DELMON POST LOGO

يا ساحرَ العينين لا تقتلعَ الروحَ مني، لا تنصتْ إلا لعشقي، وكنْ لي

لا تترك النخيلَ يجوع، والأرضَ للعطش،  لا تبتعدْ، لا تتركْ الغديرَ للأنين، ولا العشبَ للخرس

شعر فاطمة التيتون

(26)

أرى الناي وأسرارَ الهوى،

أرى بسمتي، أرى زمنَ الزنبقِ، عسلَ الشوق،

زخارفَ المدى، رقرقةَ السماء، وكركرةَ الشمس.

(27)

وتصمتُ المُنى، ويصمتُ عطرُ الشجر،

يخلو المكانُ، يخبو الصوتُ، تهوي القناديلُ، النجومُ تنام.

في الصمتِ تنسى الدماءُ الحياة، تضيعُ الألوان، والكلماتُ تندم.

العصافيرُ تختفي في الصمتِ، والوردُ يموت،

الأنهارُ تتجمد، وتذبلُ الأحلامُ والرؤى.

بيني وبينكَ أسلاكٌ شائكةٌ في الصمت.

لا تجرؤ الساعاتُ على الوصلِ ولا الهجر،

لا تنبسُ الثواني، ولا ينطقُ الحرف.

أرسلَ البرقُ رسولاً، لكنه لا يصل، وأكدتْ التفاحةُ أنها محرّمة.

وتصمتُ الأغاني، والنظراتُ، والملامحُ، والأصابع.

الحكايةُ فارغةٌ. والخطى تضيعُ في الخطى.

(28)

عادَ الصيفُ، عادَ الحزنُ إلى قلبي،

والمرايا عادتْ تتهجّى الساعاتِ واللحظات.

عادَ السأمُ يقرعُ البابَ، وعاودني البكاء.

اغرورقَ المدى بالدَّمِ، عادَ أنينُ الطيرِ والثمر.

عادَ الصيف، عاد النحيبُ إلى قلبي، عادَ يطرحُ الأسئلة،

عادَ النخيلُ إلى الأغنياتِ القديمة، عادَ خجولاً متوارياً متلهفاً.

عادَ الصيفُ ولم تعدْ، أخذتكَ الغيومُ بعيداً،

نسيتكَ العصافيرُ، والشهبُ لم تستفسر! لم يرقْ لها ألا تعود،

الصَفصَافُ جفَّ، وماتَ التوتُ ولم تعدْ.

(29)

وأبكي في نهاياتِ الخريف،

صارت الأحلامُ تذوي، والأماني تتلاشى.

بهجةُ العُمرِ تغور، ما كتبتُ الليلَ، لم أكتبْ رواية،

ضاعَ مزمارُ الهوى منّي، وضاعتْ شرفاتي،

العصافيرُ تناءت، والقناديلُ تهاوت.

لم يكنْ لي مطلقاً وردٌ وما كان العبير،

ألماً كنتُ، وكنتُ الصمتَ والحسرةَ واللوعةً والليلَ الحزين.

كانت الأسمالُ اسمي والقوافي والرجا، صرتُ محواً في مسافاتِ الردى.

إن أيامي قليلة، سيرتي محوٌ وهجرٌ وأنين،

أثكلتني الأزمنة، شرّدتني الأمكنة، لم يكن لي غيرُ مصباحٍ هزيل!

(30)

يضجُّ النحيبُ نهاراً، وتكتئبُ الفراشة،

يمرُّ الوقتُ مثخناً، والليلُ ينزعُ الرئتين،

يصوغُ النهايات، يكتبُ الرثاء، يعزف لحنَ الجنازة.

مات الغصنُ، ترهّلَ الموجُ، تهاوى النورس،

لا تصغِ للبحرِ إن البحرَ أبكم، وفي القارورةِ علقم.

(31)

ابتسموا للشجر، اسألوا السُّحبَ إلى أيِّ جهةٍ؟ وأيُّ مطرٍ؟!

عصا السِّحر تسألُ عن وردةٍ للعناقِ، عن لؤلؤٍ، عن وترِ.

احتفظوا بالزهورِ، بالندى، بالبراعمِ، بساعةِ السَّحَر، لا تبددوا الهوى.

احتفوا بالعصافيرِ كلَّ يومٍ، بالشدوِ، بالأغاني،

لا تحزنوا، لكم الزنبق والندى.

(32)

حين يعبرُ صوتي تذكري الكلماتِ التي بدأت،

والتي لا تنتهي، تذكري العشقَ في صوتي،

اسكنيني مرتين في الوقت، تأملي حزني،

حاوري العطرَ حين أراكِ، ابتسمي حين أكونُ بعيداً،

تذكري السما واذكريني،

هل بيننا غابات؟ هل فرقتنا أوقات؟ لكنني أنتِ، فكوني أنا.

وتذكري لن نتوارى عنا حتى نُوارى التراب.

(33)

يأتون ويرحلون ويموتون.

ما أقسى الوقت! ما أقسى الكلام. ما أشدَّ الطعنَ في أول النهار.

ما أمرَّ رصاصَ الحُبِّ، ما أمرَّ النورَ حين يبكي!

(34)

من أيِّ حديثٍ عابرٍ أتيتَ؟

وكيف جمعتَ الحرفَ والحرف؟

في أيِّ سحابةٍ غادرت؟ وكيفَ بددتَ الوعد؟

أيُّ عابرٍ كنتَ؟ وأيُّ عبورٍ كان؟

اللهفةُ صارت لوعة؟ والشوقُ صارَ الرماد؟!

(35)

ماتَ الوجدُ، السُّحُب تبددت، الأرضُ صارت للعطش.

كان وهماً، كان شكّاً، كان همّاً، وشظايا في الخلايا.

(36)

صوتُ النهارِ حزين، العشبُ أبكمُ، والوردُ أصمّ.

أرضٌ يابسةٌ، عصفٌ منذ الصُبحِ، وأسئلةٌ،

كم مِن الصقيعِ يمرُّ وكم مِن اللهب.

(37)

كنْ لي، لا تكن لسواي، كن بلسمي اللامنتهي،

وأغنيتي الخالدة، كنْ الشِعرَ والقيثار، والفصول،

كنْ وردةً لا تزول، كن عنادي والجنون، كُنْ شفائي، كنْ خبزي والماء،

وصديقاً للعصافيرِ، كنْ بسمتي والاغتراب،

(38)

الوقتُ لم يكنْ، لم ترجِعْ الطيورُ، والسما مسافرة،

الوردُ يبكي واليمامُ، ولم تكن.

توارى الليلُ خلفَ الليل، ولم تكن.

(39)

صالوا وجالوا وماتوا؟

كيف ضاعتْ بهجةُ العُمر ونيرانُ الهوى؟

كيف جاعَ النهرُ والوردُ؟ وصاروا من دُخان؟

كيف صاروا للردى؟ وتلاشى الوهَجُ، كيف ماتَوا!!!؟

(40)

لا تتركْ البحرَ وحيداً، لا تجعلْ النورسَ يحزن،

لا تتركْ الساحلَ أبكم، لا تبتعد.

لا تتركْ الغصنَ يبكي، والعصفورَ ينتحب.

تتهشمُ القناديلُ، ويصرخُ الجوعُ حين تبتعدُ،

يندبُ العطش، والسماءُ تصلي، لعلكَ تأتي.

كنْ وطني وظلي وقبري، كن وردتي الأخيرة، ولا تبتعد.

(41)

قصصٌ هامدة، وليلٌ عسيرٌ، وجوعٌ مدوٍ، وعشقٌ بغيظ.

ألمٌ في الخلايا في الزوايا، وصمتٌ يؤججُ فينا الأنين.

يا أيها الليلُ لا تقتلْ المُنى،

تجمّلْ قليلاً، لا تطعنْ الكلمات، لا تسرقْ البسمة،

يا ليلُ لا ترمِنا في النحيب.

(42)

يا أشجارَ الصفصاف، يا أخوالي، يا أجدادي،

يا كلَّ الناس، اخبروا العابرين عن ألمي،

عن ذكرياتِ الصمتِ والأسئلة، عن منافي الضجر،

اخبروا السابلة عن طفلةٍ منبوذةٍ ذابلة.

يا أشجارَ الصَفصَافِ حدّثي الطيورَ عن مرايا الأفول،

عن المتنزهين في السأم، عن الراحلين الذين لا يأتون.

حدثي الشمسَ والنجومَ عن الميت الحيِّ،

عن حلوى السُّمُوم، عن صفعاتِ الدهرِ حدثيها.

(43)

في كل لحظةٍ تغيبُ أكون ميتة،

عندما لا أراكَ أكون محواً،

كل زاويةٍ لستَ فيها تكون شكّاً، عندما لا أراكِ لا أراني.

(44)

أراكَ تغيب، تضيّعُ عطرَ الهوى، تلبسُ ثوبَ الغريب.

أراكَ سراباً، ضباباً، وأغنيةً متعبة.

أراني في المُرِّ تلدغُني الأمنية.

أراني أبددُ صوتي، وتسقطُ أقلامي، تقطّعُني الشرايينُ والأوردة،

كُلي يأكلُ كُلي في الندبِ في العشقِ في العاصفة.

(45)

بعد الرحيل، هل تتوارى الشمس؟

هل تموتُ النجوم؟ هل يتهاوى البدر؟ هل تسكتُ البحور؟

هل نضطجعُ عارفين؟ هل نلوم؟ هل يختنقُ الهديلُ مرتين؟

هل تجفُّ المآقي؟ وتهربُ منا الدموع؟

(46)

أيُّ شهدٍ كان لي وتلاشى؟

كنتُ في البحثِ عنكَ في الكون في الأرضِ في الجو،

ووجدتكَ في الفقد!!

(47)

رأيتكَ تمضي، تلملمُ كلَّ العشقِ وتمضي،

                                               سرقتَ بقايا العطرِ، إلى آخر الدهرِ تمضي،

أخذتَ الكلامَ وكلَّ الصمتِ، تركتَ المرايا عرايا، رسمتَ العويل.

(48)

في الطريقِ إليكَ، رأيتُ النجومَ تئنُّ،

رأيتُ المدى ينتحب، رأيتُ الشجن، وكلَّ العيون الحزينة.

كان الطريقُ إليكَ الطريقَ إلى المقصلة،

سألتكَ عن أسفي لم تجبْ، وسألتُ الصمتَ عن المقصلة.

(49)

متُّ على قبري مرتين، ضيّعني الهوى مرتين وألف،

صارَ النشيجُ دمي، والشكُّ صارَ الطريق.

(50)

لماذا ترحلُ عنّا البساتينُ؟

وتغادرُنا البلابلُ دونَ وداع؟ لماذا تقسو، وتأخذنا للفناء؟