا لمستشار حكومة البحرين وقتها السيد تشارلز بلغريف، وتدرج في مناصبه الإدارية والوزارية؛ فتقلد حقائب وزارية عدة، كان آخرها وزارة التنمية والصناعة التي أسندت إليه في العام 1971 حتى تقاعده في العام 1995.

كان الشيراوي إنسانًا مخلصًا أمينًا يتمتع بثقة ودعم الراحلَين الأمير ورئيس الوزراء (رحمهما الله)، وكان إداريًا متمرسًا إلى جانب كونه سياسيًا بارزًا، ولعب دورًا محوريًا في تنفيذ البرامج والمشروعات والمبادرات التي ساهمت في تطوير البحرين بفترة نهضتها الحديثة؛ فمنذ البداية كان له دور في المباحثات التي أجريت مع شركات النفط العالمية الراغبة في القيام بالتنقيب عن النفط في البحرين، وأصبح مسؤولا عن شؤون النفط، كما شغل منصب رئيس مجلس إدارة شركة نفط البحرين (بابكو) وعضوًا في المجلس الأعلى للنفط، ويعود الفضل إليه في تنفيذ خطط ومشروعات تطوير قطاع النفط والصناعة البترولية في البحرين، وكان قد لعب دورًا محوريًا في تأسيس شركة طيران الخليج، وقائمة المشروعات والإنجازات طويلة لا مجال هنا لذكرها.

طيب الله ثرى رائدَي صناعة الألمنيوم في الخليج وقائدَي نهضة وتقدم البحرين، صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (رحمه الله)، وصاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة (رحمه الله)، ورحم الله يوسف الشيراوي وكل الرجال المخلصين المسؤولين، الذين نفذوا ووضعوا الأسس لنهضة وتطور وطننا الحبيب، ووفق الله مليكنا المعظم حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وولي عهده الأمين رئيس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، حفظهما الله ورعاهما، ورزقهما البطانة الصالحة التي تعينهما وتشد من أزرهما، والله سميع مجيب.