بقلم : عبد النبي الشعلة
ثمة اختلاف وفرق شاسعان بين القيادة والرئاسة، أو بين القيادة والحُكم؛ فالحكم على سبيل المثال يورَّث، وفي المقابل فإن للقيادة خصائص ومقومات لا تورث بالضرورة، ويقال إنّ الهيبة والوقار تشكلان نصف متطلبات القيادة الرشيدة، والنصف الآخر تتقاسمه الحِكمة وصفات كثيرة أخرى، ويمكن للرئيس أو الحاكم أن يبقى متربعا على كرسي الرئاسة أو الحكم دون أن يتحلى بصفات القيادة أو يمتلك مقوماتها، فالرئيس بايدن كأقرب مثال ظل رئيسًا للولايات المتحدة طيلة السنوات الأربع الأخيرة، الكل يناديه بـ “الرئيس” أو فخامة الرئيس، لكننا لم نسمع أنه وصف بالقائد؛ لأنه أصبح لا يتمتع بأهم متطلباتها ومقوماتها وهي “الهيبة والوقار” التي فقدها بسبب تردي حالته الصحية والجسدية، وتردده، وترنحه في المشي، وتكرار حالات تعثره وسقوطه أمام الجمهور والكاميرات، وتلعثمه في الحديث، وفقدانه للتركيز الذهني في الكثير من الأحيان، وما شابه من الحالات.
والرئيس السابق ترامب المرشح المنافس لرئاسة الولايات المتحدة للدورة المقبلة يتمتع، من دون أدنى شك، بحضور محسوس وكاريزما لامعة وجسارة مثيرة للجدل، لكنه فقد هيبته ووقاره عندما بدأت القضايا والفضائح والاتهامات تحاصره، والقضاة والمحامون يلاحقونه؛ وصار يُساق أو يتنقل بين أروقة وقاعات المحاكم والمخافر في السنوات الأربع الأخيرة، وظل خلال الفترة ذاتها يتلقى لكمات مؤسسات الدولة العميقة في الولايات المتحدة التي لا تجده صالحًا للحكم، فكلَّفت وسائل إعلامها وكاميراتها ومحطات بثها بإهدار واستباحة هيبته ووقاره ومكانته تحت ذريعة حرية الصحافة والتعبير.
وبالمناسبة، فإن وسائل الإعلام بمختلف أذرعها ومنصاتها الرقمية بما في ذلك وسائط التواصل الاجتماعي، أصبحت من أخطر أدوات ومعاول هدم الهيبة والمكانة والوقار للقادة والرؤساء والحكام؛ وعلى القائد الحصيف تجنب مواجهتها والاشتباك معها، كما أن الإمعان والإسفاف في استخدامها لتلميع القائد أو الحاكم والتطبيل له يعطي في معظم الأحيان نتائج عكسية؛ فالزائد كالناقص.
ومثل الملايين من البشر في أنحاء العالم، فقد تابعت باهتمام بالغ البث المباشر للمناظرة التلفزيونية الأولى، التي جرت فجر يوم الجمعة الماضي بتوقيت البحرين، بين مرشحي الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة الأميركية - المزمع إجراؤها في شهر نوفمبر المقبل - الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب، وقد تميزت المناظرة بتبادل عنيف للذم والقدح والاتهام والاستهزاء بين المترشحَين، وكشفت عن افتقارهما للأهلية والكياسة والوقار، وعدم صلاحية أي منهما لقيادة الولايات المتحدة والعالم في هذا المنعطف الخطير من تاريخ الإنسانية، ولا أدري ماذا سيفعل الناخب الأميركي في شهر نوفمبر المقبل، ولا أدري إن كانت المناظرة قد وضعته في حيرة أم سهلت عليه عملية الاختيار والانتخاب؛ فالمرشحان “أحلاهما مرُّ”، وكلاهما يفتقدان أهم خصائص ومقومات القيادة؛ للأسباب التي ذكرناها، مع أن أداء جو بايدن في المناظرة كان الأسوأ.
وقد مضت أكثر من 6 سنوات وأنا أتابع وأسأل وأقرأ وأبحث، للانتهاء من إعداد مادة كتاب أسعى لإصداره منذ سنوات تحت عنوان “نهاية أربعة ملوك عرب”، من بينهم الملك فاروق الأول الذي كان يلقب بـ “ملك مصر والسودان وصاحب النوبة ودارفور وكوردوفان”، الذي ورث عرش مصر الراسخ الوطيد الذي أسسه جده الأكبر محمد علي باشا قبل أكثر من 150 سنة؛ لكن الملك فاروق فقده وأضاعه بسبب ضعفه وافتقاره إلى خصال ومقومات القيادة؛ حيث تجلى هذا الضعف والافتقار في استسلامه السريع ومن دون أي مقاومة، وتردده عن التصدي للانقلاب العسكري الذي قاده في 23 يوليو 1952 مجموعة من صغار الضباط أطلقوا على أنفسهم “الضباط الأحرار” وأطلقوا على حركتهم اسم “ثورة”، لقد اكتشفت قيادة الضباط الأحرار ضعف الملك فاروق وافتقاره للهيبة والجسارة عندما أخذ يتراجع ويخضع لشروطهم المتزايدة، الذين عرفوا بدورهم كيف يستغلون الوضع؛ وأخذوا في رفع سقف مطالبهم إلى أن وصلوا خلال الأيام الأولى للانقلاب إلى طلب تنحيته وتنازله عن الملك ومغادرته البلاد خلال ساعات.
لقد وضع الضباط الأحرار اللواء محمد نجيب في صدارة حركة الانقلاب، وبعد نجاح الانقلاب عين رئيسا للجمهورية، لكنه لم يكن القائد الحقيقي والفعلي للحركة، كان القائد والمخطط والموجه هو جمال عبدالناصر.
ومن ضمن هذا السياق، وبعد أن عين اللواء محمد نجيب رئيسًا للدولة في منصب “رئيس مجلس قيادة الثورة”، قام برفقة عدد من الضباط بزيارة المملكة العربية السعودية لأداء مناسك العمرة ولشكر الله جلت قدرته على نجاح حركتهم، وطلب لقاء الملك عبدالعزيز، الذي كان وقتها على فراش المرض، إذ توفي بعد بضعة أشهر من ذلك اللقاء، وبعد لقائه بهم قال الملك عبدالعزيز لأبنائه الأمراء إن هذا الرجل ليس قائد الحركة، وليس مسيطرًا على الوضع، وليس هو الرجل الذي يمكن الاعتماد عليه، كان الملك عبدالعزيز رحمه الله قائدًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان ودلالات، وتشهد له إنجازاته على ذلك؛ منها نجاحه في تأسيس وتوحيد المملكة العربية السعودية، وهو إلى جانب هيبته ووقاره وجسارته كان يتمتع بحس الفراسة، إذ ثبت بالفعل أن الرئيس اللواء محمد نجيب لم يكن القائد الحقيقي، فقد تم، بعد عامين فقط وبعد أن أدى دوره، التخلص منه وإزاحته عن كرسي الرئاسة بكل بساطة، وعلى يد القائد الفعلي للحركة البكباشي جمال عبدالناصر.
إن الهيبة لا تتحقق بالتسلط والتجبر والعنف والشدة، أو تُكتسب بالترفع والتعالي والغطرسة والتبرم والتجهم، أو بالبهرجة وارتداء الأوسمة والأنواط والنياشين؛ لقد كان صاحب العظمة المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، معروفا ومتميزا بالبساطة والتواضع والبشاشة ودماثة الخلق، وفي الوقت نفسه كان وجهه يشع بالهيبة والعزة والجسارة والوقار، وتُكلل شخصيته مناقب وخصال ومقومات القيادة، التي برزت وتجلت في تمكنه من التصدي للمد القومي الناصري والمد اليساري الشيوعي، ومواجهة مطالب إيران وادعاءاتها، وصون سيادة البحرين وعروبتها وتحقيق استقلالها وإلحاقها بالمجتمع الدولي وبركب التقدم والنمو والازدهار، إلى أن اختاره الله وهو على موقع العمل بدار الحكومة؛ جزاه الله أحسن الجزاء وأسبغ عليه رحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته.