من الصعب اصلاح الاقتصاد وتوزيع الثروة بشكل عادل دون التصدي في الوقت نفسه لمسألة حكم القانون والإصلاح السياسي الشامل
يقترح الباحثون في هذه الدراسة على اعتماد دين عام في الدول النامية لا يتجاوز 40% من الناتج المحلي الإجمالي
بقلم : ابراهيم شريف السيد*
مخاطر الدين العام:
في الوقت الذي كانت فيه ثروات الأغنياء تتوالد بسبب طبيعة نمو رأس المال، أو فساد النخب السياسية الحاكمة والاقتصادية المرتبطة بها، أو محاباة النظام الضريبي لأصحاب الدخول والثروات الكبيرة، كانت ديون الدول تتكاثر، أغنياء يزدادون غنى ودول تزداد فقرا.
الديون العامة الهائلة التي جمعتها كثير من الدول النامية (أو المسماة كذلك) ليست أرقاما مجردة ناشئة عن عجز الدولة في تغطية نفقاتها. هي في الحقيقة نتيجة لخيارات تنموية خاطئة، خيارات تتداخل فيها المصالح الخاصة للنخب الحاكمة ورديفتها من النخب الاقتصادية الطفيلية والرأسمالية المحسوبية مع مصالح الدول الكبرى الجيوسياسية وشركاتها ومؤسساتها المالية. وقد شجعت المؤسسات الدولية التي تشكل "اجماع واشنطن" هذه الأيديولوجيا التي من نتائجها ربط الاقتصاد المحلي بالمركز الرأسمالي وتكوين نخب سياسية واقتصادية ومدنية مؤثرة تعتاش على هذه العلاقة، والتخلي عن السيادة القومية في القرارات الاقتصادية وخاصة القرارات الخاصة بشبكة الأمن الاجتماعي والاستقلال الاقتصادي. لذلك يرتبط موضوع الدين العام، خاصة الخارجي، ارتباطا وثيقا بموضوع العدالة الاجتماعية التي لا يمكن تحقيقها بالارتهان لقرارات تستهدف تحقيق مصالح خارجية.
وقد يخلق تراكم الدين العام عبئا على الأجيال القادمة، جيل يقترض وجيل يسدد. وفي حالة البحرين، وجدنا أن الدولة تقترض ما يقارب مليار دولار سنويا زيادة على ما تحتاجه لتمويل نفقاتها المعلنة والمقرة في الموازنة التي تمر عن طريق مجلس النواب. هذه الديون العامة، إضافة للعجز الاكتواري الكبير في صناديق التقاعد الذي بلغ أكثر من 40 مليار دولار، سيتحمل وزرها الأجيال القادمة التي ستعيش أغلبها بعد انتهاء عصر النفط. جيل ينفق ويستلف وجيل يشد حزام التقشف ويسدد ديونا لم يستلفها!
إن مبررات هذه الاستدانة الهائلة بحجة مساهمتها في النمو، تقوضها دراسات كثيرة ذكرنا بعضها في مناقشة المشهد العالمي. وقد لاحظ صندوق النقد العربي في دراسة نشرت في مايو 2022 حول علاقة نسبة النمو الاقتصادي بالدين العام في 10 دول عربية إن العلاقة بين الاقتراض والنمو عكسية في بعض الحالات، في المديين القصير والطويل (أي انه كلما ارتفع الدين العام كلما انخفض النمو)، وان انخفاض الدين العام في حالات أخرى أدى لارتفاع نسبة النمو. ويقترح الباحثون في هذه الدراسة على اعتماد دين عام في الدول النامية لا يتجاوز 40% من الناتج المحلي الإجمالي.
وحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي حول نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي فانه يبلغ في السودان 284%، البحرين 117%، مصر 94%، الأردن 92%، تونس 87%، المغرب 77%، الجزائر 57%، موريتانيا 56%. وحسب تقدير للبنك الدولي لنهاية 2021، فان هذه النسبة تبلغ 183% في لبنان.
ضرائب على الفقراء:
عندما أفاقت دول الخليج العربي على حقيقة أن الطفرة النفطية الثالثة قد فقدت زخمها في 2015 و 2016 كانت أسعار النفط قد انخفضت إلى نصف متوسط أسعارها خلال العقد السابق. مرة أخرى بحثت دول الخليج في دفاترها القديمة حول خياراتها لتنويع مصادر الدخل، فلجأت إلى أسهل الحلول وأقلها عدالة في الوقت نفسه: ضريبة القيمة المضافة.
الخطوة ذاتها طبقتها دول عربية أخرى وجدت في ضريبة القيمة المضافة خيارا سهلا أمام غياب التمثيل الشعبي الحقيقي الذي يستطيع الدفاع عن مصالح الطبقات الاجتماعية المتضررة من نظام ضريبي يحمل الفقراء عبء سد عجز الموازنات العامة التي كان للفساد عاملا أساسيا فيها مع غياب المساءلة والرقابة على المال العام.
ورغم توجه الدول الصناعية الكبرى خلال العقود الأربعة الماضية لتخفيف ضرائب الدخل بسبب اعتماد سياسات نيوليبرالية، فان احصاءات دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، التي تمثل كبرى الاقتصاديات العالمية، تكشف أن ضريبة القيمة المضافة تمثل أقل من ثلث حصيلة الضرائب، فيما تبلغ هذه الضريبة تقريبا كل الحصيلة الضريبية في أربعة من دول الخليج العربي (باستثناء حصيلة اشتراكات نظام التقاعد)، وثلاثة أرباع الحصيلة الضريبية في الأردن، ونصف الحصيلة في تونس، و 46% في مصر حسب مجلة الإيكونيميست التي عنونت مقالا لها في أبريل 2022:"الحكومات العربية تفرض ضرائب على الفقراء". ومن الواضح أن اتجاه الدول العربية لزيادة مدخولها من الضرائب تم تحميله على الفقراء ومحدودي الدخل الذين يدفعون الضريبة على ما يشترونه من بضائع وخدمات، أي على كامل دخلهم، مقارنة بالأثرياء الذين يوفرون أكثر مما يصرفون، وينفقون كثيرا من أموالهم خارج البلاد.
هذا المشهد يتكرر في عديد من أقطار الوطن العربي. قبل ثلاث سنوات فرضت البحرين ضريبة قيمة مضافة 5% ضاعفتها هذا العام إلى 10%، وقامت بخفض الدعم عن الوقود والكهرباء وزادت الرسوم ورفعت اشتراكات نظام التقاعد، لكنها لم تقدم على فرض ضرائب سنوية على العقارات أو ضرائب على دخل الشركات والأفراد. وكانت العربية السعودية قد رفعت ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 15% لمواجهة آثار الجائحة وأبقتها حتى بعد أن تعافى الاقتصاد وارتفعت العوائد النفطية الى مستويات قياسية هذا العام.
ضرائب الدخل: وقد برر أصحاب القرار في دول الخليج العربي رفضهم فرض ضرائب الدخل على الأفراد والشركات بحجة أثر ذلك على جذب الاستثمارات الأجنبية، رغم أن 130 دولة بما فيها الولايات المتحدة وكبرى دول العالم أقرت في 2021 ضرورة أن تلتزم الدول بوضع حد أدنى على ضرائب الشركات يبلغ 15%. وقد كان التوجه العام للحكومات الخليجية هو تحميل المستهلك، المواطن والمقيم، تمويل العجوزات في موارد الدولة المالية خاصة في فترات انخفاض أسعار النفط، بدل طبقة الأثرياء الذين بحكم وجودهم أو قربهم من السلطة يقررون السياسات الضريبية.
لكن لا يبدو أن دول الخليج تستطيع استبعاد ضرائب الدخل طويلا، وقد أعلنت الإمارات في يناير 2022 أنها ستقوم باستحداث ضريبة على أرباح الشركات اعتبارا من يونيو 2023، وستُطبق بنسبة تبلغ 9% على الأرباح التي تتجاوز 100 ألف دولار. وكما يبدو من الإعلان الاماراتي، فان الأرجح ان الدول التي ستعتمد ضريبة على الدخل (دون الثروة) ستقصرها على الشركات دون الأفراد ولن تكون تصاعدية كما في الدول المتقدمة، مما يخفض العبء الضريبي على كبار الأثرياء الذين يملكون عقارات وأصول في الخارج تدر أرباح لا تشملها الضريبة المقترحة.
خاتمة
لا تقتصر أسباب اللامساواة في وطننا العربي على آلية التراكم اللانهائي التلقائي المتأصلة في طبيعة رأس المال. هناك آليات ما قبل رأسمالية تشتغل جنبا إلى جنب مع الآليات الرأسمالية وتضاعف عملية تركيز رأس المال في أيد نخب صغيرة من محتكري السلطة السياسية وحلفائهم في القطاع الخاص. آلية الفساد المستشري في جسد الدولة القطرية الذي يعتبر موارد الدولة غنيمة تستأثر بها النخبة الحاكمة وتستخدمها لرشوة المجتمع. لذلك من الصعب اصلاح الاقتصاد وتوزيع الثروة بشكل عادل دون التصدي في الوقت نفسه لمسألة حكم القانون والإصلاح السياسي الشامل .
يطرح بعض الباحثين رؤية تستند على نموذج انمائي جديد يجمع الطبقات الوسطى والفقيرة في تحالف ديمقراطي، وهو ما رآه أيضا الأمريكي عالم السياسة الأمريكي انغلهارت حول التحالف العريض بين الأغلبية ضد الأقلية الثرية. وتدعو هذه المطالب لتوجيه الاستثمارات في القطاعات التي توفر أكبر عددا من الوظائف الجيدة، وبتفكيك رأسمالية المحاباة واصلاح النظام الضريبي وخفض الانفاق العسكري، وعلى أهمية دور الدولة الاقتصادي خاصة في مجال التخطيط وتوجيه الموارد بعيدا عن التدخلات الخارجية. ويعنينا كثيرا كقوميين ما لاحظه الباحثون أن المنطقة العربية هي الأقل تكاملا في مجالات التجارة والاستثمار، وأن الخطوات الأولى في مسار التكامل الاقتصادي كفيلة وحدها بتحقيق فوائد هائلة قدروها بزيادة في الناتج المحلي بنسبة 3% سنويا. لكن كل هذه تحتاج إلى اصلاحات بنيوية للدولة العربية والمنظومة القومية تقوم على قواعد الديمقراطية والحكم الرشيد.
في الدول المتقدمة بدأ سياسيون بارزون في تبني فكرة ضريبة الثروة التي اقترحها عديد من الاقتصاديين، ضمن نظام ضريبي عالمي على الثروة وضرائب تصاعدية على أصحاب الدخول الكبيرة والتركات والعقارات. واقترحوا استخدام أموال هذه الضرائب في مضاعفة الاستثمار في الصحة والتعليم ورفع الأجور وزيادة الانفاق على شبكة الدعم الاجتماعي والتصدي لظاهرة الاحتباس الحراري، وضمان ثروة دنيا لكل شاب يبلغ سن الرشد (اقترح بيكتي رقم 120 ألف يورو في حالة أوروبا)، وتنظيم أسواق العمل وتنسيق دولي من أجل ضمان أكبر قدر من الشفافية لمنع التهرب الضريبي. وقد قدّر الباحثون الذين أعدوا تقرير اللامساواة العالمي 2022 أنه بالإمكان جمع 1.6 ترليون دولار سنويا في شكل ضريبة ثروة عالمية.
وفيما يتعلق بالأرباح الاستثنائية أثناء الكوارث والحروب، فقد اقترحت منظمة أوكسفام تدابير ضريبية تصاعدية تشمل ضريبة 90% على الأرباح الزائدة الناتجة عن الجائحة على أكبر الشركات في العالم، ضريبة تضامن عاجلة ولمرة واحدة بسبب الجائحة على ثروات أصحاب المليارات الجدد.
--------------------------------------------
ورقة مقدمة للمؤتمر القومي العربي في دورته الحادية والثلاثين