بقلم محمد حسن العرادي - البحرين
كانت البحرين على موعد مع ترؤس القمة العربية في مارس 2003، لكن تلك القمة نقلت إلى القاهرة بسبب أجواء الحرب الأمريكية على العراق، فتلبدت بسببها سماء المنطقة بغيوم سوداء أمطرت هيمنة وعصرٍاً أمريكياً دمويا، جعل أيامنا في الوطن العربي سوداء وجرداء قاحلة، وجثم على صدورنا منذ تلك الفاجعة التي تناسلت فضائعاً وفواجعاً عمت أغلب بلداننا العربية ولم تنتهي حتى الوقت الحاضر، وضاعت بذلك فرصة البحرين لإختبار قدرتها وتميزها على قيادة مؤسسة القمة العربية الذي كان مستقلاً في يوم ما، لكن أمريكا تغلغلت في ثناياه وزواياه حتى صارت هي الحاضر الأكبر والآمر الناهي رغم عدم جلوسها على طاولة القمة العربية بشكل مباشر.
ولأن الزمن لا تتوقف دوراته بحلوها ومرها فقد مر عقدان كاملان من القمم العربية الساخنة في بعض الأحيان والفاترة أغلبه، وقد تنقلت القمة بين مختلف الدول الأعضاء في الجامعة العربية وتراوح أداها بين قليلٍ من المنجزات وكثيرٍ من الإخفاقات خاصة في اللحظات الحرجة التي مرت بها الدول العربية وما أكثرها، وخاصة ما سمي بثورات الربيع العربي التي دمرت العديد من هذه الدول وأطاحت بأنظمتها وإستبدلتها بالفوضى وأنهارٍ من الدم والخراب.
وها هي البحرين تضرب موعدٍ جديدٍ مع القمة العربية هذا الشهر (مايو/ أيار 2024) ، في ظل أجواء إقليمية ودولية لا تقل توتراً وحساسية عن تلك التي مرت بها المنطقة في موعدنا الأول، لكن البحرين التي إجتازت خلال هذه الفترة الكثير من المحن والإمتحان، أصبحت أكثر قدرة وخبرة وإستعداداً لإحتضان القمة العربية وترؤسها، خاصة وأن ذلك يتزامن مع إحتفال البلاد باليوبيل الفضي لتولي جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين المعظم مقاليد الحكم، الأمر الذي يفرض إيقاعاً مختلفاً ويتطلب أداءً منسجماً مع تطلعاتنا للعب دورٍ غايةٍ في الإيجابية والتأثير .
إننا أمام إستحقاقٍ دبلوماسي وسياسي عربي من العيار الثقيل، حيث ستتولى البحرين رئاسة القمة العربية في ظرف إقليمي ودولي صعبٍ وحرجٍ للغاية، خيمت عليه نُذر المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني المدعوم من قبل أمريكا ودول الغرب، في ظروف تُنذر بحربٍ طاحنةٍ لا يعرف مداها أحد، حرب قد وضعتنا جميعاً على سطح صفيح ساخن بل ملتهب، خاصة ونحن على مشارف إكتمال الشهر السابع من العدوان الإرهابي الذي شنه الكيان الصهيوني على أهلنا واشقائنا الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر والصامد في وجه آلة القتل والتدمير العنصري.
وأمام هذا الإستحقاق الذي ينتظرنا وننتظره، نحتاج إلى مزيدٍ من الوحدة والإستقرار في جبهتنا الداخلية، كما نحتاج أن نستثمر فترة ترؤس بلادنا للقمة العربية نحو مزيدٍ من التكاتف والتعاون والوقوف على قلب رجلٍ واحد، حتى نُقدم لوطننا العربي عاماً من الريادة والقيادة يتلائم مع تاريخنا العريق ويُشرف بلادنا الحبيبة، وذلك لن يتأتى إلا إذا تمكنا من تحقيق التكامل في الأدوار بين مختلف مكوناتنا الإجتماعية، وعلى الأخص بين رؤية حكومتنا وتطلعات شعبنا.
ودون شك فإن ذلك يحتاج إلى أن نساهم جميعاً في القيام بأدورنا ونعزف سيمفونيتنا المؤثرة في إنجاح رئاستنا للقمة العربية القادمة كل فيما يخصه ويبرع فيه، الأمر الذي يعني بأن أداء السلطات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية ستكون تحت المجهر والمتابعة السياسية والنقدية والإعلامية على نطاق واسع، كما يعني بأن على السلطة الرابعة المعنية بالصحافة والإعلام والمطالبة بأن تكون في مستوى الحدث نقلاً وتحليلاً ومستوى ومتابعة، وتُكرس المزيد من حرية الرأي والتعبير والموضوعية، وما يترتب على ذلك من تعزيز دور التيارات الفكرية والجمعيات السياسية وضرورة إنفتاحها على المحيط العربي والعالمي بحرية وفاعلية تامة.
أما السلطة الخامسة (مؤسسات المجتمع المدني) فإنها بحاجة إلى دفعة قوية من العناية والدعم والإسناد، المتمثل في الإهتمام بها وبإحتياجاتها وتعزيز أدوارها حتى تكون قادرة على مواكبة الحراك المجتمعي في مختلف الدول العربية والعالم بصورة مشرفة، الأمر الذي يتطلب سرعة تصحيح طريقة التعامل معها من قبل الجهات المعنية وخاصة وزارة التنمية الإجتماعية بما يساهم في تعزيز الشراكة المجتمعية، و تنشيط هذه المؤسسات وتمكينها من إعلاء راية البحرين في كافة الميادين كما كانت تفعل في عقودٍ سابقة.
إن البدايات الجديدة تحتاج إلى دماءٍ وطاقاتٍ جديدة دائماً، مع قوة دفعٍ وإنطلاق تُعزز من القدرة على مواكبة الحراك المجتمعي في مختلف الدول العربية والعالم، ولا شك في أن تسهيل نجاح مؤسسات المجتمع المدني في ممارسة الأدوار المنوطة بها سيساهم في إستيعاب الطاقات والكفاءات الشبابية والإستفادة من الخبرات التي راكمتها الكوادر المجتمعية على مدى عقودٍ من الزمن والعمل الأهلي، لقد حان الوقت لتعزيز دور مملكة البحرين وتثبيت قدرتها على تقديم تجربة قيادية رائدة يُقتدى بها في قيادة مؤسسة القمة العربية في الفترة 2024/2025 ، خاصة وأننا أمام بداية إنطلاق اليوبيل الذهبي لقيام المملكة وتولي حضرة الملك المعظم مقاليد الحكم وجميعنا يتطلع إلى أن تكون تلك بداية قوية كما كانت بداية سنوات العهد عام 1999.
وأمام الخطوة الجريئة والجبارة التي إتخذها جلالة الملك المعظم بالعفو الكريم عن مئات السجناء والموقوفين السياسيين، تلك الخطوة التي أسعدت القلوب وأنارت الدروب بالأمل، والتي ننتظر بأن تتبعها خطوات إنفتاح وتسويات أخرى لما بقي من ملفات عالقة، فإن على الجميع أن يترفع عن الصغائر والمماحكات السياسية وتسجيل النقاط، في سبيل تعزيز الوحدة الوطنية والتماسك المجتمعي، وأن نكون جميعاً على قلبِ رجلٍ وأحدٍ يتمثل في جلالة الملك المعظم، من أجل أن نقدم هذا النموذج البحريني المشرف في قيادة القمة العربية، دون أن نستعجل في حرق المراحل، أو نقفز على الإستخقاقات بل نتيح الفرصة الكاملة لجلالة الملك المعظم لأن يتخذ قرارات إستكمال مشروعه الإصلاحي بإطمئنان وإنسجام وثقة تامة في أننا قد عَبرنا عنق الزجاجة وتجاوزنا مرحلة الخوف والهواجس والهلع وردات الفعل، وأن مجتمعنا لن يقع في الفخ مُجدداً ولن ينجر لمزيدٍ من الصراعات وإضاعة الفرص والوقت والجهد.
البحرين بحاجة إلى حثِ الخطى لتجاوز عثرات الماضي وإخفاقاته، بحاجة لأن تدير مملكة البحرين وجهها كاملاً نحو التفكير في البناء وتشييد المستقبل الآمن والمستقر، وأن توظف طاقات أبنائها في سبيل جعل هذا المستقبل مُشرقاً، متماسكاً وموحداً دون أي منغصات أو نواقص، مُستقبلٍ تسود فيه المواطنة العادلة المتزنة والعزيزة على الفئوية البغيضة، ويتبلور فيه الوعي والقرار بأهمية الكفاءة والقدرة على المبادرة والإبتكار على المحسوبيات والعرقيات والتملق الذي يخفي إنتهازية يحتمي بها الضعفاء والطائفيون.
في السنة القادمة التي يترأس فيها جلالة الملك المعظم القمة العربية، نُريد أن يتمكن جميع المواطنين البحرينيين القادرين على العطاء من النهوض والإبداع، والعمل على تعزيز حضور البحرين العربي والإقليمي والدولي كسفراء نشطين يمثلون بلادنا خير تمثيل، وأن لا ينشغل منا أحد بغير البناء والإبداع والإبتكار وتحقيق المنجزات، كما نريد لتجربتنا الديمقراطية أن تكتمل وتأخذ مساراً أكثر إيجابية وفاعلية، نريد لسقف الحريات المسؤولة عندنا أن يرتفع أكثر وبشكل مشرف، حتى لا يتباهى الآخرون علينا أو يتناولوننا بالنبز واللمز.
إنها دعوة للجميع لأن نتحضر جيداً لرفع راية البحرين عالياً وأن تكون فترة رئاسة مليكنا المعظم للقمة العربية فرصة لنا جميعاً لنقدم أنفسنا وبلادنا في دورها الريادي ومكانها القيادي، حتى لا يجرؤ أحد كائناً من كان لأن يقول بأننا أصغر دولة في الوطن العربية بعد الآن، بل نريد أن يتذكرنا الجميع بأننا الدولة والشعب الذي قدم أفضل تجربة لرئاسة القمة وأن نساهم في قيادة الأمة العربية لتخرج سالمة من أتون هذه الصراعات الدولية المحتدمة، ودون شك فإن تبييض السجون وعودة المهجرين واعادة الجنسيات ستكون من اهم الخطوات الايجابية لتحقيق الاستقرار المستدام، ونحن قادرون على ذلك متى ما تصافت القلوب وحسنت النوايا بعيداً عن الأصوات المأزومة المنزعجة من خطوات جلالة الملك المعظم حفظه الله، وخاصة خطواته المباركة بالإفراج عن عدد كبير من السجناء والله من وراء القصد.