بقلم : محمد الانصاري
مر العالم في الأسبوع الماضي بسلسلة من الأحداث الاقتصادية والمالية المتسارعة ، والتي كانت لها تداعيات كبيرة وخطيرة على الكثير من المصارف والبنوك ، في العديد من الدول ، بشكل مباشر و غير مباشر ، وقد كان سبب هذه الاضطرابات المالية إنهيار بنكين أمريكيين مهمين وكبيرين بشكل مفاجئ وخلال وقت قصير لا يتجاوز ٤٨ ساعة ، وذلك في أكبر إنهيار بعد أزمة الرهن العقاري في عام ٢٠٠٨ ميلادية التي أدت إلى إفلاس بنك ليمان براذرز ، وقد جرى ويجري كل ذلك تحت مرئى ومسمع الفدرالي الامريكي أكبر مؤسسة تنظيم مصرفي ومالي في التاريخ.
وقفت حكومة الرئيس بايدن ، وباقي أجهزة الدولة في الولايات المتحدة الامريكية عاجزة عن عمل أي شيءٍ من شانه إنقاذ هذه الخسائر المالية الضخمة جراء إنهيار كل من بنك "سيليكون فالي" وهو البنك المصنف رقم ١٦ في حجم الإقراض ، و بنك " سيلفر غيت " ، وقد أدى هذا الانهيار لإثارة غضب المودعين ، كما أدى الى تساؤلات كثيرة حول نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (FRS) أو ما يسمى عرفاً بالبنك المركزي للولايات المتحدة الأمريكية ، خصوصاً في ظل حجم الهفوات والأخطاء الكبيرة في نظم إدارة هذه المؤسسة.
ان فهم المنظومة المالية والمصرفية الامريكي ، يستلزم بالضرورة فهم آلية عمل النظام الاحتياطي الفدرالي ، فقد تأسس هذا الجهاز الحكومي الفدرالي في عهد الرئيس ويلسون ، حيث صادق الكونجرس على قانون الفدرالي في ٢٣ ديسمبر ١٩١٣ ، اي تقريباً قبل ١١ عقد من الزمان ، وقد أُعلن حينها أن من أهداف القانون توفير نظام مرن وآمن وثابت للشؤون النقدية والمالية الوطنية ، غير إن النظرة لو تعمقت قليلاً لظهر لنا أن قانون الفدرالي يرمي لما هو أبعد من التنظيم المالي داخل امريكا ليصل الى الهيمنة على مالية العالم.
يعتبر المجموعة التي تدير الاحتياطي الفيدرالي الامريكي أكثر مجموعة تأثيرًا في الاقتصاد العالمي ، ومن خلالها تصدر القرارات المالية التي تعزز السيطرة الاقتصادية الامريكية على العالم ، وذلك نتيجة الهيمنة الصارمة و الكاملة على أكبر اقتصاد دون منازع في العالم ، هذا الموقع الذي بات يسمح لهم بالتحكم في قيمة الدولار ، كما يقومون من خلال نظام الاحتياطي الفدرالي بتنظيم أكبر سوقين للأوراق المالية في العالم ، وهما بورصة نيويورك (NYSE) و NASDAQ (NSDQ) ، وبهذه المنظومة تتمكن امريكا من إدارة اقتصادها العالمي و تضمن ان تتحول اقتصادات الدول إلى اداة لتحقيق أهدافها ، وإلا تطرد وتحاصر وتجوع.
بالنسبة للاقتصاد الامريكي أثبتت التجارب حاجة الفدرالي للمزيد من الرقابة والضبط لنظامها الاداري والفني ، خصوصاً بعد تكرار تجربة الانهيارات المالية للبنوك الامريكية ، أما بالنسبة لدولنا فلابد ان نبدأ في إتخاذ سياسات مالية مستقلة عن الفدرالي ، كما لابد ان نراجع هذا الارتباط الكامل بالعملة والنظام المالي الامريكي ، الذي بلغ لحد التبعية الكاملة ، رغم انفصال المصالح ، واختلاف طبيعة و ديناميكية الأسواق المحلية لدينا.
ان سبب الانهيارات الأخيرة في البنكين المذكورين هو الاتي :
١- نمى البنكين بسرعة كبيرة وذلك من خلال استخدام الاستثمارات قصيرة الأجل التي وردت لهم من خلال المودعين ، وهي في الواقع قروض قصيرة الأمد تسمح لمودعيها طلب سدادها مع الأرباح في اي وقت.
٢- من جانب آخر قام البنك باستثمار تلك الأموال في أصول بطبيعة استثمارية طويلة الأجل ، طبيعتها لا تسمح ببيعها او تسيلها بالسرعة المطلوبة.
٣- هذه التعاملات المليارية تم تنظيمها جميعها بموافقات واعتمادات من الفدرالي الامريكي.
٤- النمو السريع في الودائع من قبل العملاء ، الى جانب النمو السريع ايضا في الأصول التي اشتراها البنكان كانت معلنة و مرصودة في الموازنات التي عرضت على الفدرالي.
٥- السرعة الكبيرة في إرتفاع أسعار الفائدة غمس البنكين في الخسائر أكثر وأكثر.
٦- بدأ البنكين في جمع ودائع جديدة لتغطية خسارتها مما أشعر المودعين القدامى بالخطر ، فهرعوا لسحب أموالهم خلال يومين فقط ، ما تسبب في انهيار البنكين بشكل كامل وكلي.
ختاماً
أ - ليس بنكا "سيليكون فالي" و"سيلفيرغيت" الوحيدين الذين انهارا في الأيام القليلة الماضية ، بل ان مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية كشفت الخسائر التي تكبدتها الصناعة المصرفية الامريكية والتي تقدر بنحو ٦٢٠ مليار دولار حتى نهاية ٢٠٢٢ ميلادية ، مع العلم إن الخسائر مازالت مستمرة وقد تتجاوز الترليون ، ليسجل هذا الانهيار أكبر إفلاس في تاريخ الولايات المتحدة، متفوقاً بكثير على خسائر أزمة الرهن العقاري الذي تم تقديرها بقيمة حوالي ٦٠٠ مليار دولار.
ب - المزيد من الانهيارات في امريكا باتت وشيكه ، فنفس سياسة البنكين متبعة في بنوك أخرى ، وهي جميعها في طريقها للانهيار واحدة تلو الأخرى ، فضلاً عن ارتدادات وتأثير هذه الخسائر على البنوك والشركات التي مولت المودعين او البنوك.
ج - فقدان الولايات المتحدة الامريكية السيطرة الكاملة على الميدان السياسي والعسكري لا يمكن باي وجه من الأوجه فصله عن فقدان الهيمنة على الاقتصاد العالمي ، وبداية أفول نجم الولايات المتحدة.
د- الطريقة التي تم فيها معالجة الخسائر في البنوك مثل "سيليكون فالي" لا تشجع على البيع عند ظهور الخسائر مما قد يتسبب في تفاقم المشكلات ونموها.