ضرورة إعادة توزيع الثروة للاستثمار في المستقبل واقتراح بانشاء ضريبة ثروة تصاعدية عالمية تفرض على أصحاب الملايين
بقلم : ابراهيم شريف السيد*
ثانيا: مشهد اللامساواة العالمي
الجائحة- فقراء وأغنياء:
قالت ويني بيانيما مساعد الأمين العام للأمم المتحدة في ندوة عقدت بدافوس في مايو 2022 حول العنصرية وهو المؤتمر الذي جمع أثرياء العالم الذين حقق أغلبهم أرباحا قياسية أثناء الجائحة: "العنصرية لا تقتصر على خنق السود والملونين بسبب عنف البوليس. العنصرية هي عندما يفقد السود والملونون آخر نفس لهم بسبب عنف السياسات". أضافت السيدة بيانيما أن عدم حصول الشعوب الملونة على اللقاحات هو شكل من أشكال "عنف السياسات". فرغم مرور 18 شهرا على توفير أول لقاح ضد كوفيد-19 فان من حصل على اللقاح في البلدان الفقيرة التي يقطنها الملونون فقط 13% مقابل 75% في البلدان الغنية التي أغلبها من البيض.
خلال العقود الماضية التي شهدت توسعا في التفاوت بين دخول وثروات الأغنياء خاصة أثرى الأثرياء من جانب، وبقية خلق الله من فقراء ومتوسطي حال، كان الاعتذاريون الليبراليون يقدمون تبريراتهم لهذه الظاهرة، فمرة يحتجون بأن الفائدة تعم الجميع أو أن هذا التفاوت أمر طبيعي لرفع الكفاءة الإنتاجية وتحقيق معدلات نمو كبيرة، أو أن الإحصاءات التي يقدمها الباحثون غير دقيقة. غير أن العقدين المنصرمين شهدا جهدا علميا كبيرا لإثبات خطورة المنحي الليبرالي الذي ساد الغرب منذ الثمانينيات وفُرض على دول العالم النامي من قبل المؤسسات الدولية والدول المانحة الغنية.
تقرير اللامساواة العالمي 2022
خلال الربع قرن الماضي انكب باحثون بينهم توماس بيكيتي، توني اتكنسون، ايمانويل سائيز، فاكوندو ألفريدو لدراسة هذه الظاهرة وساهموا في انشاء مختبر اللامساواة العالمي الذي يصدر هذا التقرير. يرصد تقرير هذا العام أوضاع اللامساواة في الدخل والثروة في العالم. وقد لاحظ التقرير أن الوضع الحالي لعدم المساواة شبيه بما كان عليه العالم قبل قرن من الزمان في أوج العهد الامبريالي الغربي. يملك أغنى 1% من الأمريكيين حوالي 36% من كل ثروات بلادهم فيما يملك أفقر 50% منهم أقل من 2% .
مازالت اللامساواة الجندرية هائلة على مستوى العالم إذ تجني النساء فقط 35% من مجموع الأجور. أما في المنطقة العربية فهي لا تتجاوز 15%. كما أن هناك لامساواة حتى في كمية الانبعاث الحراري، فمساهمة الأغنياء في التلوث البيئي أكبر بكثير من الفقراء بسبب كثافة الاستهلاك لديهم.
اللامساواة في الدخل: إحصاءات توزيع الدخل والثروة على مستوى العالم تكشف عن الحجم الكبير لتفاوت الدخل والثروة بين الطبقات الاجتماعية. إن أغنى 1% من سكان العالم في عام 2021 يحصلون على أكثر من ضعف ما يحصل عليه أفقر 50% من الدخل العالمي (من الأجور والأرباح)، 19% مقابل 8.5%، ويملكون 19 ضعف ما يملكه أفقر 50%، 38% مقابل 2%.
وقد احتفظت المنطقة العربية (المسماة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENA) بالمركز الأخير حيث يبلغ نصيب أغنى 10% حوالي 58% من اجمالي الدخل وأفقر 50% ما يقارب 8% فقط، فيما تصدرت أوروبا الموقع الأفضل تليها مباشرة شرق آسيا
اللامساواة في الثروة: هنا تزداد الفجوة، بين ما يملكه الأغنياء (عقارات، أسهم، سندات، نقود، الخ ناقصا الديون)، وما يملكه الفقراء ومتوسطي الحال. ويمكن ملاحظة أن الطبقة الوسطى الأوروبية حافظت على حصة من الثروة تعادل تقريبا نسبتها من السكان في حين أن حصة زميلتها الأمريكية تقوضت منذ عقد الثمانينيات بسبب نمو ثروات أغنى 1% على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة. رغم ذلك فان التفاوت يبقى كبيرا بين أغنى 10% و أفقر 50% حتى في أوروبا الي تبنت منذ عقود نموذجا يقوم على "دولة الرفاه".
لكن التركز لا ينتهي عند الـ 10 الأغنى، لأنه يستمر في التركز إلى أعلى كما توقع ماركس، إذ نجد أن أعلى 1% يملكون أكثر من الـ 9% الذين يتلوهم، وهكذا دواليك.
تنامي الثروات الخاصة على حساب العامة: منذ ثمانينات القرن الماضي تسارعت عملية تراكم الثروة الخاصة ووصلت إلى 525% من الدخل العالمي، فيما بقيت حصة الحكومات فيها دون الـ 100% من الدخل. لقد أصبحت الدول أغنى لكن حكوماتها أفقر. هذا التراكم في الثروة حصده بالدرجة الأول أغنى 10% وبالأخص أغنى 1% من البشر، كما عرضنا سابقا. إن النمو السريع في الثروة يساهم في زيادة حصة رأس المال من الدخل من ناحية، ويمنح أصحابه قوة سياسية هائلة تسمح له بفرض شروطه على حكومات أصبحت فقيرة نسبيا في مقابل رأس مال غني مكّنته العولمة من نقل أمواله من بلد لآخر بحثا عن الربح الأعلى والضرائب والقيود الأقل. وفي الوقت نفسه فان انخفاض ثروات الحكومات، في بعض الأحيان إلى ما دون الصفر كما في الولايات المتحدة وبريطانيا، لكن بالأخص في الدول النامية، يشكل تحديا كبيرا يقوض إمكانية دعم البرامج الاجتماعية التي تسهم في توزيع الثروة ومكافحة الفقر. وفي أثناء مكافحة الجائحة أنفقت واقترضت الحكومات لإنقاذ الاقتصاد وسجلت عجوزات كبيرة فيما كانت أصول الأثرياء ترتفع بسبب برامج الإنقاذ الحكومية.
يؤكد تقرير اللامساواة العالمي 2022 على ضرورة إعادة توزيع الثروة للاستثمار في المستقبل ويقترح انشاء ضريبة ثروة تصاعدية عالمية تفرض على أصحاب الملايين والمليارات المقدر عددهم بأكثر من 62 مليون شخص وتستخدم للتعليم والصحة والتحول المناخي. وقد قدر التقرير انه يمكن جمع 1.6 ترليون سنويا من ضريبة الثروة على ما يقارب 174 ترليون يملكها أصحاب الملايين والمليارات.
ويبين منحى الضرائب التحيزات الطبقية للنخب الحاكمة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، فقد تم تخفيض الضرائب على أرباح الشركات التي يملك أغلبية أسهمها الأثرياء في الوقت الذي رفعت ضريبة القيمة المضافة على المستهلكين الذين تشكل الطبقات الفقيرة والمتوسطة أغلب أفرادها. فبين عامي 2000 و2021 انخفضت نسبة الضرائب على أرباح الشركات في مجموعة دول OECD ومجموعة دول العشرين (G20) ما يقارب العشر نقاط مئوية من 32.3% إلى 22.9% للأولى، ومن 36.5% إلى 26.2% للثانية. ومنذ 2005 رفعت ثلثا دول OECD نسبة ضريبة القيمة المضافة فوصل متوسطها اليوم إلى 19.3%.
دور الديون والمعونات الخارجية في افساد المجتمعات واعاقة التنمية
هناك جدل حول جدوى المساعدات التي تقدمها الدول الغنية للفقيرة في المساهمة بإعادة توزيع الثروة في العالم. وقد صدرت العديد من الأبحاث التي تؤكد أن المساعدات المالية التنموية التي تقدمها الدول الغنية لبقية دول العالم لم تساهم فعليا في التنمية بقدر ما كانت تهدف لتعزيز الأهداف الجيوسياسية أو التجارية للدول الغنية وتوطيد العلاقات مع النخب الحاكمة الفاسدة التي كانت تختلس جزءا كبيرا من هذه المساعدات وتودعها في بنوك الأوفشور أو سويسرا أو تشتري عقارات في لندن وباريس أو تستثمر في أسواق المال الأمريكية، تحت عين ونظر المقرضين والمانحين. وقد اعترفت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تريزا مي في خطاب لها في كيب تاون في أغسطس 2018 بأن "بريطانيا ستستخدم موازنة المساعدات لتعزيز مصالحها الخاصة وتعميق علاقاتها التجارية مع أفريقيا" (رويترز).
يقول أنغوس ديتون الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن المساعدات التي تقدمها الدول الغنية للفقيرة كثيرا ما يكون لها مردود سلبي حيث تكون نتائجها افساد الحكومات وخفض معدلات النمو. ويعزو ديتون هذه الظاهرة إلى أن المعونات الخارجية تغير طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع، فالحكومة التي لا تعتمد على الضرائب والناس لتمويل موازناتها تكون عادة في حل من محاسبة ورقابة المجتمع.
ونشر الباحث وليم ايسترلي بحثا بعنوان "هل تستطيع المساعدات الأجنبية شراء النمو" بيَن فيه العلاقة العكسية بين النمو والمساعدات في أغلب الحالات: أي أن النمو الاقتصادي في الدول الأفريقية التي استلمت مساعدات مالية من الدول والمؤسسات الدولية انخفض كلما زادت جرعة المساعدات نسبة للناتج المحلي الإجمالي.
ظاهرة مشابهة يمكن أن نشاهدها في الدول الريعية التي يستعصي الإصلاح فيها بسبب التشوه الذي حدث في علاقة المجتمع مع الحكومة بسبب الثروة النفطية واعتماد الشعب على توزيعات الحكومة ووظائفها بدل اعتماد الحكومة على الضرائب التي يدفعها الناس التي تفرض معادلة "لا ضرائب بدون تمثيل". وفي كتابه "لعنة النفط" يرصد مايكل روس عدة ظواهر مرتبطة بزيادة حصة الفرد من الإيرادات النفطية نذكر منها: ظاهرة انخفاض ترتيب الدولة في مقياس الديمقراطية وحرية الصحافة، ظاهرة السرية وانخفاض الشفافية في الموازنة العامة، ظاهرة اخفاق أغلب هذه الدول في تحقيق نمو اقتصادي يبز معدل النمو العالمي رغم الرأسمال الهائل الذي تتيحه أموال النفط.
تقرير أوكسفام: أرباح من الآلام Profiting from Pain
يسلط تقرير منظمة أوكسفام (المعنية بمسألة اللامساواة والفقر) الصادر مايو 2022 الضوء على تعاظم تفاوت الثروة خلال الجائحة، ويؤكد "الحاجة الملحة لفرض ضرائب على الأغنياء في خضّم طفرة في ثروة أصحاب المليارات وأزمة عالمية في تكاليف المعيشة".
يلاحظ التقرير انه بينما كانت جائحة كوفيد-19 تجتاح العالم فقد انخفضت دخول 99 %من البشرية بسبب الجائحة، فيما ارتفعت ثروات أصحاب المليارات إلى 12.7 تريليون دولار بزيادة 42% خلال الجائحة. وقد تضاعفت أسعار الغذاء والطاقة والدواء وأنهكت الفقراء، وفي الوقت نفسه زاد عدد أصحاب المليارات في قطاع الصناعات الدوائية 40 مليارديرا جديدا، والغذائية 62 مليارديرا جديدا، وشهد أصحاب المليارات في قطاع النفط والغاز والفحم الحجري زيادة في ثرواتهم وحققت أكبر خمس شركات في قطاع التكنولوجيا أرباحا بلغت 271 مليار دولار في 2021، بزيادة 94%.
كل هذه الثروات جُمعت في وقت حدث فيه أكبر تفاقم للفقر المدقع منذ أكثر من عقدين، وتوفي أكثر من 20 مليون شخص بسبب الجائحة، ودفعت الأزمات المركبة لجائحة كورونا وتفاقم اللامساواة وارتفاع أسعار المواد الغذائية 263 مليون شخص إلى براثن الفقر المدقع. وقد فشلت الحكومات في منع الجائحة من تعميق اللامساواة القائمة على النوع الاجتماعي، فطُردت النساء من العمل بشكل غير متكافئ واتسعت فجوة الأجور بينهن والذكور.
ويخلص التقرير على أنه يجب على الحكومات أن تعمل الآن على كبح جماح تنامي الثراء الفاحش وزيادة الضرائب المفروضة على الثروة والأرباح الاستثنائية للشركات، واستخدام هذه الأموال لحماية الناس العاديين في مختلف أنحاء العالم والحد من اللامساواة ومن المعاناة. كما ينبغي اعتبار لقاحات كورونا منفعة عامة، ويجب السماح لأي بلد يريد إنتاج لقاح القيام بذلك.
--------------------------------------------
ورقة مقدمة للمؤتمر القومي العربي في دورته الحادية والثلاثين