DELMON POST LOGO

حوار ثنائي حول حكمة وجود الإله من "اليقين" إلى "اللاأدرية" فيلم "الجلسة الأخيرة لفرويد" Freud’s Last Session

عبدالله جناحي-البحرين

الفيلم من بطولة أنتوني هوبكنز في دور العالم النفساني النمساوي سيجموند فرويد، وهو في الأيام الأخيرة من حياته، والمصاب بسرطان الفم. وجاني مور في دور سي إس لويس، البروفسور في جامعة أكسفورد البالغ من العمر 41 عاماً.

فرويد يعتبر مؤسس علم النفس الحديث والتحليل النفسي. حيث طور نظرية التحليل النفسي التي ركزت على دور اللاشعور في السلوك والشخصية، وركز على أهمية الدوافع الجنسية والعاطفية في تشكيل الشخصية والسلوك. وقدم تفسيرات للأحلام والأعراض العصابية.

أما البروفسور لويس، فهو بالإضافة إلى تخصصه في مواضيع الأديان والإيمانيات، فهو ناقد أدبي بريطاني. نشر كتابه "Pilgrim's Regress" عام 1933، وهو كتاب فلسفي عن الرحلة الروحية التي يقوم بها كشخصية رئيسية، والتي تشبه رحلة "المسافر" أو "الحاج"، لكن هذه الرحلة الروحية تقوم على فكرة "التراجع" أو "الرجوع إلى الوراء"  بدل التقدم إلى الأمام.

يبدأ الحوار حول الله بالتعبير عن القناعات الشخصية الأقرب إلى اليقين، فرويد غير المؤمن ضد لويس المؤمن، ليتطور إلى التعبير عن الشك ثم التعبير عن التواضع المعرفي، الأقرب إلى "اللّاأدرية". ورغم هذه الاختلافات الجوهرية بينهما، إلا أن مسار علاقتهما وصلت إلى درجة كبيرة من الصداقة.  قد يختلفان بشدة، لكنهما يهتمان ببعضهما البعض، ويظهر ذلك في مشهدين: عندما يعاني لويس من نوبة هلع أثناء صفارات الإنذار والهروب نحو الملجأ حمايةً من القنابل التي بدأت تنهمر من الطائرات النازية، حيث يهدئ فرويد مخاوفه. والمشهد الثاني عندما يسبب له فك فرويد الصناعي ألما لا يطاق مع نزيف من فمه، يلجأ إلى لويس للحصول على المساعدة في إخراج هذا الفك من فمه.

في الثالث من سبتمبر عام 1939 والعالم يقف على حافة الهاوية، غزت ألمانيا النازية بولندا، وحينها أصدرت بريطانيا وفرنسا إنذاراً نهائياً لهتلر بسحب قواته فوراً، والرفض سيعني الحرب. لكن بينما تستعد دول العالم للسير بتهور إلى الرعب، "يخمر صراع آخر في قلب إنجلترا نفسها - صدام بين إثنين من أكثر العقول الهائلة في القرن العشرين".

في صباح يوم ممطر، يودع لويس زميلته في جامعة أكسفورد، حيث سيذهب إلى لندن في ضيافة فرويد طوال ذلك اليوم. ومن طرف آخر يكون فرويد رغم آلامه التي في بعض الأحيان لا تنتهي، ويعرف أنه يحتضر، لكنه يتطلع إلى زيارة الشاب لويس. ومند تلك اللحظة يقدّم أنتوني هوبكنز أداءً مبهراً، وهو "يوازن ما بين هشاشة فرويد الجسديّة نتيجة مرضه، وصلابة عقلِه". رجل يقترب من نهايته، على يقين من أنه لا يوجد إله لإنقاذه، ولا روح خالدة تطير نحو السماء. والرجل الآخر، الباحث الدائم عن ما بعد هذا الوجود، اللاأدري أحياناً، والمدافع الشرس عن وجود الله في معظم الأحيان. يلتقيان في شقة فرويد، حيث ينخرط رجلان في مكتبة هادئة، مبعثرة فيها الكتب ومجسمات آلهة الإغريق، في "معركة" بينهما عن حالة الروح، بينما يستعد الملايين من الناس إلى الحرب العالمية الثانية.

أسئلة "الشك" حول قناعاتهما!:

ابتداءً يعترف لويس بالصعوبات في إيمانه، بعدما دفن هذا الإيمان مع والدته، وفجأة يتساءل "لماذا يفسح الدين مجالاً كبيراً للعلم، لكن العلم لا يفسح مجالاً للدين؟". هل هو سؤال جاد، أم مخادع وساذج؟. حيث الدين يشتمل العقلانية المنطقية والخرافة الأسطورية معاً، بينما العلم ينفرد بالعقلانية والمنطقية فقط. فهما خطان لا يلتقيان، رغم أن بعض الفلاسفة يرون بأنهما خطان متوازيان، لا يعارضان بعضهما البعض، بل كل خط لديه منهجيته ومنطقيته وخياله، ويكمّل الخط الآخر. يعترف فرويد للويس بأنه "كافر عاطفي مهووس بالآلهة والعبادة"، ومكتبته مليئة بالتماثيل والأصنام من جميع أنواع الأديان. فبالنسبة إلى فرويد الأديان عبارة عن أوهام وأمنيات، حيث يقول (إن الأديان ظهرت نتيجة رغبات وأمنيات قوية أرادها البشر منذ القدم). ويرى (أن الإنسان يحتاج إلى الله مثل حاجة الطفل إلى والديه). ويقول (إن مهام الإله هي ثلاث؛ أن يبعد عن الناس شرور الطبيعة، وأن يعطي الإنسان الرضا بالقدر، وأن يعوض الإنسان عن المعاناة والتضحيات التي يقوم بها في حياته). يمكن أن تكون المناقشات ممتعة حول وجود الإله من عدمه. ويمكن أن تكون مفيدة. ولكن نادراً ما تكون فعالة في تغيير رأي الشخص - على الأقل على الفور. وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمسائل الروحية. إن (فرويد لم ينجح في هذه المعركة الجدالية في جعل لويس يتخلى عن "كذبة الإيمان الخبيثة". وربما زرع لويس بذرة صغيرة من الشك في عقل فرويد-بذرة، لو كان لدى فرويد بضع سنوات أخرى من عمره، أو عقود، كان يمكن أن تنمو إلى شيء أكثر من ذلك!. لكن هذه البذرة، إذا كانت موجودة، ستكون سؤالاً أكثر من الإجابة)، كان ذلك تحليل كاتب غربي، ولكن في اعتقادي لم يكن الطرفان يهدفان إلى خلق الشك في قناعات الآخر، بقدر ما كان كل واحد منهما يحاول توضيح قناعاته، والتعليق الهادئ على قناعات الآخر.

نرى الشك في ملامح وجه فرويد وفي أقواله، كما نراه في إيماءات لويس وأقواله أيضاً، مع الفارق بين الشكّين. شك فرويد مصحوب بألم، ناتج عن معاناته الخاصة من سرطان الفك، ومن فقدان ابنته وحفيده، ومن تأملاته في واقع المعاناة البشرية. وحياة لويس لا تخلو من الألم والمعاناة؛ فقد اشترك في الحرب وقاسى من ويلاتها وظل تأثيرها يطارده طوال حياته.

إنّ كلّاً من فرويد ولويس لم يرثا الإيمان والإلحاد من أبويهما، وإنما نتيجة البحث العميق. وأن وجود الله من عدمه، احتمالان موجودان في قناعة الإثنين، وحسب تعليق لويس على شكوك فرويد "إنّ تمنّي غياب الإله يعادل قوة الإيمان بوجوده". في حوار مثير بينهما، يوجه فرويد كلامه إلى لويس (شخص ذكي مثلك لماذا يتخلى عن الحقيقة ويتبنّى حلماً سخيفاً وكذبة خبيثة؟!). يردّ لويس: "وماذا لو لم يكن وجود الله كذبة؟! هل فكرت يوماً كم سيكون الأمر مرعباً عندما تدرك أنك كنت مخطئاً؟"، يردّ فرويد: "لن يبلغ رعبي نصف رعبك حين تدرك أنك كنت مخطئاً". يقدّم لويس هنا نموذجاً للإيمان الفردي، لأنّه يرى أنّ الإيمان رحلة وتجربة معرفية فردية سعى إليها بنفسه عبر دراسة الكتب المقدسة ولم يخرج من هذه الرحلة بمزاج المؤمن المتيقن الذي يريد أن يقنع العالَم بيقين معتقده. الإيمان وفق حديث لويس (جهد فردي ومكابدة وليس إرثاً نكتسبه من الأجداد أو من الكتب المقدّسة). لويس في الفيلم أقرب ما يكون إلى الربوبية منه إلى المسيحية؛ ورغم إيمانه بالكتاب المقدّس تراه يعتمد على آرائه وتفكيره أكثر ممّا يعتمد على مرجعية دينية.

هل أفعال الله "عبث" أم مخطط لها؟:

في سياق الحوار بين فرويد ولويس، يتوضح بأن فرويد لا يحاول إقناع لويس بعدم وجود إله، وإنما يناقش فكرة وجود الله من زاوية النتيجة المتحققة/ السائدة على الأرض، أي من زاوية أفعال الله. والخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها من أقوال فرويد هي "العبث"، أي نقيض الخطة/ التخطيط، بغضّ النظر عن مسبب هذا العبث: الله أو الإنسان. وكأنّ فرويد ينفي وجود الله من زاوية تدخل الله في الفعل على نحو مأساوي، أو من زاوية امتناعه عن التدخل لتوجيه الفعل البشري ناحية الخير؛ بحكم أنّه قادر، كما يزعم المؤمنون. وسواء تدخل الله أو لم يتدخل فهو غير موجود؛ لأنّ وجوده يقتضي أن يتدخل بألّا يسمح بالشر. وهذا ما يراه الكاتب اليمني رياض حمادي في مقال له على موقع "حفريات". في هذا السياق يقول لويس: "إذا كان الله خيراً لخلق جميع الكائنات سعيدة، وبما أننا لسنا كذلك، فهذا يعني أنّ الرب يفتقر للطيبة أو للقدرة، أو لكلتيهما، لا أدري". الجميل أنّ لويس يعقب على آرائه بعبارة "لا أدري" في إشارة إلى جهل حميد في مسائل لا يمكن التيقن منها.

بمثل هذه اللغة الحذرة يقدم لويس صيغة سائدة في جميع الأديان عن "الحكمة الإلهية" الخفية عن البشر. يقول: "ماذا لو أنّ الله أراد كمالنا من خلال تعريضنا للمعاناة! فدفعنا لندرك أنّ السعادة الحقيقية والأبدية لن تتحقق إلا من خلاله. إن كانت المتعة هي همسته (أي ما يخفيه) فالألم هو ما يعلنه!". نرى بأن فرويد يتمتع بشجاعة الاعتراف، وكذلك يفعل لويس بتحفيز من أسئلة فرويد. يذهب فرويد إلى حد اعترافه بتناقضه؛ فهو في الأخير بشر من لحم ودم، يؤثر ويتأثر. يقول له لويس: "أنت شخص متناقض"، يجيب فرويد: "أنا إنسان، وبحكم طبيعتي هذه فأنا معيب، غير كامل، كما أنّي تضررت بشدة، ولا شك أنني ألحق الضرر بالآخرين.". يشير الكاتب حمادي إلى إضاءة جميلة؛ حيث يقدم فرويد نصيحته للبشرية بكلمة واحدة تأخذ صيغة الأمر: "انضجوا"، أمّا نصيحة لويس فهي "استيقظوا". والنصيحتان تكملان بعضهما بعضاً؛ فالنضج يقظة، والاستيقاظ شكل آخر للنضج. أتت نصيحة فرويد في سياق حديثه عن الخوف من الظلام والوحدة كأصل للدين: "يبدو أننا لم ننضج كفاية لنواجه رهبة وحدتنا في الظلام، فأتى الدين ليقدّم العزاء. لديّ كلمة واحدة للإنسانية هي: انضجوا".

أفكار فلسفية أخرى:

في سياق هذا الجدل الجميل، يتطرق الاثنان إلى مسألة حرية الاختيار مقابل الجبرية، ومسألة الخير والشر. يقول فرويد للويس: "إلهك الذي خلق الخير والشر على حد سواء، سمح للشيطان أن يعيش ليزهو بنفسه! كان الأجدر به، منطقياً، أن يقتله، أليس كذلك؟!". يردّ لويس "الله منح الشيطان حرية الاختيار، وهو ما جعل اختيار الخير ممكناً؛ فعالم مليء بمخلوقات منزوعة الإرادة هو عالم مناسب لآلات. البشر هم الذين يسببون الشر، وليس الله: هم الذين بنوا السجون ومارسوا العبودية وصنعوا القنابل... معاناة البشر تقع على عاتقهم وحدهم." يردّ فرويد: "إذن، هذا هو تبريرك للألم والمعاناة! أتعني أنّي جلبت لنفسي السرطان؟"، يردّ لويس: "لا أدري، ولن أدّعي أنني أعرف". ينتهي الحوار بتواضع الطرفين أمام اللغز الكبير. يقول فرويد: "فيمَ كنّا نفكر! إنّه لضرب من الجنون إن ظننا أننا قادران على حلّ أعظم الألغاز على مرّ الزمن." يردّ لويس: "الجنون الأكبر هو الامتناع عن التفكير في الأمر. إنّ فكرتي عن الإله متغيرة على الدوام؛ إذ لا ينفك عن تدمير هذه الفكرة مراراً وتكراراً، لكنّني ما زلت أشعر أنّ العالم مليء بآثاره. إنّه في كل مكان، ويصعب فهم المغزى من اختبائه! تكمن المكابدة في استمرار المحاولة، إلى أن تحلّ عليك اليقظة".

استمرارية  "الشك" بدل "اليقين":

تشي ملامح وجه لويس وردوده بأنّه اختار الإيمان هرباً من معاناة أخرى ماثلة في الشك. وهذا ما لاحظه فرويد في تحليله لشخصية لويس بقوله: "أنت تدرك أنّ الله غير موجود لكنك تعمل جاهداً لإخفاء شكوكك؛ لأنك في صميم كيانك جبان". وبالمقابل يعترف فرويد بأنّه جبان؛ كحالنا جميعاً: "جميعنا نخاف وجبناء أمام الموت". لكنّه ليس جباناً فيما يتعلق بالتعبير عن شكوكه العقائدية أو بالرجوع عنها. في المقابل. والإضاءة الثانية للكاتب حمادي هي عند إشارته لالتقاط لويس زلة لسان فرويد حين قال: "شكراً لله؛ لأنني لن أعيش طويلاً لأرى نسخة أخرى من هتلر". والهفوات، أو زلات اللسان، هي مصطلح أساسي في التحليل النفسي عند فرويد. تكشف الهفوة اللغوية عن رغبة غير واعية. عن هذا الجانب المضمر في النفس الذي تفضحه اللغة. يقول فرويد في أحد كتبه "الجزء من مشاعرنا التي نحاول إخفاءها هو الجزء الحقيقي منّا."

تبادل الأدوار عند أريكة العلاج النفسي:

كان فرويد قد حذّر لويس، مازحاً في بداية اللقاء، ألّا يجلس على أريكة "التحول"، (الأريكة التي يستلقي عليها مرضاه) في إشارة إلى أنّ جلوسه عليها سيجعله يغير آراءه. تلك الأريكة التي سيتمدد عليها فرويد نفسه في الجزء الأخير من الفيلم ليتبادلا الدورين، فيقوم لويس بدور المحلل والمعالج النفسي خلافاً لما كان عليه الحال في بداية لقائهما. يأخذ التحليل صيغة الاستجواب، في سياق الحديث عن علاقة فرويد بابنته آنا، مع ذلك فتبادل المكانين/ الدورين لا يخلو من تلميح إلى تغيير فرويد لرأيه. تلك الإضاءة الثالثة التي كشفها حمادي في مقاله، مواصلاً بأننا نرى أمارات السيطرة على وجه لويس وهو يلاحق فرويد بأسئلته عن عقدة آنا الناتجة عن ارتباط أبوي غير صحي، بينما ترتسم على وجه فرويد ملامح الاستسلام. إن تبادل المكانين والدورين يرمزان إلى تساوي الإثنين في هذا الجدال الميتافيزيقي.

الجنس والعلاقات المثلية:

لقد أشرنا في مقدمة هذا المقال بأن فرويد اشتهر بجعل الجنس مركز تحليله النفسي. يقول فرويد "الجنس هو خط كل السعادة يا صديقي". يعلق لويس "أوه، هناك ما هو أكثر بكثير من السعادة، الجنس هو واحد من العديد من الملذات التي أعطاها الله لنا. ولكن في الواقع إنه ليس الأكثر دواماً". الجنس هو بالفعل موضوع مهم ومحوري في هذا الفيلم. ويتركز الحوار بشكل خاص على المثلية الجنسية. بينما يجادل فرويد بأنه لا حرج في العلاقات المثلية- وفي حقيقة دواخله كان يعارض مثلية العلاقة لدى ابنته -. يجادل لويس بخلاف ذلك طوال الفيلم. من الواضح إلى حد ما أن آنا ابنة فرويد في علاقة مثلية، علاقة يرفض فرويد الاعتراف بها إلا في نهاية الفيلم حيث تتحدى آنا والده، وتجلب صديقتها دوروثي بورلينغهام لشقة والدها وهما متمسكتان بأيدي بعضهما البعض بحميمية. أما فرويد فيعترف بشكل غير مريح للويس أنه في مجال التحليل النفسي الخاص به، ترتبط الميول المثلية بطبيعتها بعلاقة المرأة بوالدها - يبدو أن فرويد نفسه لديه ارتباط غير صحي بابنته آنا- وما يؤكد ذلك، إشارة فرويد بطلب رجل بالتعرف على آنا والخروج معها، حيث يرفض فرويد الأمر، قائلاً إن آنا أصغر من أن "تشعر بأي مشاعر جنسية". رغم أنه في عام 1939، كانت آنا في أوائل الأربعينيات من عمرها. وبالمقابل يعتقد فرويد أن لويس له علاقة مثلية قديمة، حيث نرى ذكريات الماضي من "الصداقة"، عندما يقول لويس "إنه يعيش مع شقيقه وارن"، يميل فرويد صوبه ويقول "أخوك فقط؟"، فيرد عليه لويس بشكل غير المريح "إن الأمر معقد"!.

حوار في غرفة واحدة فقط:

تدور أحداث الفيلم في شقة صغيرة، بل وفي غرفة واحدة فقط -مكتبة فرويد- ومع ذلك، لمن اندمج مع الحوار، لم يحس بالملل والضجر. وهذا ما تحاشاه هوبكنز والمخرج ماثيو براون. فقد ذكر هوبكنز في مقابلة مع رويترز (إذا كنت ستجري نقاشاً عن الله… فلا يمكنك الجلوس وإلا غلب النوم على المشاهدين. لذلك عليك أن تستمر في التحرك). وهذا ما كان يفعله. أما المخرج فقد صرح في عام 2022 (نحن نعيش في عصر شديد الاستقطاب أيديولوجيّا، حيث الجميع عالقون في قبائلهم الخاصة، من دون حوار حقيقي). وأوضح آنذاك (أريد أن أصنع فيلماً عاطفياً ومحفزاً للفكر وخلاقاً لجميع الجماهير؛ فيلماً يطرح الأسئلة الكبيرة، بينما يبحث في جوهر الحالة البشرية: الحب والإيمان والفناء). فهل حقق فيلم "الجلسة الأخيرة لفرويد" هذا الهدف الذي كان يتمناه المخرج؟!. أشك في ذلك!.

ينتهي الحوار بوداع الخصمين/ الصديقين، وهما يستمعان إلى مقطوعة موسيقية صادرة من إذاعة bbc البريطانية- وهي مقطوعة من تأليف هوبكنز نفسه، وكشفها للجمهور بعد أن أخفاها 50 عاماً من تأليفها. وفي المشاهد الأخيرة نرى لويس يحلم وهو يسير في غابة وينبثق أمامه نور ساطع يُعمي البصر، تعبيراً عن تعزيز إيمانه بنور الله. هذه الغابة التي أهداها أخاه في ذكرى ميلاده، حيث عمل غابة من الأشجار والحصى والزهور والغزلان في علبة البسكويت. وفرح بها كثيراً. "علبة البسكويت جلبت لك السعادة" كان هذا تعليق فرويد على تلك الحكاية. وبالمقابل نشاهد فرويد وهو يتأمل ابنته وهي تمسك يد صديقتها بحنان وعاطفة، مستسلماً للعلاقة المثلية بينهما.

تبدو الكلمة الأخيرة لفرويد حينما هاجم لويس. قائلاً (صحيح، جميعنا خائفون. أتذكر صباح هذا اليوم حين علت إنذارات وصفارات الغارة الجوية، في لحظتها لا ريب أنك لم تسلك مسلك الرجل الذي يشعر بالسكينة آخر أيامه في عالم فظيع كهذا. أليس كذلك؟ إذن أين اختفى عظيم إيمانك؟ أين كانت فرحتك العارمة بلقياك لخالقك الحبيب؟ لماذا اختفى إيمانك بالله في تلك اللحظة؟ لأنه وخلف محبتك لذاتك، وخلف حكاياتك الخرافية، ترى بأن ربك غير موجود!. أجل، تعمل جاهداً لإخفاء شكوكك. ولكن في أعماق كيانك أنت جبان. جميعنا جبناء أمام الموت. الموت ظالم كالحياة).

والكلمة الأخيرة نستقيها أيضاً من عنوان الفيلم "جلسة فرويد الأخيرة"، ومن خلال هذه الجلسة أو المحاضرة الأخيرة يعلمنا الفيلم "درساً عن فن إدارة الاختلاف وأخلاقياته، عن اليقين في حالته الفردية، لا الجماعية. عن الدين والشك كوجهة نظر لا كإيديولوجيا تتسلح بالعنف بدلاً عن الحوار؛ حوار يتخلله المرح والسخرية وتقديم يد المساعدة والحنان واللطف، والبعد عن لغة الكراهية، والرغبة في المعرفة لا في المقارعة". وسواء كان هذا اللقاء بين فرويد ولويس خيالياً، حسب بعض التحليلات، ولم يحدث قط في حياة فرويد، أو كان قد حدث فعلاً في الأيام الأخيرة من حياة فرويد في بريطانيا، حسب البعض الآخر. فالمهم هو الحوار العميق الذي جرى بينهما على مدار زمن الفيلم الممتد أكثر من ساعة و45 دقيقة.  وانتحار فرويد بعد 25 يوماً من هذا اللقاء مع البروفسور لويس.