بقلم :عبدالله جناحي
أمام فشل النماذج الاقتصادية والاجتماعية في تحقيق الرفاهية والعدالة والمساواة، وأمام الأزمات المتسلسلة المستمرة في معظم الاقتصاديات العالمية التي تبنت الرأسمالية النيوليبرالية، وبالأخص في دول العالم الثالث. أمام كل ذلك، برزت على الساحة العالمية، سواء في عمق القارتين الأوروبية وأميركا الشمالية، أو في القارات التي تحتضن دول عالمثالثية فاشلة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.. برزت اتجاهات ونظريات ودعوات لفك الارتباط نهائياً مع النماذج الرأسمالية النيوليبرالية، والبحث عن الخيار الثالث، لا الاقتصاد الاشتراكي المركزي، ولا الاقتصاد الرأسمالي ذي السيولة لدرجة لا يمكن السيطرة على سياساته. هذا الخيار الثالث ينطلق من العودة إلى التراث المحلي لكل شعب من شعوب العالم.
تتبع منابع الشعبوية والتطرف:
يعتبر كتاب "زمن الغضب: تأريخ الحاضر" أحد أهم مؤلفات المفكر والروائي الهندي (بانكاج ميشرا)، وهو يستمد أهميته من الثقافة المزدوجة لمؤلفه الذي يجمع بين ثقافته وتنشئته الهندية واندماجه في الثقافة الغربية الإنجليزية. تقوم منهجيته على تتبع منابع الشعبوية والتطرف اللذين أصبحا يهيمنان على عصرنا، ويخلص إلى أن هذا الوضع مرده الإحباطات التي يشعر بها المهمشون الذين لم يجدوا ضالتهم في الحداثة كما تبلورت في العالم الغربي أولاً ثم انتشرت في العوالم الأخرى. يتجاوز المؤلف النظرة التجزيئية في تحليل الظواهر التي يشهدها العالم وأبرزها صعود التيارات الشعبوية التي يمثل انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي نموذجاً لصعود هذه التيارات. ويُرجع المؤلف كل هذه الظواهر التي قد تبدو متباعدة ومختلفة إلى مصدر واحد؛ فهي انعكاس للاستياء العميق لدى شباب يشعر بالتهميش بعد قرنين من التقدم الذي روّج له فكر التنوير الغربي وجسدته الحداثة الليبرالية.
من خلال هذا الطرح، يدحض المؤلف المقاربة التي تعتبر أن معضلات العالم تكمن أسبابها خارج الحداثة الليبرالية، وبالأساس على عاتق الإسلام وطبيعته العدائية المزعومة. ويذهب المؤلف أبعد من ذلك عندما يعتبر أن حركات مثل القومية الثقافية والإسلام السياسي والتقدمية والإرهاب والفاشية والتعددية تضرب جذورها كلها في فكر التنوير نفسه. فالنموذج الذي صاغه وصدّره الغرب الأطلسي والقائم على علمنة وتصنيع المجتمعات الحديثة يحمل في طياته، وفقاً للمؤلف، بذور أزماته وربما فنائه. فالحداثة التي تعصف بالبنى التقليدية تظل عاجزة عن الوفاء بوعودها بتحقيق المساواة والارتقاء الاجتماعي والسعادة والرفاهية، فتكون النتيجة أن يدب الغضب في نفوس شرائح عريضة من المجتمع ينتابها قلق عميق بشأن مصيرها وتشعر بأنها مقصيّة من ركب التقدم. مؤلف هذا الكتاب تتمحور أفكاره حول إشكالية التغريب لدى النخب الهندية. في سياق تاريخي فكري سياسي شيق يبين المؤلف أن الأحداث المتسارعة في عالم اليوم ليست أحداثاً عابرة آنية أوجدتها الظروف والمصادفات، بل تضرب جذورها التاريخية في طبيعة تطور المجتمعات الرأسمالية الحديثة ليستخلص من كل ذلك أن تاريخ الحداثة تاريخ معذّب تغلب عليه فترات الفوضى والعنف الطويلة، وتقل فيه فترات السلم والاستقرار القصيرة. ورغم ما قد يؤخذ على المؤلف من تشاؤم في نظرته إلى سيرورة العالم الحديث والمعاصر وآفاقه المستقبلية، فإن أهمية الكتاب تكمن في النقاش الواسع الذي أحدثه في العالم الأنجلوسكسوني بمقاربته الذكية التي تقترح مقاربة جديدة للتحولات الكبرى التي يعرفها عالم اليوم، لدرجة أن صحيفة غربية اعتبرت هذا المفكر الهندي من بين ستة مفكرين الأكثر تأثيراً في العالم.
مفكرون من المكسيك والصين وإيران:
يشير المؤلف في كتابه مجموعة من الآراء لكتاب ومفكرين وأدباء، منهم الشاعر والدبلوماسي المكسيكي الحائز على نوبل، أوكتافيو باز، في كتابه "متاهة العزلة" (1950) حيث يتأسف من أن "الإمبريالية لم تسمح لنا بالوصول إلى حالة تاريخية عادية" ونمو وتطور طبيعي منسجم مع تراثهم المحلي العريق. وكان باز يُقَيّم حصيلة المكسيك المتناقضة الموروثة من الحكم الاستعماري، وفشل مشاريعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية العديدة المستوحاة من مبادئ التنوير العلمانية والعقلانية الغربية. وكان باز نفسه موقناً أن المكسيك يجب عليها إيجاد المنهج الخاص بها لبلوغ الحداثة السياسية والاقتصادية. وفي كتاباته التي تعود إلى نهاية أربعينيات القرن العشرين، رأى باز أن الخلاص يكمن في "التوجه التقليدي" (traditionalism) الذي مثّله الزعيم الثوري إيميليانو زاباتا، مذكراً بأن زاباتا هو من حرر «الواقع المكسيكي من مخططات الليبرالية المقيدة وتعسف المحافظين والمحافظين الجدد».
وقد ظهر «تقليديون» آخرون كثيرون في العالم على شاكلة زاباتا، من غاندي إلى الشاعر طاغور، وفي الصين. وكان لهم تأثير في مجتمعات غير غربية في النصف الأول من القرن العشرين. والحقيقة أن هؤلاء لم يكونوا - معادين للغرب بقدر ما كانوا متخوفين من المحاكاة العمياء والشاملة لمؤسسات وأيديولوجيات أوروبا الغربية والولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي. وفي النصف الثاني من القرن خلص «تقليديون» آخرون كثيرون إلى أن نموذج التنمية الغربي-الرأسمالي أو الشيوعي- لا يتلاءم مع ظروف بلدانهم. وقد تخصص بعض هؤلاء التقليديين مثل الإسلامي المصري سيد قطب، في التخيلات الغوغائية والمتطرفة للخلاص، واقترح آخرون أفكاراً عملية مثل وضع برنامج يأخذ بعين الاعتبار الظروف السائدة في المجتمعات الزراعية الآسيوية، وتشجيع الصناعات الصغيرة الملائمة للبيئة المحلية عوضاً عن المصانع على النمط الأمريكي؛ وألهمت هذه الأفكار مخططين عمرانيين في الولايات المتحدة والبرازيل في تطبيقها على بعض مناطقهم.
على أن خمسينيات القرن العشرين شهدت تراجع تأثير هؤلاء المفكرين الداعين للارتكاز على حلول تعتمد على الموارد المحلية، في وقت سارت فيه آسيا وأفريقيا على درب المنافسة الوطنية على نطاق واسع على أساس الأفكار الوافدة من الغرب. ودأب مستشارو الديكتاتوريين التغريبيين من قبيل شاه إيران ورئيس إندونيسيا سوهارتو، على قراءة كتب عن الاقتصاد الرأسمالي، وغدت مثل هذه المراجع أكثر جاذبية مما كتبه المفكر الثوري الإيراني علي شريعتي أو المفكر الإندونيسي سويد جاتموكو. ورأى كثير من قيادات الدول اليساريين في برامج الدول الشيوعية والاشتراكية وحتى الحركة الاشتراكية الفابية-حزب بريطاني اشتراكي إصلاحي، يدعو إلى التغيير السلمي والهادئ- مرجعيات أكثر وضوحاً لتقوية أممهم، بينما أهملوا أفكار المثقفين من بني جلدتهم، فتم نسيان زاباتا حتى في بلده المكسيك، ولم تعد توجيهات غاندي في الهند سوى طقوس خاوية. وفي سبعينيات القرن العشرين، اتضح جلياً أن الوصفات الغربية لم تكن مجدية. وعلى العكس من ذلك فإن: "خطاب واستراتيجية التنمية اللذين روج المنظرون والسياسيون في الخمسينيات بأنهما سيبنيان مملكة الوفرة الموعودة، أوجدا واقعاً مناقضاً تماماً يتميز بالتخلف الشامل والتفقير والاستغلال والقمع على نحو غير مسبوق"، وأن "علاقة كثير من مثقفي العالم بالغرب شهدت تحولاً مهماً، وكان السبب في ذلك عدم قابلية النموذج الشيوعي للتطبيق، وعدم ملاءمة نماذج التنمية الرأسمالية المختلفة، وظهور وعي بأن تاريخ التحديث في الغرب لا يمثل الطريق الأوحد إلى الحداثة". وأن «الفرد الكوزموبوليتاني» هو عالم سابق لأوانه في بعض مجتمعات العالم الثالث، ومقلد للإنجازات السطحية لحضارات مهيمنة غربية رأسمالية أو اشتراكية، هؤلاء المقلدون يسكنون في عالم الفئات الاجتماعية ذات الأبراج العالية في مجتمعاتهم الفقيرة، وليس لهم تواصل حقيقي مع الشعب».
وفي كتابه «تسمم بالغرب» (1962) الذي درس فيه خسارة الهوية المدمرة وآثار المحاكاة التملكية والذي يُعتبر نصاً محورياً في الأيديولوجية الإسلامية، قدم الروائي والكاتب الإيراني جلال آل أحمد، نظرة لا تقل انتقاداً للتغريبيين المحليين. وكان المثقفون الإيرانيون قد بدأوا منذ عشرينيات القرن العشرين صياغة نقد للحضارة التكنولوجية في وقت بدأت رحلة إيران على طريق الحداثة، وفي وقت سرَّع فيه شاه إيران المتسلط والمدعوم من الولايات المتحدة وتيرة برنامجه التحديثي الطموح. لقد استشهد هؤلاء المفكرون بأمثلة من الأدب الوجودي والعبثي-ريلكه وكافكا- عند تناوله لوضع الأحياء الهشة في طهران، ليؤكد أن مأزق الإنسانية مشترك في عدم وجود التوزيع العادل للثروة الوطنية.
نماذج ناجحة:
هناك عدد من الدول العالم الثالث تمكنت من الانطلاق والصعود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مسترشدين بمنظرين ومفكرين واقتصاديين من أبناء أوطانهم أو من أبناء الدول القريبة منها في الظروف والتطور التاريخي، والأهم من كل ذلك، الشبيهة في التراث المحلي. ولعل تجربة موريشيوس توضح ذلك.
فالهدف الرئيسي الذي تم وضعه هو في "ضمان مستقبل موريشيوس يكمن في (التنويع الاقتصادي) وتنمية الصناعات الجديدة مع رعاية ودعم صناعات المورد الطبيعي الوحيد لها وهو السكر". ورغم البدايات المتعثرة تحولت الجزيرة فيما بعد الى إحدى قصص النجاح القليلة في أفريقيا. فقد حلّت المنسوجات والملابس محل محصول السكر نسبياً، وتمكنت الديمقراطية السياسية النابضة بالحياة فيها من احتواء التوترات العرقية-الطائفية لدينا- التي كانت تمور تحت السطح. ولذلك فالنمو الاقتصادي السريع الذي تحقق وفَّرَ فرص العمل، وانتقلت الجزيرة ضمن الدول ذات الدخل المتوسط المرتفع بعد أن صار مستوى الدخل مماثلاً لمستويات الدخول في دول جنوب شرق آسيا. فقد ظل القطاعان الصناعيان- السكر والمنسوجات- والمتوجهان نحو السوق المحلي ونحو التصدير موجودين معاً وقتاً طويلاً نسبياً بسبب الحماية الحكومية لهما وذلك حتى التسعينات. واليوم صارت موريشيوس تملك اقتصاداً مفتوحاً ذا قاعدة صناعية قوية، لكنه يواجه تحديات المراحل القادمة من التنويع، لذلك لابد من إستراتيجية جديدة، حيث صناعة الملابس الجاهزة لم يعد يدفع الاقتصاد قدماً نتيجة زيادة الأجور المحلية والضغط التنافسي الخارجي.
وماذا عن البحرين؟:
نعم لدينا قطاعات اقتصادية عقارية ومصرفية، ولدينا النفط والألمنيوم والبتروكيماويات وغيرها، ولكن لدينا أيضاً الجزر المتناثرة والطقس الصيفي المقبول للسياحة العائلية الخليجية، والطقس الشتوي المقبول للسياحة الأجنبية الغربية، ولدينا ميزة نسبية معقولة في تحويل ثروة البحر والجزر إلى "صناعة" بمعنى الكلمة، خاصة بأن لدينا نواة ثروة بشرية تمتلك جينات الأجداد الغواصين والصيادين والمتبحِّرين في تربية وزراعة الثروة البحرية، وبناء السفن، كما لدينا الفلاحون والمزارعون القادرون على خلق صناعة زراعية حتى لو كانت متواضعة. ومع قيام "تمكين" بتمكين المزيد من الشباب للعمل في مثل هذه القطاعات الصاعدة اقتصادياً وتنموياً والمنسجمة مع تراثنا المحلي، لربما نخلق طريقاً ثالثاً في الاقتصاد يتوازى ويترافق مع النموذج الاقتصادي النيوليبرالي المفروض علينا!.