بقلم: رضي الموسوي
لم يفاجأ أحد بقرار الكنيست الصهيوني القاضي بالتمسك بإحتلال أراضي الـ67 واعتبار كل أرضي الضفة الغربية والقدس جزء من الكيان وعدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في جلسته التي عقدها يوم 17يوليو الماضي، تنفيذا وتطويرا لقانون الدولة القومية الذي أقره كيان الاحتلال وباشر تنفيذه بتطهير عرقي وفصل عنصري، ولحقه بحرب إبادة جماعية في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023. كل ما فعله سياسيوا الدولة العبرية ونُخبها ومجتمع المستوطنين هو الإنزياح بسرعة أكبر نحو الفاشية والنازية المتوحشة في أقصى درجاتها، وتطبيق عمليات "الترانسفير" بحق الشعب الفلسطيني في مختلف المناطق بما فيها أراضي الـ48. لكن السؤال الذي يفترض أن يطرح في الواجهة: كيف ستتعاطى الدول المطبعة مع الكيان، ومنها دول اتفاقيات "إبراهام" الأربع، التي تم التوقيع عليها قبيل انتهاء فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 2020، لتصل عملية التطبيع عند الامارات والبحرين والسودان والمغرب، بعد عقود من التطبيع مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. لقد كان في برنامج إدارة ترامب الوصول إلى "بيت القصيد" المتمثل في التطبيع مع السعودية، لأهميتها الاقتصادية والمالية والسياسية والجغرافية، خصوصا بعد خروج الدول العربية الكبرى من عملية الصراع مع العدو الصهيوني لأسباب عدة منها تفتت وتقسيم وإنهاك هذه الدول حتى أصبحت غير قادرة على تسيير أمورها الداخلية بغرقها في أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية حوّلتها إلى دول فاشلة أو في طريقها لهذا الركب.
بالنسبة للكيان الصهيوني، كانت مخططاته مع الإدارات الأمريكية المتلاحقة وتحديدا السابقة والحالية، أن يصل إلى منابع الطاقة النفطية في الخليج وأغلبها في السعودية، التي تبلغ طاقتها الانتاجية 12 مليون برميل يوميا، بما يضعها على رأس كبار منتجي النفط، ويجعل اقتصادها يناهز تريليون دولار، الأمر الذي يُسيل له لعاب الكيان وشركاته ومؤسساته المتعددة الاحجام والتخصصات. ينظر الكيان أيضا للسعودية بأنها "الدجاجة التي تبيض ذهبا"، وينطلق من هذه الأرضية ليصل إلى تطبيع يُمكّنه من الإختراق الكبير للسوق السعودية الذي ينشده، إضافة للهدف السياسي الأكبر المتمثل في تشييد الشرق الأوسط الجديد تحت قيادته، وحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة هي إحدى السبل للوصول الى هذا المبتغى.
لا يُشِيح الكيان بوجهه عن الداخل السعودي، فهو يراقب عن كثب كل تفاصيل المشهد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ويركز على قطاعات حيوية مثل النفط ومصافيه وتحلية المياه والكهرباء. ففي القطاع النفطي، وبعد تخفيض المملكة لانتاجها وفق تفاهمات (أوبك+)، وخصوصا مع روسيا، ابقت المملكة انتاجها في حدود 9 ملايين برميل يوميا، بينما تُكرر في مصافيها التسع ما يربو على 3.2 مليون برميل يوميا وتمتلك وتساهم في مصافي أخرى تضيف نحو 1.5 مليون برميل إلى طاقتها الانتاجية. ووفق رؤية 2030، فأنها تستهدف الوصول إلى تكرير ما بين 8 ملايين إلى 10 ملايين برميل يوميا. هذا يحتاج إلى تخصيص موازنات فلكية لتنفيذ الخطط المستقبلية، كما ينعكس إيجابا على القطاعات الأخرى التي نشطت أكثر في السنوات الأخيرة ومنها السياحة التي تشكل أكثر من 11 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي، ويتوقع لهذا القطاع نموا سريعا، فضلا عن قطاعات النقل والتخزين والاتصالات وتجارة الجملة والتجزئة والمطاعم والفنادق وقطاعات التأمين والمال وخدمات الاعمال، يساعد على ذلك الانفتاح الاجتماعي الكبير وتحويل المملكة المغلقة إلى دولة تستقبل كل أشكال الترفيه. وفي قطاع تحلية المياه، فأن السعودية تتصدر دول المنطقة والعالم في انتاج مياه التحلية من البحر لتصل طاقتها الانتاجية إلى 11.5 مليار متر مكعب، تنتج أغلبه المؤسسة العامة لتحلية المياه التي تملكها الحكومة. وتنتج منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا 48 بالمئة من الانتاج العالمي للمياه المحلاة، حيث بلغ حجم الإنفاق في العام الماضي على المشاريع قيد التنفيذ وتلك المخطط لها قرابة 40 مليار دولار.
وفي بلد يناهز عدد سكانه 32 مليون نسمة، ويشكل الأجانب فيها أكثر من 41 بالمئة، وتتهيأ لزيادة عدد السكان مع بلوغ العام 2030، فأن الحاجة تتضاعف لزيادة عدد المشاريع الحيوية وخصوصا الكهرباء والماء والطاقة، ما يجعل من هذه القطاعات الثلاثة محط انظار العالم الذي يبحث عن استثمارات مجدية في المنطقة، ومنها الكيان الذي يخطط للإستحواذ على نسب كبرى في هذه المشاريع، سواء بشكل مباشر بعد أن يَنجِز عملية التطبيع التي يسعى إليها، أو بشكل غير مباشر عبر شركات عالمية يكون للكيان فيها حصصا مهمة.
تطورات دراماتيكية
حلم الكيان الصهيوني بالتطبيع مع السعودية وتمدده إلى باقي الدول التي لم تطبع بعد، يصطدم بتطورات جديدة بعضها مفصلي. فالقرار الذي اتخذه الكنيست بأغلبية ساحقة، وطبّل له حلفاء نتنياهو مثل بن غفير وسموتريش، يؤكد الموقف الصهيوني الحقيقي القائم على الإقتلاع ورفض إقامة دولة فلسطينية. ويأتي هذا بعد القرار الذي اتخذه الكنيست في فبراير/شباط الماضي والقاضي أيضا برفض الاعترافات الدولية التي سماها "أحادية الجانب" بدولة فلسطين ردا على اعتراف بعض الدول الأوروبية والكاريبية بدولة فلسطينية على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وينص القرار في إحدى فقراته على: "يعارض الكنيست الإسرائيلي بشدة إقامة دولة فلسطينية غرب الأردن، إن إقامة دولة فلسطينية في قلب أرض إسرائيل سيشكل خطرًا وجوديًا على دولة إسرائيل ومواطنيها، وسيؤدي إلى إدامة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وزعزعة الاستقرار في المنطقة".
ولم يهمل القرار مسألة التحريض على إيران، فيشير إلى "لن يستغرق الأمر سوى وقت قصير حتى تستولي حماس على الدولة الفلسطينية وتحولها إلى قاعدة إرهاب إسلامي متطرف، تعمل بالتنسيق مع المحور الذي تقوده إيران للقضاء على دولة إسرائيل". كما ورد في القرار: "إن الترويج لفكرة الدولة الفلسطينية في هذا الوقت سيكون مكافأة للإرهاب وسيشجع حماس ومؤيديها على اعتبار ذلك انتصارًا بفضل مجزرة 7 أكتوبر 2023، ومقدمة لاستيلاء الإسلام الجهادي على الشرق الأوسط". يأتي هذا القرار إثر إقدام العديد من الدول الاوروبية مثل اسبانيا والنرويج وإيرلندا وسولوفينيا، ودول في امريكا اللاتينية والكاريبي، على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وقد أعتبر الكيان أن هذه الخطوات تشكل زلزالا وخطر وجوديا عليه.
بعد يوم واحد أصدرت محكمة العدل الدولية قرارا واضحا قالت فيه "إن سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية تنتهك القانون الدولي". ويبدو أن قرار الكنيست قد استبق قرار المحكمة الأممية في محاولة لقطع الطريق على الجميع، ويُحضّر لزيارة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة ولقاءه مع الرئيس الأمريكي المنصرف، جو بايدن، وخطابه الذي القاه أمام الكونغرس الأمريكي شحد فيه المزيد من الدعم ووطلب المزيد من ادوات الدمار الشامل. وقد تماهى الموقف الامريكي مع الموقف الصهيوني وتجلت شراكة الكونغرس في المذابح والمجازر المرتكبة في غزة، حيث وقف أعضاؤه لنتنياهو أكثر من خمسين مرة والتصفيق له بحماس منقطع النظير، ما يؤكد التزام البيت الأبيض بالدعم المطلق للاحتلال ومساعدته على الافلات من العقاب وبعدم الإعتراف بالقرارات الدولية المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وإقامة الدولة الوطنية المستقلة على كامل ترابه الوطني. من جانب آخر، يسجل لمحكمة العدل الدولية أنها المرة الأولى التي تصدر فيه موقفا إزاء الأراضي المحتلة منذ يونيو/ حزيران 1967، واعتبار بناء المستوطنات في الضفة والقدس عمل غير شرعي.
التطور الأكثر أهمية هو ضرب عمق الكيان من قبل الجيش اليمني الذي تقوده جماعة أنصار الله، عندما أرسلت الأخيرة في العشرين من شهر يوليو /تموز الماضي طائرة مُسيّرة وصلت إلى تل أبيب وانفجرت وتسببت في مقتل شخص واصابت المباني بأضرار مختلفة، ما أحدث زلزالا في الكيان وتشكل يقين بأنه لا مكان آمن فيه بعد أن تكفلت جبهتا الشمال والجنوب بطرد المستوطنين إلى الملاجئ لأول مرة في تاريخ الكيان. أعقب الضربة اليمنية إقدام العدو على القيام بعدوان على ميناء الحديدة وتفجير محطة الكهرباء ومخازن النفط والوقود. وبينما كانت المنطقة والعالم تنتظر طبيعة الرد اليمني، جاء العدوان الصهيوني على الضاحية والذي تم فيه إغتيال القيادي العسكري الكبير في حزب الله السيد فؤاد شكر، وبعده بيوم إغتال الكيان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في العاصمة الايرانية طهران، ليضع المنطقة على صفيح ساخن ويدحرج الاوضاع نحو هاوية لا يعرف قرارها.
وإذا كان طوفان الأقصى قد عطّل عجلة التطبيع التي كانت تسير بأقصى سرعتها، وأجبر السفراء الصهاينة بالإختفاء عن الانظار بعد أن كانوا يسرحون ويمرحون في عواصم التطبيع، فأن المواجهة المرتقبة بين دول ومنظمات محور المقاومة وبين الكيان وحلفاؤه من شأن تدحرجها إلى حرب سوف تقود إلى توتر واشتعال الموقف الميداني واصطفافات أكثر وضوحا، لتضاف إلى إعلان الكيان بعدم اعترافه بالشعب الفلسطيني وبدولته وقرار محكمة العدل الدولية..لتشكل هذه مجتمعة عقبة كأداء أمام التطبيع بين العدو الصهيوني والسعودية التي تسعى لأن تكون المركز الأكبر والأهم في منطقة الشرق الأوسط، وهذا يحتاج إلى إستقرار منطقة الخليج والجزيرة العربية، على الأقل، لتتمكن من اجتذاب الاستثمارات التي تنشدها، فضلا عن تلبية شرطها بضرورة اعتراف الكيان بحل الدولتين، وقد شطبه قرار الكنيست الصهيوني من المعادلة.
إذن، ما مصير التطبيع بين الكيان الصهيوني ودول الخليج العربي؟
يبدو أن الأمر لا يزال في وضع "ستاتيكو" بالنسبة للإمارات والبحرين، حيث تسير معطيات التطبيع بعيدا عن الأعين، نسبيا. أما بالنسبة السعودية فقد نسف الكيان الجسور التي حاول الأمريكان تعبيدها عبر حل الدولتين، ويبقى رهان الكيان على فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الامريكية التي ستنتظم في نوفمبر المقبل، ليمارس الضغوط القصوى من أجل إعادة عجلة التطبيع كما كانت في العام 2020. لكن هذا جزء واحد من المعادلة، ويبقى الجزء الآخر المتمثل في الفعل المقاوم الذي تجسده المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة والقدس وجبهات الإسناد والتي ستفرز هي الأخرى معادلاتها المقابلة، وربما تفرضها على المنطقة لوئد التطبيع وقطع الطريق على حلم "إسرائيل" الكبرى، وتعبيد الطريق لإنتصار فلسطين وقضيتها العادلة.