DELMON POST LOGO

الملكية العامة للثروة الوطنية.. الطريق الحضاري لتحقيق العدالة والسعادة .. -اقتصاد الهنود الحمر نموذجاً-

بقلم : عبدالله جناحي-البحرين

نحن بحاجة إلى دراسة تفكيكية وتحليلية طبقية لمجتمعات الهنود الحمر في القارة الأميركية، ذلك أن هذه المجتمعات "البدائية" و"المشاعية"، ونوعاً ما "الشيوعية" على صعيد الاقتصاد، كانت تمتلك من الخصائص والسمات التي بمقدورها أن تتطور وتتحول إلى "نموذج" إنساني وأممي، لولا الإبادة الجماعية البربرية التي مورست بحقها من قبل الإنجليز والفرنسيين الذين استعمروا هذه القارة الجديدة. وقضوا على ١١٢ مليون إنسان، و٤٠٠ قبيلة هندية بتنوع ثقافاتها وقيمها وتطور بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتشريعية.

وأحسب أن ماركس، وغيره من المفكرين الاقتصاديين والاجتماعيين، لم يلحقوا في دراسة هذا الشعب في القارة الجديدة، حيث ظهرت وثائقه وتاريخه بعد سنوات من إبادتهم الجماعية.  لقد أعطى ماركس أهمية بالغة لدراسة المشاعية والشيوعية البدائية في تحليله للمجتمعات البشرية الأوروبية. فقد اعتبر المشاعية التي سادت فيها الملكية الجماعية للأرض والموارد هي النموذج الأولي للمجتمع الشيوعي. ورأى أن هذا النظام الاجتماعي البسيط يمثل شكل التنظيم الاقتصادي والاجتماعي الطبيعي للبشرية في مراحلها الأولى. واعتقد أن الشيوعية كأعلى مراحل التطور التاريخي للمجتمعات الأوروبية هي بمثابة عودة للمشاعية البدائية ولكنها على مستوى أعلى تطوراً نتيجة مرور المجتمع بالمراحل الصناعية والعلمية والتقنية. وأن الشيوعية ستمثل استعادة للملكية الجماعية والإنتاج المشترك، لكن على أساس تقني واجتماعي أكثر تطورًا. ورأى أن هذا سيؤدي إلى زوال الطبقات الاجتماعية والدولة وتحقيق المساواة الحقيقية بين البشر. وأكد ماركس على أهمية دراسة أشكال المشاعية البدائية كمصدر للإلهام والنماذج التنظيمية للثورة الاشتراكية. حيث اعتبر أن هذه الأشكال الأولية للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي ستلعب دورًا هامًا في بناء المجتمع الجديد.

بشكل عام، شكلت دراسة المشاعية والشيوعية البدائية جزءًا محوريًا من تحليل ماركس للتاريخ والمجتمع، وأسهمت في بلورة رؤيته للثورة الاشتراكية والمجتمع الشيوعي المستقبلي. لذلك أحسب بأن (لو) كان ماركس قد اطلع على نموذج الهنود الحمر، لأعاد النظر في الكثير من "المسلَّمات" الطبقية والإنتاجية، ومفهومي البنية التحتية والبنية الفوقية للمجتمعات. وحتى مفهومه (للمادية التاريخية) الذي تم تعميمه على عموم المجتمعات في العالم، وجوهره الصراع الطبقي. فجميع هذه المسلمات الماركسية يبدو بأنها قد اختفت، أو هُمِشت في قبائل الهنود الحمر.

فحسب الدراسات التي بحثت عن البنية الطبقية لمجتمعات الهنود الحمر، تتوضح أن السمة البارزة فيها هي غياب "الملكية الفردية"، والتي كانت لها آثار هامة منها: هيمنة نظام الملكية الجماعية للأراضي، حيث كانت الأراضي والموارد الطبيعية ملكية جماعية للقبيلة أو المجتمع، وليست مملوكة بشكل فردي. هذا النظام عزّز الترابط الاجتماعي والتعاون. ووجود نظام إعالة الجماعة، بدلاً من الادخار الفردي، حيث كان هناك نظام تبادل وإعالة داخل المجتمع، وكان الأفراد ملزمين بمساعدة وإطعام أفراد المجموعة الأكثر ضعفًا. ومن أهم هذه الآثار عدم تراكم الثروة، بسبب غياب الملكية الفردية والنظم الاقتصادية القائمة على المشاركة، وبالتالي لم تكن هناك فرصة لتراكم الثروة الفردية والنفوذ السياسي الذي ينتج عنه.

وبعد الغزو الأوروبي- وبالأخص الإنجليزي والفرنسي- وسيطرتهم الكاملة على القارة الهندية، تم فرض أنظمة الملكية الفردية الأوروبية على الشعوب الأصلية، أدى ذلك إلى تفكيك النظم الاقتصادية التقليدية وتهميش المجتمعات الأصلية اقتصاديًا واجتماعيًا. حيث تم تفكيك الملكية الجماعية للأراضي والموارد، مما أدى إلى انهيار النظم الاقتصادية التعاونية وتوقفت ممارسات التبادل والمشاركة التقليدية.

مضمون حضارة الهنود الحمر:

يشير الباحث الفلسطيني منير العكش في كتابه القيِّم (أميركا والإبادات الجماعية) إلى بعض أهم سمات قبائل الهنود الحمر والتي تكشف مدى تطور حضارتها اقتصادياً واجتماعياً وقيمياً. فلم يبخل الشعب والقبائل الهندية على نقل خبراتهم وبراعتهم والفنون الزراعية التي يمتلكونها "للضيوف" الجدد الذين حلوا على قارتهم. كانت تلك اللقاءات "الودية" فرصة عظيمة للغزاة الغرباء تعلموا منها ما ميزهم عن أهل جزيرتهم الأولى، إنجلترا، و«أمركهم» رويداً رويداً، وأمدهم بالأفكار والعواطف التي أشعلت الثورة الأميركية وانتهت بقيام «الإتحاد». منذ تلك الحجة المباركة الأولى على متن السفينة الأسطورية (ماي فلور) حين وصل فيها الحجاج إلى شواطئ "كنعان الجديدة" كانوا يحلمون ببناء أورشليمهم المقدسة أو ما كانوا يسمونه في رموزهم المقدسة بالمدينة الجبلية city upon a hill وكانوا يشعرون بأنهم يتميزون عن أهل جزيرتهم "إنجلترا" بسمات وفضائل مختلفة أولها أن خروجهم من جزيرتهم يضاهي خروج العبرانيين من مصر إلى أرض الميعاد. منذ ذلك الحين، ترك الهنود بصماتهم على النظام السياسي والاجتماعي للغزاة؛ على مأكلهم وملبسهم وطرق تفكيرهم. لقد عرفوا كيف يعيشون في أميركا وطبيعتها الوحشية آلافاً من السنين، وليس أمام الغزاة الجدد إلا ما قاله كاتب الخيال العلمي "أ. فان فوغت" لأبطاله الراحلين إلى المريخ: «تعلموا من أهله وتكيفوا أو موتوا». لكن التاريخ المنتصر وحش لا يسمن ويقوى إلا بلحم الفرائس الآدمية.

ومن أبرز ما محاه التاريخ المنتصر إعجاب الغزاة بروعة ما شاهدوه لدى الهنود من أفكار وتقنيات وشرائع وعادات وفنون وفلسفة حياة وفصاحة لسان. ذلك الإعجاب الذي أغرى بعضهم بالانضمام إلى المجتمع الهندي والعيش بينهم). في عام ١٧٢٧م نشر العالم الطبيعي الإيرلندي Cadwallader Colden كتاباً يعتبر من أندر الشهادات عن النظام السياسي والاجتماعي والتقدم التقني والرقي الديني والفني والخطابي لدى الشعب الهندي في القارة الجديدة. لقد قارنهم بعظماء سياسيي الرومان واليونان وخطبائهم وأبطالهم، بل قال عنهم إنهم يتفوقون على الرومان واليونان تفوقاً عظيماً إذا ما اضطروا إلى الخيار بين الحياة وبين الحرية. واعترف لهم بفرادة اتحادهم الفيدرالي ونموذجيته وتطوره السياسي والدستوري الذي لم يعرف له المسيحيون (ويقصد الأمم الأوروبية) مثيلاً.

لنقرأ ما كتبه كولدن عن هؤلاء الذين سلبهم التاريخ المنتصر إنسانيتهم ولم يبق منهم إلا هذه الصورة المشوهة التي نراها في أفلام رعاة البقر (إنهم يعيشون في ظل اتحاد قائم بين هذه الأمم الهندية منذ مئات السنين ولا يمكن الحدس ببداياته ومن المرجح أن الإتحاد أقيم في عام ١٥٧٠م. كل أمة في هذا الإتحاد جمهورية لا مركزية مستقلة يقودها زعماء محنكون في السياسة، طاعنون في السن، يستمدون سلطانهم وقوتهم من حكمتهم ونزاهتهم، ومن مبايعة أفراد الأمة لهم؛ زعماء لا يعرفون العنف ولا الإكراه في التعامل مع أبناء أمتهم. فالمحسن يثاب بالتكريم والاحترام والتبجيل، والمسيء يعاقب بالازدراء والاستنكار ووصمة العار. إنك ترى هؤلاء الزعماء خدماً لشعوبهم على نقيض الحال مع ملوك عالمنا القديم وحواشيهم، وتراهم أفقر الناس لأن عليهم ساعة اختيارهم كحكام أن يهبوا ما لديهم لعامة الناس، وأن لا يحتفظوا لأنفسهم بشيء من الهدايا الرسمية أو من غنائم الحروب. أما إذا زلت أنفسهم وخانوا هذه الفضائل فإن شعبهم لهم بالمرصاد؛ سرعان ما ينحيهم عن مناصبهم ويحتقرهم ويزدريهم).

يشير كتاب العكش بأن (الهنود لا يؤمنون بالملكية الفردية مما حال دون قيام نظام الوراثة ومبدأ التمييز وعلاقات الجشع والعنف، وقضى على كثير من مغريات بيع الطبيعة وشرائها. فالطبيعة التي يعيشها الهنود لم يرثوها عن آبائهم وأجدادهم، بل يعتقدون أنهم استعاروها من أبنائهم وأحفادهم). وللتعبير عن افتتانه بالنظام السياسي والاجتماعي للاتحاد الهندي استعان كولدن بكلمات المؤرخ الفرنسي مسيو دو لا يوتري فقال مستشهداً (إننا حين نتحدث في فرنسا عن الأمم الهندية فإن الصورة الأولى التي تتبادر إلى أذهان السامعين هي صورة البرابرة المتوحشين. ولكن الواقع مختلف تماماً، فهم على مستوى رفيع جداً من السياسة والتشريع لم تعرفه فرنسا قط. إنك لا تلمس ذلك من براعتهم في إدارة شؤونهم مع الفرنسيين والإنكليز وحسب، بل تلمسه كذلك في أساليب تعاملهم مع غيرهم من الأمم الهندية). يقول المؤرخ James Adiar في عام ١٧٧٥م (إن الهنود أكثر تحضراً من الإنكليز وإنهم يعيشون في ظل أنبل القوانين وأبسطها.

هذا دستورهم أو "قانون السلام الأعظم» The Great Law of Peace ينبض بالحرية، وهاهم جميعاً ينعمون بفرص متكافئة وامتيازات متساوية، سعداء ليس هناك من وصف ممكن للفرح والبهجة والدفء والشجاعة التي تعمر صدورهم). هذه الحرية الغريبة عن حياة الإنكليز الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة هي الحرية المثالية التي يحلم بها كل مجتمع، كما يقول كولدن. (إن الإنكليزي مثل الإسرائيلي يؤمن بالحرية، ولكن لنفسه فقط، أما مفهوم الحرية لدى الأمم الهندية فمفهوم مطلق لا يسمح باستعلاء الكبير على الصغير ولا باستكبار القوي على الضعيف. فإما المساواة أو الموت). لعل إصرار الهنود على المساواة والحرية المطلقة في دستورهم وعقائدهم المقدسة هو الذي جعلهم من المجتمعات النادرة التي لم تعرف نظام الرق أو السخرة، كما حدث في أوروبا، حرية تشمل الكبير والصغير، والمرأة والرجل، حتى إن الغزاة الأوروبيين لم يصدقوا ما رأته أعينهم من كرامة المرأة الهندية. يقول كولدن (كل ما يملكه الرجل - باستثناء فرسه وسلاحه يؤول إلى امرأته عند الزواج. إنهم يعاملون نساءهم باحترام لا نعرفه في إنكلترا). كما أن روعة فنهم الخطابي هي التي عززت مقارنتهم بالرومان والإغريق لدى كولدن وغيره من الأوروبيين المنصفين الذين عرفوا الهنود عن قرب.

في كتابه (الواهبون الهنود) Indian Givers يتحدث عالم الإنسانيات Jack Wetherford بتفصيل ساحر عن فضل الهنود الحمر على الحضارة الإنسانية وما يدين لهم به عالمنا اليوم في ميادين الزراعة والصناعة والتشريع والطب والعمران والاكتشافات وغير ذلك مما جحده التاريخ المنتصر وشوهه ليخفي جريمته الهائلة؛ جريمة إبادة ۱۱۲ مليون إنسان ومحو أكثر من ٤٠٠ ثقافة من سجل الحضارة الإنسانية في أكبر هولوكست عرفه التاريخ البشري. (كان لاتحاد قبائل الهنود الحمر مركز تجاري كبير في الشمال الأميركي، وكانوا يسيطرون على شبكة المواصلات بين الشاطئ والداخل، وكان لهم تأثير ديبلوماسي بارع). لم يكن لهؤلاء المستعمرين أن يبقوا على قيد الحياة لولا إنسانية الهنود وسخاؤهم وحبهم للسلام كما يقول William Nelson Fenton في كتابه الوثائقي The Great Law and the Longhouse: عن كونفدرالية "الأوروكو"-أي تحالف قبائل الهنود- (كان على المستعمرين أن يتعلموا لبس الملابس وأحذية الثلج الهندية التي ما تزال آثارها باقية إلى اليوم عند المزارعين ورعاة البقر، وكان عليهم أن يأكلوا الذرة والبطاطا الهندية ويتعلموا فن زراعتها. وكان عليهم أكثر من ذلك أن يتعلموا منهم كيف يبنون الدولة العادلة التي لم يجدوا لها مثالاً في عالمهم القديم. إن تحالف القبائل الهندية أدى إلى نشوء مجالس المعاهدات التي جمعت زعماء الطرفين). ومن تلك المجالس انطلقت فكرة الإتحاد الأميركي في ذهن الرئيس بنجامین فرنكلين. وانطلقت كذلك فكرة مجتمع اللاإكراه في ذهن الرئيس توماس جفرسون. هناك عشرات الدراسات الأكاديمية ومئات الأبحاث المنشورة اليوم. ومن أول هذه الدراسات وأهمها وأشملها كتاب Donald Grinde (الأوروكوا وتأسيس الأمة الأميركية) حيث كشفت وثائقه العسكرية والديبلوماسية الكثيرة عن التأثير الهائل الذي تركه الأوروكوا في فكر توماس جفرسون وبنجامين فرنكلين.

كل هذه الدراسات الأكاديمية أكدت على أن الهنود مارسوا في ظل اتحاد الأمم الهندية مفاهيم المشاركة والمساواة والحقوق الطبيعية ومعظم ما كان الفلاسفة والمصلحون الأوروبيون يعتبرونه ضرباً من الفراديس والمدن الفاضلة. لقد عبر نظام الإتحاد الهندي في دستوره "قانون السلام الأعظم" عن مفاهيم وتصورات فلسفية وسياسية غريبة جداً على الملكيات الأوروبية وعن شرائع "الحق الإلهي" والبطريركية والتمييز العنصري. كان ينص حرفياً على أن يكون الزعيم خادماً وليس صاحب حق إلهي، وعلى أن يكون الزعماء أجراء عند الشعب وليسوا سادة عليه. ووضع الدستور شروطاً لتنحية هؤلاء الزعماء لا بد من تنحيتهم عند خرقها. كذلك ضمن الدستور لكل من يعيش في ظل الإتحاد من مواطنين وغرباء حرية التعبير الديني والسياسي، وحرم دخول البيوت بدون إذن أهلها، ونص على حق مشاركة المرأة، وتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً. هذه المفاهيم الديموقراطية واللاطبقية التي تبدو مستمدة من الدستور الأميركي اليوم كان هنود هذه الأمم يعيشون في ظلها ويمارسونها داخل أميركا قبل أن يسمع العالم شيئاً عن جان جاك روسو، وجون لوك، وبنجامين فرنكلين، وتوماس جفرسون، والممثل جون واين وأكاذيب التاريخ المنتصر في هوليوود.

إن النموذج الاقتصادي والاجتماعي للهنود الحمر يستحق الاستفادة منه لبناء مجتمع الحق والعدالة والمساواة في مجتمعاتنا المعاصرة.