بقلم : عبدالله جناحي/البحرين
في عام ١٩٦٣ ابتكر العالم الفيزيائي إدوارد لورينتز نظرية أسماها (أَثر رفرفة جناحًي الفراشة). وهذا التعبير المجازي يصفُ تلك الترابطات والتأثيرات المتبادلة والمتواترة التي تنجم عن حدث أول، قد يكون بسيطاً في حد ذاته، لكنه يولّد سلسلة مaتتابعة من النتائج والتطورات المتتالية والتي يفوق حجمها بمراحل ما حدث في البداية، وبشكل قد لا يتوقعه أحد، وفي أماكن أبعد ما يكون عن التوقع، وهو ما عبّر عنه مفسرو هذه النظرية بشكل تمثيلي بما معناه، أن (رفرفة جناح فراشة في الصين قد يتسبب عنه فيضانات وأعاصير ورياح هادرة في أبعد الأماكن في أمريكا أو أوروبا أو اليابان).
إن مصطلح أثر الفراشة، يستعمل بقصد التعبير عن التأثير الذي يمكن أن تسببه الأحداث متناهية الصغر في العالم من حولنا، حيث يمكن لحدث صغير يكاد لا يُذكر أن يكون سبباً في حدوث نتائج هائلة الاتساع. ويمكن تشبيه أثر الفراشة بالدومينو المؤلفة من عدد متفاوت من القطع، مصفوفة بعضها خلف بعض، ما إن تسقط القطعة الأولى حتى تتداعى بقية القطع.
وهذا ما فعله (طوفان الأقصى) بعد "رفرفة" صواريخ المقاومة على رؤوس الجيش الصهيوني والمستوطنين الصهاينة في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.
يقول الشاعر محمود درويش في قصيدته (أَثر الفراشة):
أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٌ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامَةٌ في الضوء تومئ
حين يرشدنا إلى الكلماتِ
باطننا الدليلُ
هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ…
أَثرُ الفراشة لا يُرَى
أُثرُ الفراشة لا يزولُ!
التأثير الأول للرفرفة:
نعم، هذا ما أحدثه طوفان الأقصى، فهو من ناحية فضح الكيان الصهيوني، وفضح معه قيم ومبادئ وسياسات الدول الرأسمالية الأوروبية وأمريكا الشمالية، وكشف تردد وحيادية بعض الدول التي كنا نعتقد بأنها صديقة لقضيتنا الفلسطينية، وفضح معظم الأنظمة العربية التي انكشفت حقيقتها ومعدنها غير العروبي وغير الإسلامي وغير الإنساني، وجُبنها ورعبها من القوى الإمبريالية، ورضوخها المخجل لمواقف الكيان الصهيوني.
لو أن هذه الرفرفة الطوفانية حدثت في دولة غربية ديمقراطية، راسخة مؤسساتها السياسية والعسكرية والأمنية، لانتهت تأثيراتها في غضون أيام أو بضعة أسابيع. لكن رفرفة الطوفان ما زالت تأثيراتها المرئية واضحة، حيث كشفت ضحالة بنية وقدرات هذا الكيان العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية. وهذا الأثر (يُرى) للعلن بعكس ما قاله درويش في قصيدته.
الأثر الذي لا يُرى ولا يزول:
رفرفة الطوفان هي (التحول في النموذج). هذا التعبير يستعمل في مجال مناهج البحث العلمي، إذ يشهد العالم بين الحين والآخر "تحولاً في النموذج"، أي تتغير إحدى الفرضيات الأساسية التي كانت سائدة لفترة طويلة من الزمان. فمثلاً حدث تحول في النموذج عندما تغيرت نظرتنا إلى العالم من الاعتقاد بأن الأرض هي مركز الكون إلى القول بأن الأرض تدور حول الشمس-مركزية الأرض-. وكذلك بعد اكتشاف آينشتاين نظريته النسبية للمكان والزمان. كل هذه التحولات أخذت وقتاً طويلاً لكي تنفذ إلى المجتمع العلمي، ووقتاً أطول لكي تصبح مقبولة من الجمهور العام. وهذا ما سيحققه طوفان الأقصى من تحول جذري في نموذج نشوء "إسرائيل" وجذورها التاريخية، وحاضرها الراهن وحاجتهما إلى مثل هذا التحول في النموذج، فالنموذج السائد حتى الآن نتيجة لتزييف تاريخ المنطقة العربية المحيطة بفلسطين عامة، وتاريخ وحاضر فلسطين خاصة، على يد وصُنّاع الحركة الصهيونية العالمية، باعتبار الكيان الصهيوني منارة للديمقراطية والحرية والتقدم الاقتصادي والعلمي والجيش الذي لا يقهر،،،إلخ، في وسط منطقة شرقية عربية متخلفة حاقدة متطرفة. إن رفرفة الطوفان قد كشفت بأن كل هذا الترويج مجرد "وهم" زائف. وأن الطوفان قد بدأ يحل نموذجًا آخر محل هذا النموذج الصهيوني السائد، وهو الأثر الذي لغاية الآن (لا يُرى، ولن يزول). أثر فراشة الطوفان الذي لم يكن أحد يتوقعه، ها قد بدأ يظهر رويداً رويدا في الجامعات الغربية والأمريكية، وفي الساحات والميادين، ولدى الباحثين والمفكرين والأكاديميين والإعلاميين والأدباء والفنانين. وقد يكون ذلك- ولربما- رأس جبل الجليد، أو سقوط القطع الأولى من قطع الدومينو. إن أَثر رفرفة الطوفان في التحول الجاري في تغيير النموذج الصهيوني السائد، سيؤدي إلى ضرورة إحلال نموذج فلسطيني، وتاريخ فلسطيني، وحقيقة فلسطينية، بديلةً عما تم إقحامه والتلاعب فيه وغسيل عقول ووجدان الشعوب الغربية.
هذا هو الأثر الذي لن يزول، والأثر الذي لا يُرى لغاية الآن، والذي تنبأ له محمود درويش منذ عقود من السنين.