بقلم : عبدالنبي الشعلة
العالم بأسره يعاني اليوم من واقع اقتصادي صعب، ولا يمكن لجزيرتنا الوادعة ولمنطقتنا الخليجية الواعدة أن تشذ عن هذا الواقع، إلا أننا نُعتبر في أحسن حال وأوفر حظًا من غيرنا، وفي الحقيقة فقد حقق اقتصادنا الوطني إنجازات لافتة، ونموّا حقيقيًا ملحوظًا ومقبولًا في ظل الظروف العالمية السائدة بلغت نسبته 2.4% خلال العام الماضي على الرغم من خضوعه لتقلبات أسعار النفط العالمية، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 3% في هذا العام، والأهم من ذلك في رأيي هو أن البحرين قد تمكنت من تجاوز المتوسط العالمي في "مؤشرات المواهب والابتكار" المتعلقة بتوافر الكوادر والمواهب الرقمية والتقنية، وذلك حسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول مستقبل النمو في العام 2024، ووفق التقرير ذاته أيضًا فقد حلت البحرين في المرتبة الثانية خليجياً في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد، إلى جانب ذلك، فإن الدولة بقيادتها وأجهزتها المعنية تخوض معارك طاحنة لمواجهة كل التحديات التي تواجهنا، بما في ذلك ارتفاع الدين العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي الذي صار يحد من قدرة الدولة على تمويل المشاريع الجديدة ويضطرها إلى اتخاذ إجراءات مالية ترشيدية وتقشفية، وإلى فرض ضرائب جديدة مثل ضريبة القيمة المضافة، وزيادة الرسوم على بعض الخدمات الحكومية بغية زيادة الإيرادات.
وتعمل الدولة جاهدة كذلك على استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وتنويع مصادر الدخل غير النفطية لمختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية كالسياحة وتكنولوجيا المعلومات والخدمات المالية وما شابه، إلى جانب تطوير وتوسعة كافة مرافق البنية التحتية لتوفير احتياجات النمو السكاني والاقتصادي، والسعي الدؤوب لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتطوير المنظومة التعليمية، والتصدي للبطالة بتبني خطط ومبادرات لتشجيع وتسريع توظيف العمالة الوطنية وتطوير مهاراتها وإدماجها في سوق العمل؛ كل ذلك والكثير غيره يتم جنبًا إلى جنب مع إجراء الكثير من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والتنموية، ويتم كل ذلك وغيره أيضًا في ظل توترات إقليمية ومتغيرات جيوسياسية حادة لها ارتداداتها وتأثيراتها السلبية على الاستقرار الاقتصادي والأمني وعلى تدفق الاستثمارات.
لكن، على الرغم من كل تلك الجهود المشهودة يبدو أن المطلوب أكثر وأعمق؛ فثمة تحديات جمة ما زالت تواجهنا وتقف في وجه نمونا الاقتصادي المنشود، وثمة قضايا وصعوبات ومعوقات تتطلب منا أولًا الصراحة والشجاعة بالإقرار بها، ثم سرعة التصدي لها ومعالجتها وتوفير الحلول لها، والتي أدت برأي القطاع الخاص إلى حدوث "خلل هيكلي" في الاقتصاد الوطني يستدعي سرعة المعالجة والذي أصبح القطاع الخاص يعاني من تداعياته ويئن تحت وطأته، من بين هذه التحديات وربما أخطرها تفشي وانتشار البيروقراطية المفرطة، وتعدّد الاجراءات وجهات اتخاذ القرار، والبطء في التنفيذ وإصدار التراخيص اللازمة؛ وهي عوامل تؤدي بالنتيجة وبالضرورة إلى عرقلة النمو الاقتصادي، وإلى تقليص فاعلية السياسات والإصلاحات الاقتصادية، وإلى التأخر في بدء وتنفيذ المشاريع وترفع من كلفتها، وإلى إعاقة تدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية، وإلى فقدان الثقة من قبل المستثمرين ورواد الأعمال وغيرهم ونمو الشعور بالتذمر والإحباط لديهم.
ومن بين القضايا التي تستوجب المعالجة الملحة انحسار السيولة النقدية في السوق؛ التي أدت بالفعل إلى تعثر وانهيار وإفلاس العديد من الشركات وخصوصا في قطاع المقاولات الإنشائية وقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وإلى تقدم عددا كبيرا من الشركات والمؤسسات إلى الجهات الرسمية المعنية بطلب إعادة تنظيمها أو إشهار إفلاسها، كما أنه لم يعد سرًا أن قيمة الشيكات المرتجعة في السوق قد بلغ مئات الملايين من الدنانير، وهي نتائج حتمية ومتوقعة لاستمرار حالة انحسار التدفق النقدي في السوق التي تقود في النهاية وبدون أدنى شك إلى انكماش وتراجع النشاط الاقتصادي، وتجعل الشركات عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها المالية مما يزيد من حالات الإعسار والإفلاس والتصفية وتسريح العمال وارتفاع معدلات البطالة؛ ومما زاد الطين بلة في هذا الشأن قرار الحكومة في شهر أبريل الماضي باستلامها مقدمًا الحقوق المالية للعمالة الأجنبية المستحقة لكل منهم عند نهاية خدمته كما ينص القانون؛ ما أدى فعليًا إلى سحب ما يقدر بحوالي مئة مليون دينار سنويًا من رأس المال العامل لشركات ومؤسسات القطاع الخاص.
إن القضية الأكثر خطورة في رأي الجميع هي أن القطاع الخاص لم يعد يشعر بالشراكة الحقيقية في مسيرة التنمية والبناء التي تتطلب في أبسط صورها وضمن مفاهيم الاقتصاد الحر أو الرأسمالي التفاعل معه والاستفادة من إمكانياته وخبراته، واستنهاضه واستشارته، وفتح الأبواب أمامه والاستماع إلى آرائه وتحفظاته، إن وجدت، وإدماجه في مختلف مراحل الإعداد والتخطيط للمبادرات والخطط الاقتصادية واصدار التشريعات والقوانين ذات العلاقة بالتجارة والاقتصاد؛ فالحاصل الآن هو خلاف ذلك؛ والواقع هو أن الدولة تضع على عاتقها وحدها وتتولى منفردة تقريبًا مسؤوليات وعمليات التخطيط والتنفيذ، ويتحول القطاع الخاص بالنتيجة إلى مجرد رديف أو تابع عليه تنفيذ ما يفرض عليه من توجيهات وأوامر وقرارات.
إن الدولة في جميع مبادراتها وخطواتها تنطلق من قاعدة حسن النوايا وصون المصلحة العليا للوطن بمختلف شرائحه، وهي في الوقت ذاته قادرة برجالها وعقولها وإمكانياتها على تشخيص هذه الإشكاليات ومواجهتها وإيجاد الحلول الناجعة والمناسبة لها، وهي تدرك أيضًا أن الوقت ليس في صالحنا على ضوء ازدياد واشتداد حدة "التنافسية الإقليمية" الصحية والمشروعة من جيراننا وشركائنا وأشقائنا في المصير دول مجلس التعاون الخليجي، هذه المنافسة أصبحت حقيقة واقعة لا مفر ولا مناص منها، خصوصاً في ميادين جذب الاستثمارات الاقليمية والأجنبية، ولن يسعفنا حيالها شعار "نحن الأوائل والرواد والسباقون"، وهذه المنافسة آخذة في الاتساع؛ ويكفينا أن ننظر إلى ما حدث مؤخرًا من تطورات ومن اتخاذ المزيد من الإجراءات الانفتاحية في سلطنة عمان الشقيقة، مع التأكيد هنا أن التنافسية عنصر إيجابي لا تشكل أي تهديد لنا، بل العكس هو الصحيح إذا تمكنا من استيعابها والاستفادة منها.
إن هذا الواقع يفرض علينا ويتطلب منا اتخاذ الخطوات اللازمة والملحة لتحسين البيئة الاستثمارية في بلادنا المضياف الغالية، وجعل هذه البيئة أكثر جذبًا واستقطابا؛ وهذا يستدعي تحديث التشريعات وتسهيل الإجراءات للمستثمرين، والتوسع في استخدام الرقمنة، والاستمرار في تطوير متطلبات الحكومة الإلكترونية مع الإبقاء على قنوات الاتصال وأبواب المسؤولين مفتوحة، وتحسين الكفاءة المؤسسية وظروف العمل داخل المؤسسات الحكومية، إلى جانب الالتزام بمبدأ الشفافية لتكون المعلومات والقرارات الحكوميّة واضحة ومعروفة للجميع مما يعزز الثقة لدى جميع الأطراف.
إن تعزيز قنوات الحوار والتواصل بين القطاعين العام والخاص يعتبر من بين أهم الأولويات؛ وذلك بتكثيف فاعلية اللجان المشتركة بين الوزارات والمؤسسات الرسمية المعنية وغرفة تجارة وصناعة البحرين بصفتها الممثل الشرعي للقطاع الخاص.
إن ما نواجهه من تحديات هي أقل وأسهل بكثير مما يواجهه الكثيرون غيرنا، وهي في حقيقة الأمر انعكاس ودليل على وعينا وحيوية مجتمعنا، ولا يمكن أن تسبب لنا ما يدعو إلى الخوف والقلق، فنحن كما قلنا في البداية أحسن حالًا و أوفر حظًا من الكثيرين غيرنا، وما علينا إلا أن نتسلح بالثقة والعزيمة، ونقف بكل صلابة وإخلاص وإيمان وراء قائد نهضتنا؛ مليكنا المعظم حفظه الله ورعاه، وولي عهده الأمين رئيس الوزراء الموقر حفظه الله، وأن نشد من أزرهما وندعو لهما بدوام التوفيق والسداد والنجاح.