بقلم : عبد الله جناحي
نحن الآن، في هذه الأيام العصيبة، وبعد اغتيالِ الشهيدِ المناضلِ القائدِ إسماعيل هنية في طهران. نحن الآن في محطة مفصلية حساسة، كمواطنين مقاومين ضد التطبيع مع العدو الصهيوني من جهة، وداعمين للمقاومة الفلسطينية الباسلة، ومتضامنين قلباً ووجداناً ومالاً ونفساً مع شعبنا الفلسطيني الصامد من جهة ثانية.
في المحطة الأولى في عامي ١٩٤٧-٤٨ عند إعلان تأسيس الكيان المصطنع، تم انتزاع الجزء الأكبر من فلسطين واغتصابه على أيدي عصابات الحركة الصهيونية، وترك المناطق المقدسة الإسلامية وبعض المقدسات المسيحية تحت وصاية محايدة، ومُنِع الاستيطان في الضفة الغربية وغزة. وهذا ما كان غيرَ مقبولٍ من قِبل الحركة الصهيونية. لذلك قامت بإعلان معركة "شكلية" مع المستعمر البريطاني، وما لبث أن أدخلت شعبَنا الفلسطيني في حرب غيرِ متوازنة أدَّت إلى تحقيق أحدِ أهدافِ الصهيونيةِ في إلغاءِ ذلك التوازنِ "الهش" الذي اصطنعه المستعمرُ البريطانيُ بين العرب الفلسطينيين والصهاينةِ اليهود.
وحينها كانت المجازرُ مستمرةً بحقِّ شعبنا وتم تدمير القرى عن بكرة أبيها، والأنظمةُ العربيةُ، لاسيما المحيطة بفلسطين إما كانت خائنةً وراضخةً للبريطانيين، وإما كان لا حول لها ولا قوة. وتركنا شعبنا الفلسطيني يناضل لوحده.
وجاءت المحطةُ الثانيةُ بعد هزيمة ١٩٦٧ لتبتلعَ بقيةَ الأراضي الفلسطينية كالضفةِ وغزة، بما فيها المناطق المقدسة الإسلامية والمسيحية، كما تم احتلال سيناء المصرية والجولان السورية وجنوب لبنان . وبدلاً من استنهاض طاقات وقوى الجماهير العربية والإسلامية، التهينا وانغمسنا في اختلافات وخلافات فكرية وأيديولوجية ودينية وقومية. الشقيق العربي دخل في صراع سياسي وفكري مع نظامه الحاكم، ومع الأحزاب المختلفة عن حزبه وانتماءاتهالفكرية والعقائدية.
وتركنا شعبَنا الفلسطيني وأرض فلسطين للصهاينة يمرحون فيها، تركناهم لوحدِهم، ونسيناهم، وتناسينا بَوصلتَنا القدس، وتحرير فلسطين، رغم أن الأمةَ العربيةَ من المحيط إلى الخليج كان إعلامُها ومسؤولوها يصرخون ويطالبون بتحرير فلسطين وطرد الصهاينة.
وبين هذه المحطة والمحطة الثالثة، جاءت بارقة وبصيص من الأمل، وخطوات مفرحة في التحرير والمقاومة والتحدي العربي، فترة حرب أكتوبر المجيدة عام ١٩٧٣، والخطوة الشجاعة التي أقدم عليها الملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله بقطع إمدادات النفط على الدول الغربية الداعمة للعدو الصهيوني.
وبدلاً من أن تكون هذه المحطةُ المهمةُ نقطةَ انطلاقٍ نحو التحررِ من هيمنةِ الغربِ وتوحيدِالصف العربي لمواصلة النضال والمقاومة. بدلاً من ذلك، جاءت مكانها المحطة الثالثة الطويلة، وذلك بعد تراجع مرحلة قيادة عقيدة الثورة في قيادة الأمة، لِتَحُلَّ محلَّها مرحلة قيادة قيم وعقيدة الثروة التي حوَّلت الصراعَ العربيَ الصهيونيَ من صراعِ وجودٍ إلى صراعِ حدود.
ودخلنا مرحلةَ تطبيعِ الأنظمة العربية مع العدوِّالصهيوني، وهي مرحلةٌ ممتدةٌ بسلسلةٍ من المحطات التطبيعية والاتفاقيات، من كامب ديفيد المصرية، ووادي العربة الأردنية، واتفاقية أوسلو الفلسطينية، والاتفاقية الإبراهيمية التي تم تتويجها بالتطبيع الإماراتي والبحريني، فضلاً عن التعاون والتنسيق الوثيق بين الكيان الصهيوني ومعظم الأنظمة العربية. ومرة أخرى تركنا شعبنا الفلسطيني لوحده في ساحة النضال. وهنا، وفي هذه اللحظات التي كان قطارُ التطبيع، وتمييع النضال منطلق كالصاروخ، كان التيارُالمقاومُ من شعبنا الفلسطيني مدعوماً بالتيار العربي والإسلامي والأممي المؤمن بالمقاومة ورفض التطبيع والتمييع، قد قرر المضي ودون تهاون في استمرار خط الصمود والمقاومة، وذلك بعد أن:
(سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ
سقط القناعُ لا إخوةٌ لك يا أَخي،
لا قلاعُ، لا الماءُ عندكَ، لا الدواء، ولا السماء ولا الدماءُ، ولا الشراعُ، ولا الأمامُ، ولا الوراءُ)
هكذا تنبأ الشاعر محمود درويش حالَ الشعب الفلسطيني قبل أكثرِمن أربعين عاماً من وضعِنا الراهن. وقررت قوى المقاومةِ الفلسطينيةِوالعربية تنفيذَ إستراتيجية "نقطة الصفر" الهجومية. كما نادى بها شاعرُنا درويش:
(حاصِرْ حصَارَكَ... لا مفرُّ
سقطتْ ذراعُكَ فالتقطها واضرب عَدُوَّك ...
لا مفرُّ،
وسقطتُ قربكَ، فالتقطني واضرب عدوكَ بي
.. فأنت الآن حُرُّ حُرٌّ وحُرُّ.
فيك ذخيرةٌ فأضربْ بها. اضرب عدوَّكَ... لا مَفَرُّ.
سقطَ القناعُ عن القناعِ عن القناعِ.
سقط القناعُ ولا أَحدْ إلاَّك.
لا أَحَدْ.
سقط القناعُ)
لذا كان موعد الطوفان، فلا أحدَ معك غيرُ الشرفاء الأوفياء من المحيطِالهادرِ إلى بحرِ عُمان. وبعد أن تيقن أصحاب الطوفان بأن:
(عَرَبٌ أَطاعوا رُومَهم
عَرَبٌ… وضاعوا. سَقَطَ القناعُ)
فقال المقاوم لرفيقِه المقاوم:
(كُنْ أنتَ. كُنْ حتى تكونْ!
فإمَّا أَن نكونْ أَو لا تكونْ.
كَمْ سَنَهْ وعدُوْكِ باللغةِ الجديدة). السلام الفارغ
(كَمْ عَرَبٌ أَتَوْكِ ليصبحوا غَرْباً).
وكَمْ غَرْبٌ أَتاكِ ليركعَ في محرابِ النفطِ المُقَدّسِ؟
كَمْ سَنَة وأنا أَصدِّقُهم، وتركتُ البندقية.
فانتبهوا بعد الطوفان أيها الأحبة
انتبهوا بعد هذه الإبادات والمجازر والاغتيالات.
انتبهوا من الإستراتيجية الإعلامية والاستخباراتية للحركة الصهيونية والداعمين لها من خفافيش الظلام، في غسل الأدمغة، والتلاعب بالعقول، وخلط الأوراق لتحقيق
مخططاتهم في شَق الصفوف، والتشكيك فيما بيننا، وزرع الطائفية والقطرية. ولنكن نحن الذين أيادينا ليست في جحيم وناره التي تنهال على غزة، ولكن نحن الصفوف الخلفية التي تدعم المقاومين، المؤمنين بالقضية، والداعمين لها بمواصلة مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني ومقاطعة الداعمين لهذا الكيان، نحن المؤمنون بمناصرة فلسطين بالمال والإعلام والتوعية والدعاء.
نحن الرافعة المعنوية للمناضلين المجاهدين في ساحات المقاومة المسلحة، علينا أن يكون شعارنا المقدس؛ التأكيد على إستراتيجية وحدة الساحات، وحدتنا، وبوصلتنا نحن مع كل من يدعم المقاومة من داخل فلسطين وخارجها، بغض النظر عن انتماءاته القومية والدينية والمذهبية والفكرية. فالعدو والمراهنون بهزيمة المقاومة سوف يواصلون مخططاتهم في إضعافنا كجماهيرَعربيةٍ وإسلامية وإقليمية وعالمية. جماهير تمارس حقها في الاحتجاج المدني والسلمي. لنكن واعين لمن يحاول تمزيقَ وحدتِنا عَبر بث الشائعاتِ ومحاولةِ خلقِ الكراهيةِ الطائفيةِ والمذهبيةِ والإقليمية، والتنازع فيما بيننا، وإضعاف إستراتيجية وحدة الساحات العربية والإقليمية الداعمة للمقاومة الفلسطينية، وبالتالي نسيانَ قضيتِنا الكبرى المتمثلةِ بدعم شعبِنا الفلسطيني.
فلنكن بيضة القبان، مسطرة التوازُنِ بين من يرَون أن صراعَنا مع الكيان ِالصهيوني هو صراعُ وجودٍ وحدود، وليس صلحًا إبراهيميًّا، نحن التوازن بين ما يجب الدفاعُ عن الحق وفضح من يريدُ تحريفَ المسار عن بوصلتنا التي قال فيها الشاعر العراقي مظفر النواب:
أيها الجند،،،، أنتم
(بوصلة لا تُشير إلى القدسِ مشبوهةٌ)
نعم أيها الأعزاء، من يحاول خلط الأوراق وتشويه الحقائق، وإضعاف إستراتيجية وحدة الساحات، فإن بوصلته العروبية والفكرية مشبوهة. فانتبهوا منهم.
المجد والخلود لشهداء فلسطينَ والأمةِ العربية
الفخرُ والعزةُ لصمودِ المقاومينَ الأبطال، أشباحِ الطوفان والأنفاق.
وصولاً إلى تحريرِ كاملِ الترابِ مِن الماءِ إلى الماء، وتشييدِ الدولةِ الفلسطينيةِ العربيةِ وعاصمتها القدس، كلُّ القدس.
----------------------
** كلمة الاعتصام الجماهيري لدعم فلسطين – جمعية مقاومة التطبيع .. هذه حرب الامة كلها .. تأبين الشهيد المناضل القائد اسماعيل هنية .