بقلم : عبدالله جناحي:البحرين.
هل حان وقت انتهاء أوامر صندوق النقد الدولي، وبالأخص شروطه النيوليبرالية المتوحشة؟ فمن المعروف أن التوصيات التي يصدرها هذا الصندوق بشأن الأوضاع الاقتصادية للدول الأعضاء تركز على المزيد من تحرير الأسواق عبر المزيد من التخصيص، وتخفيض الضرائب على الدخول وأرباح الشركات وغيرها من الإجراءات. السؤال أعلاه جاء بعد صدور إعلانين من الولايات المتحدة نفسها، حامية النيوليبرالية ومنفذها منذ أكثر من أربعة عقود تقريباً.
ففي مارس 2022، قالت قناة "سي إن بي سي" التلفزيونية الأمريكية، إن الرئيس جو بايدن ينوي فرض ضريبة جديدة مقدارها 20٪ على أصحاب المليارات. ونقلت القناة عن وثيقة حصلت عليها، أن الرئيس الأمريكي يخطط لاقتراح حد أدنى لضريبة الدخل بنسبة 20٪ للأسر الأمريكية التي يزيد إجمالي أصولها عن 100 مليون دولار. وتقول الوثيقة إنه من المتوقع أن تدرّ هذه العملية على خزينة الدولة خلال السنوات العشر القادمة حوالي 360 مليار دولار. وبالطبع، هذا الاقتراح يحتاج إلى وقت طويل نسبياً حتى يتم إقراره داخل الولايات المتحدة. وإذا تحقق ، فهو مؤشر على تراجع واضح عن السياسات الاقتصادية التي كانت تروّج لها مؤسسات مالية تتحكم فيها أمريكا، ومنها صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
أما الإعلان الثاني فقد خرج من اتفاق عالمي حيث جرى مؤخرًا التوقيع على اتفاق عالمي يشكل نقطة تحول لضمان أن تدفع الشركات الكبرى ضرائب 15% كحد أدنى ويجعل من الأصعب عليها تجنّب دفعها، وذلك بعد أن انضمّت أيرلندا واستونيا والمجر للاتفاق الذي وصفه الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنه أساس لتكافؤ للفرص، حيث يهدف الاتفاق إلى إنهاء سباق مستمر منذ أربعة عقود بين حكومات سعت لجذب الاستثمارات وتوفير فرص عمل، من خلال خفض الضرائب بشدة للشركات متعددة الجنسيات، مما سمح لتلك الشركات اختيار أقل نسب ضرائب متاحة. وجرت المفاوضات لإبرام هذا الاتفاق منذ أربع سنوات، لكنها تحولت لتجري عبر الإنترنت خلال الجائحة، وبدعم من بايدن والتكلفة الباهظة لأزمة كوفيد-19، حظيت المفاوضات بدفعة قوية، إذ قال بايدن في بيان: "لأول مرة في التاريخ نؤسس لحد أدنى عالمي وقوي للضرائب، سيؤدي لتكافؤ الفرص أخيراً بين العمال الأمريكيين ودافعي الضرائب وباقي العالم".
ولفت إلى أنّه "وعلى مدى عقود، دفع العمال الأمريكيون ودافعو الضرائب ثمَن نظام ضريبي، كافأ الشركات متعددة الجنسيات عن نقل الوظائف والأرباح إلى الخارج، وهذا ما أدى ليس الإضرار بالعمال الأمريكيين فحسب، بل وضع كثيرين من حلفائنا في تنافس على الضرر كذلك".
كما يهدف الاتفاق إلى منع الشركات الكبيرة من جَنْي الأرباح في دول تنخفض فيها الضرائب مثل أيرلندا، بغض النظر عن مكان وجود قاعدة عملائها، وهي مشكلة أصبحت أكبر وأكثر إلحاحًا مع ظهور شركات التكنولوجيا العملاقة، التي يمكنها تنفيذ الأعمال بسهولة عبر الحدود، ومن بين 140 دولة مشاركة، دعمت 136 الاتفاق، ولم تنضم إليه بعد كل من كينيا ونيجيريا وباكستان وسريلانكا.
من جهتها، قالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي قادت المحادثات ومقرها باريس؛ إن الاتفاق سيغطي 90 % من الاقتصاد العالمي، فيما قال وزير المالية الألماني أولاف شولتس في بيان له: "اليوم خطونا خطوة مهمة أخرى في طريق العدالة الضريبية". بينما أشاد وزير المالية البريطاني ريشي سوناك بالاتفاق قائلاً: "أصبح أمامنا الآن طريق واضح المعالم لنظام ضريبي أكثر عدلاً، بحيث يدفع اللاعبون الكبار على مستوى العالم نصيبهم العادل في أي مكان يعملون فيه"، كما قال وزير المالية الفرنسي برونو لو مير؛ إنّ "الاتفاق سيضمن أن عمالقة القطاع الرقمي سيدفعون قسمًا عادلاً من الضرائب في الدول التي يحصلون فيها على دخل، وهذا الاتفاق يفتح الطريق أمام ثورة مالية حقيقية". وفي السياق، أبدت بعض الدول قلقها من تنفيذ هذا الاتفاق، حيث طالبت وزارة المالية السويسرية في بيان "بأخذ مصالح الاقتصادات الصغيرة في الاعتبار وقالت؛ إن تاريخ التنفيذ في 2023 ليس ممكنًا، فيما وصفت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، الاتفاق بأنه "انتصار للأسر الأمريكية ومجتمع الأعمال العالمي". وفي بيانٍ لها، أوضحت يلين: "حولنا مفاوضات مضنية إلى عقود من الرخاء المتزايد لكل من أمريكا والعالم. فهذا الاتفاق يمثل إنجازًا يتحقق لأول مرة في نطاق الدبلوماسية الاقتصادية"، فيما قال نائب رئيس شركة فيسبوك للشؤون العالمية نيك كليج في بيان: "لوقت طويل دعت فيسبوك إلى إصلاح قواعد الضريبة العالمية، وندرك أن هذا يمكن أن يعني (بالنسبة لنا) دفع ضرائب أكثر، وفي أماكن مختلفة، ويحتاج النظام الضريبي إلى أن يحظى بالثقة العامة، في حين يحقق للشركات الاستقرار. نحن سعداء بأن نرى توافقا دوليًا".
أمّا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ فقالت إنّ "الحد الأدنى للضرائب على الشركات سيتيح للدول جمع نحو 150 مليار دولار كعائدات جديدة سنويًا".
يُشار إلى أنّ الاتفاق تعرّض للانتقادات من منظمات غير حكومية وبعض الاقتصاديين؛ بسبب افتقاره إلى الطموح وانعدام المساواة التي قد يتسبب بها، حيث أفادت منظمة أوكسفام غير الحكومية، بأن عائدات الضرائب الإضافية الناجمة عن ضريبة 15%، ستفيد ثلثي دول مجموعة السبع الغنية والإتحاد الأوروبي، فيما ستستفيد أفقر البلدان بنسبة تقل عن 3 %.
وبغض النظر عن الانتقادات الموجهة لهذا الاتفاق، فهو قد فتح الباب أخيراً لتطبيق تصاعدي لضرائب الدخل على الـ 1% من البشر الذين يستحوذون على الـ 99% من الثروات. إضافة إلى أن هذين الإعلانين- ضريبة الدخل وضريبة الشركات- قد حسم أمر ضرورة تطبيقهما في كل الاقتصاديات في العالم، بما فيها منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، والدول التي تعاني من عجوزات كبيرة في ميزانياتها، وديون متراكمة بفوائدها التصاعدية سنة وراء سنة.
متطلبات نجاح تطبيق الضرائب:
أولاً: ضرورة استكمال الهياكل السياسية والقانونية والاقتصادية الضرورية لتطبيق النظام الضريبي، حيث إن غياب المؤسسات التشريعية والرقابية كاملة الصلاحيات، وغياب الآليات التنفيذية المعتمدة على التشريعات واضحة بشأن الضرائب وأجهزة متابعة ورقابة حديثة ومتطورة، وعدم انتقال الدول فعلياً الاعتماد على إيرادات من مصادر اقتصادية غير نفطية بشكل شبه كامل، وبالتالي اعتماد الدولة على الإنتاج بدل اعتماد الناس والقطاع الخاص على ريع النفط المسيطر عليه من الدولة الريعية، إن كل هذه المتطلبات يجب بالضرورة توفيرها أولاً لتحقيق النظام الضريبي نجاحه، كما في الدول المتقدمة الديمقراطية.
ثانياً: إن فلسفة نظام الضرائب تقوم على مجموعة من المبادئ والقواعد، وأهمها المساواة والعدالة، أي مساهمة الجميع ـ دون استثناء أو تمييز ـ في تحّمل النفقات العامة بحسب مقدرتهم النسبية، وفكرة العدالة تقتضي إعفاء أصحاب الدخول المنخفضة من أداء الضريبة بالنسبة لحد الكفاف، أي الحد الأدنى اللازم للمعيشة، وكذلك ضرورة مراعاة الأعباء العائلية بما يتناسب ومستوى المعيشة في المجتمع.
ثالثاً: ولنؤكد مرة أخرى أن النظام الضريبي مرتبط بمشاركة شعبية ديمقراطية، حيث "لا ضريبة بدون تمثيل" والتمثيل يجب أن يكون حقيقياً وليس شكلياً، ويترافق معه نظام رقابي شفاف، ومحاسبة جادة، ومعرفة لمآلات إيرادات الضرائب وإلى أين تتجه وكيف؟ كما أن الهدف الإنساني من الضريبة هو إعادة توزيع الثروة العامة، ومثلما أوضحنا فإن الاقتصاد الريعي واستمراره يتعارض بل ويعرقل نجاح النظام الضريبي، لأن من يمتلك ثروة النفط ليس من مصلحته دفع الضرائب.
رابعاً: إن معدل الضريبة يعكس بشكل مباشر حجم دولة الرفاه والسياسات التوزيعية للدخل، ولذلك فالملاحظ أن الدول الإسكندنافية ودول شمال القارة الأوروبية بشكل عام ترتفع فيها الضرائب وتكون دولة الرفاه في أفضل حالاتها.
خامساً: هناك كثرة من المختصين في مجال الضرائب والسياسة المالية يطالبون بتعزيز سياسة ضريبية لا تؤثر على الفقراء، كتنويع مصادر عوائد الضريبة بدلاً من الاعتماد على ضريبة مفردة غير مباشرة مثل ضريبة القيمة المضافة. وزيادة تحصيل ضريبة الدخل الشخصية من الأثرياء، واستهداف الاستهلاك المترافق مع رفع الضرائب على هذه السلع، وتحصيل الضرائب على رؤوس الأموال، بل البعض يطالب بضرائب على معاملات الصرف الأجنبية والتي تلعب دوراً في تقليل المضاربات بحيث يكون معدلها منخفض جداً (حوالي 0.1% أو أقل) كي لا يؤثر على المعاملات الحقيقية كدفعات الاستيراد والتصدير والحوالات من العاملين في الخارج.
ومثلما ذكرنا في الحلقة السابقة، بأن الدول الرأسمالية التي اخترعت وفرضت سياسات نيوليبرالية، بدأت في مراجعة تلك السياسات والتراجع عنها، واستوعبت أهمية وجود توزيع عادل للدخل والثروة والأرباح في مجتمعاتها، استباقاً منها لأي تمردات وثورات شعبية من جراء توسعة التمييز الطبقي بين الأثرياء والفقراء وذوي الدخل المحدود، وحتى بين الطبقات المتوسطة.