بقلم: رضي الموسوي
كان يوم أمس الجمعة، يوما إستثنائيا في الدوحة، فقد غصّ جامع الإمام محمد بن عبدالوهاب في العاصمة القطرية، بعشرات الآلاف من القطريين والعرب والوافدين الآسيويين، يتقدمهم أمير دولة قطر الشقيقة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وبحضور والده الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ولفيف من المسؤولين الفلسطينيين والعرب والأجانب، وذلك للمشاركة في صلاة الجمعة ولإداء صلاة الجنازة على جثمان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد إسماعيل هنية، الذي أغتاله الصهاينة في طهران، بمعاونة ومشاركة فاعلة من الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها.
منذ الصباح، تم إغلاق الطرق المؤدية إلى الجامع المُسجى فيه جثمان هنية الطاهر، فأضطر الجمهور إلى السير مشيا على الأقدام مسافات طويلة ولعدة كيلومترات في الحر الشديد. بعض الشباب العائدين من الجامع أخبروا الجموع بأن الهواتف النقالة ممنوع جلبها للداخل. عاد البعض ليترك هاتفه في سيارته بينما واصل الأغلبية طريقهم صوب بوصلة قلوبهم والسير في هذا القيض الحارق مسافة تقترب من ثلاثة كيلومترات قطعوا فيها طرقات عامة وفرعية.
الطريق للجامع يمر عبر مؤسسات ودوائر حكومية مثل المؤسسة القطرية للإعلام وبقربها موقع شبكة "بي إن"، وشبكة الجزيرة ومعرض إحدى السيارات اليابانية الشهيرة، والمستشفى العسكري..وهكذا، حتى محيط الجامع. وجدت الجموع عربات السوبرماركت معبأة بعلب المياه ليأخذها بتبرعٍ من افرادٍ كان بعضهم يمشون مع الجمع وبعضهم الآخر رأف بحال آلاف الزاحفين صوب الجامع الكبير في هذا الطقس الجهنمي.
عند الساحة الخارجية للجامع، كان واضحا إكتظاظ الجامع عن بكرة أبيه بالمصلين والمتضامنين مع فلسطين وشعبها وشهدائها الذين سقطوا على طريق القدس. حشر القادمون الجدد انفسهم بين المصلين الذين افترشوا سجاداتهم في بهو الجامع، وأخذوا يشقون الطريق بحثا عن موطئ قدم بين الجموع، بعد أن أخذ التعب منهم مأخذه واحتاروا أين يستقروا. بعضهم توجه نحو الحائط ليستند عليه، فثمة فراغ يمكن سده بالقرب من تجمع مفرزة أمنية كان افرادها يراقبون المشهد الجمعي والحر الخانق. لم يسعف المُكيف العملاق المصلين المتراصين. رأف رجال الأمن بحال المتعبين، فتبرع بعضهم بالكراسي التي كانوا يجلسون عليها، بينما كان الإمام يعلن عن إقامة صلاة الجمعة. اعقبها صلاة الجنازة على جثمان الشهيد هنية ومرافقه، ليعقبها الرئيس السابق لمكتب حماس السياسي خالد مشعل بكلمة أكد فيها على مناقب الشهيد وتشديده بالسير على خطاه في درب التحرير المعبد بالدم والألم والدموع.
بعد الصلاة على الجثمانين، بدأت الجموع في الخروج من الجامع تصاحبها الهتافات والتكبيرات والتأكيد على مواصلة الطريق: "يا شهيد إرتاح ارتاح/ راح نواصل الكفاح".
كانت الجموع تنتشر في ارجاء الساحة الخارجية منتظرة الجثمان الطاهر الذي سيسجى بعد قليل في مقبرة بمنطقة "لوسيل" وليوارى الثرى، ومنوا أنفسهم بالمشاركة في تشييع الجثمان الطاهر، إلا أن اقتصار عملية الدفن على دائرة ضيقة جعلتهم يغادرون المكان، واستغرق ذلك زمنا طويلا ليبدأوا البحث عن سياراتهم التي ركنوها بعيدا، وقد اضاع بعضهم موقعها، إذ لا هاتف يحدد مواقعها ولا معرفة لطرقات متعرجة سلكوها للوصول إلى الجامع، وحيث درجة الحرارة لا تطاق وتهدد الجميع بضربة شمس.
**
في الملمات الجسام، يحضر الفن الفلسطيني المعجون بالوجع والاهات على مدار السنوات التي تقترب من قرن. تقفز في الذهن أغنية فلسطينية قديمة لفرقة العاشقين، انتشرت في نهاية سبعينات القرن الماضي وكان يرددها طلبة الجامعات كثيرا. هي أغنية حزينة ومؤثرة تُصور تنفيذ حكم إعدام ثلاثة من المقاومين الفلسطينيين سنة 1930 قاوموا الصهاينة المتجمعين عند حائط البراق، فاعتقلتهم قوات جيش الانتداب البريطاني ومعهم 27 فلسطينيا وصدر حكم الاعدام عليهم جميعا، لكن الحكم خفف عن الباقي ووتم تثبيته على الثلاثة: محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، لينفذ فيهم الحكم الظالم:
"من سجن عكا طلعت جنازة
محمد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي عليهم يا شعبي جازي
المندوب السامي وربعه عموما
محمد جمجوم ومع عطا الزير
فؤاد الحجازي عز الذخيرة
أنظر المقدم والتقادير
بحْكم الظالم تـ يعدمونا
ويقول محمد أنا أولكم
خوفي يا عطا أشرب حسرتكم
ويقول حجازي أنا أولكم
ما نهاب الردى ولا المنونا".
**
رحم الله الشهيد أبو العبد، إسماعيل هنية، وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه ومحبيه والشعب الفلسطيني وجماهير الأمة الصبر والسلوان.. وأنه لجهاد..نصر أو إستشهاد"..والنصر للمقاومة.