DELMON POST LOGO

أروي ما جفَّ من وعدٍ، وما مات من وقت.. على قبري أرسمُ أحلامي أرتلُ آخرَ أشعاري

أجددُ الحنينَ لأيامي، لبهجةٍ مكنونةٍ  لأفراحٍ  لماءِ الشهدِ  للقصصِ

شعر فاطمة التيتون

(51)

القوافي، والبحرُ، والبحّارةُ، والسفن،

والقواقعُ، والمَحَارُ، وكلُّ الرملِ كانوا هنا،

والسواحلُ كانت في العشقِ، في البهجةِ، في الرقص.

كانوا هنا، وبعدهم ضجَّ العويلُ والندبُ والنشيج،

التهبَ الأنينُ، اشتعلَ النحيب. عادَ البكاءُ! وغابَ وعاد! ألفُ مرةٍ عاد!!!!

(52)

وراقَ لي أن أعشقَ السما،

أن أعشقَ الوردَ الذي يزيّنُ الوقت،

                                                أن أتمادى في عشقِ النهرِ، أن أبدأَ في السردِ.

(53)

قصصي لا تبوحُ بالوجدِ، ولا تشتكي، تنتحبُ في السرِّ.

القطاراتُ لم تنتظرْني يوماً، ولم أنتظرها،

كنتُ الفراغَ وكانت.

أطباقُ الحلوى لهم، والشمعدانُ والمرجان، وليَّ الكأسُ المكسورة.

(54)

وقلتَ لي: إنكِ لي وللأبد،

وضعتَ في الريحِ إلى الأبد،

وَعدُكَ خان، وخنتَ الوعدَ، وخانَ الأبد.

(55)

إنه موعدُ الآلهة،

حقَ لي أن أتوارى، ألا أرى،

حقَ لي أن أتمادى في العويل، وألا أعود.

(56)

أيتها الجدرانُ ساعديني،

مُدي يديكِ وعانقيني.

(57)

أكتبُ أسماءَ الأيامِ على قبري،

أهشُّ للعابرين، أسقي العُشبَ، أكتبُ كل يومٍ اسماً،

أروي ما جفَّ من وعدٍ، وما مات من وقت.

على قبري أرسمُ أحلامي، أرتلُ آخرَ أشعاري،

أجددُ الحنينَ لأيامي، لبهجةٍ مكنونةٍ، لأفراحٍ، لماءِ الشهدِ، للقصصِ.

وعلى قبري أغفو مرتين، أجددُ آمالي مرتين.

في قبري أرممُ قصري، وتحاكيني الطيور، تسليني في الضحكِ والبُكا.

في قبري أيامي تأتي وتزول، والعنكبوتُ لا يزول،

والرواياتُ هَشة، والأحاديثُ مقيتة،

الصمتُ يراودني في قبري، ويعتريني اللوم، ويضمرُ الكلام.

(58)

على الذي ماتَ مني، يبكي الباقي مني،

ما كان ظني أن الذي وجدتُ ضيّعني،

كأنما لن أتعافى، كأنما أصافحُ حتفي.

(59)

لسنا سوى عابِرين، أو مُقيمِين هنا، أو غير مُقيمين،

تتقطعُ أنفاسنا، إلى آخر يومٍ نتشظى، ويأكلنا الحنين.

غفلةٌ أو غفوةٌ لا نعلمُ كيف؟ ولا أين؟ ولا متى نغيب؟

ربما في مقهى، ربما تحت ظلِّ شجرة، ربما في غمضةِ عين،

ولا نعلمُ، بعد كم من الأيامِ؟ ولا ننتظر،

ولا الكفَّ تدري، ولا العينَ تعرف.

(60)

لستُ العازفَ في هذا الليل، ولستُ الراقصَ، ولا المُغني،

لستُ سوى طيفٍ مرَّ سريعاً، لم يتركْ حتى اسماً،

لم يتركْ نغماً أو عنواناً أو ورقة.

(61)

تغيرتْ قصصُ العُمرِ، صارَ الليلُ مريضاً،

والفجرُ صارَ سديماً، والمرايا صدى.

أيها الجمعُ لا تسألْ،

هلكنا في ذاتِ اليوم الذي فيه ابتهجنا،

سُرقنا حين وَجدْنا، أكلتنا الدماملُ، والحسراتُ تهجّتنا،

أيها الجمعُ تلاشينا مثلَ الصَفصَاف العجوز،

تساقطنا كزجاجٍ مهووس.

(62)

كنا صغاراً، نبني الجدران، خوفاً من لغةٍ، من عَصفٍ، من نملة،

عشنا في قلاعٍ رصاصية، دهراً عشنا.

ثم هدمنا الذي بنينا، ووجدنا ليلاً آخرَ ونهاراً، ورحلنا.

كانت قصصاً قاسيةً؟ أم غالية؟ أم حلوة؟ لا علمَ لنا.

(63)

لم يكن هذا العُمرُ صديقاً، ولم أنتبه،

كان ظلاً باهتاً، وحسرةً، ويباباً، ولم أعلم.

كان يلدغُني الوقتُ، ويجترُني الكلامُ، ويُقطّعُني الضجر!

(64)

وتتركني الآلهةُ في جوعٍ، في عطشٍ، في لهفة،

أتلاشى وأبدو، تسّاقطُ أقلامي، ويخبو الورق،

تتهمُني الجدرانُ والأبواب،

كالحكاياتِ التي لم تكن، لا يعرفني أحد، حتى الظنونُ لا تنتبه.

إن كنتُ في جحيمٍ أم جنةِ، لا أدري،

في جنونٍ أم ثبات؟! ربما كنتُ في زاويةٍ خرساء،

ربما في شجرٍ أعمى، ربما حملتني الصقورُ بعيداً.

(65)

كأنكَ لا تلوي على شيءٍ،

كأنكَ لا تهنأُ بشيء، وكأنكَ لا شيء،

لا تختارُ، لا تسمعُ الصوتَ ولا الصدى،

لا تبتهجُ، لا تحزنُ، لستَ في الرمادِ ولا المرايا.

(66)

يا رغداً ضلَّ طريقنا، يا وحشةً أباحت الألم،

كيف صرنا في آخر الزمن؟ تلاشت كلماتنا والقصص؟

كيف جفَّ العظم؟ وذبُلتْ المُقل؟

ما أصبنا شيئاً في غفلةِ الزمن، الثمارُ التي قطفنا ليست لنا،

الدموعُ التي ذرفنا أحرقتنا، المرايا التي رأينا هشّمتنا،

والقناديلُ عادتْ للأنين، وعادتْ القروح، عاد الوعدُ يجددُ الألم،

وعُدنا للخرس، أثكلتنا الثواني، لسنا في وجودٍ ولا عدم،

نخافُ علينا من ليلٍ ونهار، قد تستاءُ منا القطط، وتفتكُ الكلابُ بنا،

قد تهشمُنا العناوينُ، قد تنهرُنا السعادينُ، قد تركُلنا كُرة، ويبلعُنا قبرٌ،

قد نبدو في ملامحٍ الهجير، قد تنكمشُ ابتسامتنا.

لا حولَ لنا في قعودنا وقيامنا، مرَّ الدهرُ علينا دهساً.

العمرُ الأولُ جوع، والثاني جبّانة،

والثالثُ جمرٌ، والرابعُ جُمجُمة، والأخيرُ جحيم.

(67)

وماذا بعدُ؟ وماذا قبل؟

السكاكينُ تكتبُ لونَ الصدى.

وهذا النشيجُ يملأُ الليلَ والذاكرة، ويطعنُ الخاصرة.

(68)

فصلُ الليلِ لا ينبس، كأنني أبكي ولا أبكي،

هل أنا بشرٌ أم جمرة؟ أم وردةٌ هجرتها الفراشات؟

يا أراجيحَ الهوى، يا عناقيدَ المنيّةِ يا زعفرانَ الصدى،

يا قصصي التي لم تكن لا تبكي.

(69)

في وداعِ النخيل،

يحملنا الصمتُ بعيداً، لا يعودُ ولا نعود.

(70)

دُخانٌ يحملنا، صمتٌ وحيدٌ يلبسُنا،

جدرانٌ تشفقُ أحياناً، تقسو أحياناً.

يجرجرُنا السأمُ منذ دهرٍ، الفراغُ يرسمُنا، مريض خبزُنا.

هل ضارةٌ نفعتنا؟ هل أغنيةٌ منسيّةٌ تذكرتنا؟

هل نهرٌ يتبعنا؟ هل نرتلُ المُنى؟

جار الدهرُ علينا مراتٍ، أكلتنا الغُصةُ واللوعةُ والحسرات.

ولم تبتسمْ حتى المومياء! هل كنا حجارةً، أم دمعةً، أم تراب؟؟

مرةً بعدَ مرةٍ يأخذنا السديمُ ونعود،

وكأنما حرامٌ على الدهرِ أن يجود، أن يمدَّ يديه،

وكأنما حرامٌ عليه حتى البكاء علينا.

(71)

مَنْ يُزيّنُ الطريقَ؟ مَنْ يرفعُ الجبالَ؟ مَنْ يهزمُ الأسى؟

مَن يروي الفرات؟ أسئلةٌ واضحةٌ راسخةٌ في الضياء،

لا تبالي بالممكن، يحملها الليلُ، يكتبها، يرددُها، أسئلة لا تكون؟

(72)

أصبحتُ تمثالاً على بابِ الضجر،

وأنينَ محبرةٍ، وحزنَ مقبرة،

فارقتُ نفسي عندما فارقتكم.

(73)

يرسمُ اللؤلؤُ المستحيلَ، يطلُّ من غيمةٍ،

من ليلٍ يأتي، يهمسُ للصُبحِ، لعروسِ البحر،

يرافقُ الندى، يستقرُّ في الغصون. كان وعداً منذ الأمسِ.

وصار في الكفِّ، والكفُّ في الشهدِ والشهدُ للكون.

(74)

في غفلةٍ سحقتنا الأيام، تبرأ منا النهار.

كان لنا الشهدُ المُرُّ، كان عشقنا انتظار.

دهستنا السفينةُ عند الرحيل، ركلتنا الشطآن.

(75)

للحزنِ أنيابٌ تمزقُ الشرايين،

ولا نموتُ، ولا تموتُ الشرايين.

(76)

في اللحظاتِ الأخيرةِ،

يطعنُني دَمي، وتخذلُني اللُّهاة.

(77)

في هذا الصيف تسللَ الألم،

اغتالَ النخيلَ، وشوّهَ الرُّطب.

(78)

كيف عشنا؟ كيف مُتنا؟ كيف ضيّعنا وضِعنا؟

كيف ماتتْ شعلةُ الأمسِ التي قد أحرقتنا؟

كيف نادينا ولم تنصتْ لنا، غيرُ صخرة، وجدارٌ، ومرايا مكفهرة!؟

(79)

وأخيراً على أريكةِ الفناءِ، ولا أنتظرُ الفناء،

ولا الذي يأتي، ولا الذي مضى، ولا الرضا،

ولا الحكاياتِ القديمة، ولا الجديدة.

نحو قوس النصرِ أمضي، المدى يأخذني نحو المدى،

لا أبحثُ عن نخلةٍ أو شجرة.

أحياناً أتجولُ في المرايا، أحياناً أختلسُ النظرَ.

لا أبكي، لا أضحكُ أحياناً، ولا أرقصُ، واليومُ يمضي.

أتحولُ أحياناً لجدارٍ أياماً، وأواسي الجدرانَ الأخرى أياماً،

والحديثُ يطول. وأراني أتحولُ أمطاراً أحياناً،

لا تخجلُ مني الأنهار، تضاحكُني الأشجار، تراقصُني الأوتار.

أحياناً أغادرُ المكان، ولا ألتفت، وأغيبُ طويلاً،

لا أتذكرُ الأمسَ، ولا الأبوابَ، ولا السقوفَ، ولا المقاعدَ، ولا حتى الزهور.

(80)

يا ثيابي القديمةَ لا تذكريني، ولا تشتاقي أيتها القبعات،

ولا تحنّْ إليَّ، أيها النخيل عندما يأخذني الليلُ،

عندما تكسرُني القناديل.

(81)

هل يجوز؟ لهذا الحصانُ العجوز

أن يتبخترَ؟ أن يهوى؟؟

(82)

يا صديقَ النهر، لك الأوقاتُ، والحدائقُ تتبعك،

يناديكَ الزنبق، والعُشبُ يخطو معكَ، والعطرُ يغني.

العابرون ينتظرون، والطواويسُ تسألُ،

                                                    لماذا المزاميرُ تُصيخُ لصمتكَ للكلام؟

يا عزيزي يا صديقَ النهر،

أخذتَ الربيعَ وتلاشيتَ، لم أرَ الدمعَ في عينيكَ حين تلاشيتَ،

ولم تغفرْ لكَ الأفلاكُ، ولم تنتظرْ عودتك.

(83)

ضحِكنا معاً، وبكينا معاً، وانزوينا كثيراً معاً، وافترقنا معاً.

انتشلنا الضيا، واقتربنا معاً إلى الهاوية،

حين ابتعدنا معاً صمتنا معاً، إلى أبدٍ كنا معاً.

وانتفضَ الألم، ولم نكنْ معاً، وأسرفَ البكاءُ والشجن،

كنتُ وحيدةً، وصرتُ في اللهب،

أسيرةُ النحيبِ أصبحتُ وأمسيتُ، ولم نكن معاً.

(84)

تهربُ الكلماتُ والملامحُ، وتتكسرُ الابتسامات،

ننصتُ للصمتِ حيناً، وحيناً ندفنُ الشغف،

يضجرُ منا الشوقُ أحياناً، تعذبنا العَبرات أحياناً.

أيُّ عشقٍ مرَّ ولم يمرّْ؟ أيُّ مطرٍ لا ينهمر؟ أيُّ صدى لا يعود؟

(85)

في الليل أبكي، لا يعرفني الطريقُ ولا المصابيح،

ولا يسمعُني الشجر، لا أراني في المرايا،

أتفقدُ ظلي لا يتبعني، لا يذكرُ من أكون.

استريحُ على قارعةٍ، حتى الكلاب لا تلتفت.

أسألُ عن نخلةٍ، عن رُطبٍ، لكنّ النخيلَ بخيل.

في وطني لكنني غريب.

وحقِ الأمسِ واليومٍ والغدِ لم أعرفْ إلا النحيب.

(86)

أَجمعَ البحارةُ على البكاءِ،

لم يسجدوا، لم ينطقوا، لم يبحروا، لم يرجِعوا،

عصفَ الصمتُ بهم، لم يغفروا!

(87)

ربما تقتلني حسرةٌ أزليّة، في زوايا عنكبوتٍ ربما أكون،

يجترُني الألمُ، تكتبني الدموع.

ربما لا أرى ظِلكَ مرةً ثانية، وتسخرُ منّي الغُزلان،

ربما تجرجرُني الآمالُ إلى الهاوية.

ربما تلاحقني السُّحُبُ، ويحاورُني النهرُ، ويأكلني التراب.

ربما ترافقني الجَماجِمُ، وتكتبُ سيرتي،

ربما تتركني الأقمارُ في عزلةٍ أبدية.

(88)

منذ الأمسِ كان اللوتسُ يهمسُ منذ الفجر،

                                                        والوردُ في الرقصِ منذ الأمس.

الأنهارُ تتبعُ الأنهارَ، مرةً بعد مرةٍ تتهاوى الأسماءُ،

تتلاشى الدروبُ القديمةُ، والبِركُ الآسنة.

ليلةً بعد ليلةٍ أتمادى في الحنين، وأقطفُ نجمةً ونجمة،

أراقبُ الأوتارَ، والعزفَ، والتثني، وأراقبُ الياسمين.

(89)

الجالسون على مقاعدِ الأسى لا ينطقون،

كالتماثيلِ منكبّون على دفاترِ الموتى، رأيتهم، لكنهم لا يرون.

(90)

ويسألني العابرون عن اسمي، عن دّمي الذي فارقتُ،

عن كتبي التي نسيتُ، ويسألون.

(91)

أردنا الخبزَ لكنْ ظلَّ الجوعُ يرافقنا حتى المَمَات،

ظلَّ يلسعُنا عند السُّهاد، العلقمُ كان الصديق، والزقومُ الرفيق.

تجرّعنا حسرةَ الموتى وذُلَّ الحياة، تذوقنا الخُبزَ مرتين،

مرةً كان معجوناً بالسُّمِّ، ومرةً كان في الأوهام.

(92)

تلك المرايا تصرخ،

تضجُّ كالموجِ العتيقِ، وألفُ عابرٍ وألفُ رصاصة،

ألفُ ليلٍ يطوفُ بها، ألفُ نهارٍ يقهقهُ في وجهها، تلكَ المرايا.

(93)

كأنما حكايةٌ قديمةٌ تجترنا،

كأننا الوصلُ الذي لا يصل، كأننا الزمنُ المتعرج،

كأننا الأسفُ الحزين، والأهازيجُ المريضة، وكأن العصافيرَ أنين.

يأكلنا النهارُ، يصفعنا الليلُ، يطعنُنا السَّحَر،

ما مرَّ يومٌ إلا وكنا أسئلة، ما مرَّ دهرٌ إلا وكنا رماداً،

مكتوبةٌ أسماؤنا على قبورِنا وغيرُ مكتوبة،

الأرضُ خصبةٌ بين يدينا وجاحدةٌ ومجروحة.

وهوينا حين أدركنا الهوى،

قلوبُنا تفتتتْ، أرواحُنا تبعثرت، دماؤُنا تسممت، والنفسُ مسلوبة.

(94)

تخيلوا أن يكتبَ المساءُ الأغنيات،

أن الشموسَ لكم تعودُ، والمزاميرَ ترقص.

اعتقدوا أن المُنى تسعى لكم، تزيّنُ أيامكم، وتزرعُ الوردَ لكم.

تصوروا أن الندى يرنو لكم،

وكأنكم عطرُ الربيعِ، والكونُ ينحني لكم.