بقلم : عبد النبي الشعلة
اتخذت إسبانيا مواقف وتبنت سياسات مناصرة ومؤيدة للقضية الفلسطينية وشاجبة ومنددة للجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وذلك في تباين وتناقض مع مواقف غالبية أقرانها من دول المجموعة الأوروبية.
إن اعتراف إسبانيا بالدولة الفلسطينية في شهر مايو الماضي، وانضمامها إلى جنوب أفريقيا في قضية “الإبادة الجماعية” المرفوعة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وغيرها من المواقف المساندة للشعب الفلسطيني أدت إلى زيادة حدة توتر العلاقات بين إسبانيا وإسرائيل؛ وهي علاقات لم تكن ودية أو حميمية في الأساس؛ فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأ التدهور في هذه العلاقات عندما عارضت إسرائيل انضمام إسبانيا للأمم المتحدة بذريعة أن إسبانيا كان لها علاقات مميزة مع ألمانيا النازية، كما أن إسبانيا رفضت الاعتراف بدولة إسرائيل ولم تُقِم علاقات دبلوماسية معها إلا في العام 1986، أي بعد 38 عامًا من قيامها؛ مع أن إيران الدولة المسلمة اعترفت بإسرائيل في العام 1950 لتكون ثاني دولة إسلامية تقوم بهذه الخطوة بعد تركيا التي اعترفت بالدولة الصهيونية في العام 1949 أي بعد عام واحد فقط من قيامها.
إن مواقف وسياسات إسبانيا تجاه القضية الفلسطينية، لا شك أنها مبنية على خلفيات تاريخية، ومنطلقة من مصالح وطنية، إلى جانب قناعة إسبانيا بعدالة هذه القضية، وبضرورة شجب تهور الإسرائيليين وتماديهم في انتهاك أبسط الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؛ هذه المواقف والسياسات ترتكز أيضًا على أسس أخلاقية، وتستند إلى مرتكزات تراثية وعاطفية وتنبعث من جذور حضارية.
لقد كثّفتُ زياراتي لإسبانيا خلال العقدين الماضيين، وتجولت بين مختلف مدنها ومعالمها، وقرأت وتتبعت قدر الإمكان ما تشهده من أحداث وتطورات، والتقيت بعدد ليس قليلا من وجوهها ورجالاتها، وأستطيع أن أزعم بأنني قد تمكنت، إلى حد مقبول من تكوين قاعدة ذهنية من المعطيات التي تمكنني من أن أجزم بأن السبب الرئيس وراء هذه المواقف يكمن في حقيقة أن الروح العربية ظلت وما زالت عالقة في وجدان الشعب الإسباني، وأن الدماء العربية ما تزال تسري في عروق الكثيرين منهم بعد أن حكم العرب المسلمون إسبانيا لأكثر من 800 عام.
وقد تجلت مظاهر هذه الروح، أو صحوتها خلال العقود القليلة الماضية في الجهود التي يبذلها الكثير من الإسبان لإطلاق مخزون الموروث العربي والوجود الأندلسي القابع في نفوسهم.
لقد وطأت الأقدام العربية الأراضي الإسبانية في العام 711م عندما توغلت جحافل جرارة من الجنود المسلمين الفاتحين، وتوسعوا وانتشروا في أنحاء الأراضي الإسبانية كافة حتى شمالها، مئات ومئات الآلاف منهم استقروا وتزاوجوا وتكاثروا على مدى ثمانية قرون، وطيلة تلك القرون انتقلت أيضًا موجات تلتها موجات من العرب النازحين إلى ديار العلم والثقافة والانفتاح؛ الديار الغنية الخضراء الجديدة؛ من العلماء والمفكرين وطلبة العلم، ومن الأمويين وأتباعهم الفارين من بطش العباسيين، وغيرهم؛ فامتزجت بذلك الدماء العربية والإسلامية بالإسبانية، بحيث لم يعد بالإمكان فصلها بسهولة.
وقد تمكن الملك فرناندو والملكة إيزابيلا من استرجاع المدن الإسبانية الواحدة تلو الأخرى من الحكام العرب إلى أن سقطت في أيديهم غرناطة آخر معاقل المسلمين سنة 1492م، منهيَين بذلك ثمانمائة سنة من الحكم العربي الإسلامي لبلاد الأندلس، ونتيجة لهذا السقوط تعرض الكثير من سكان الأندلس للقتل أو الطرد والتهجير، لكن غالبية العرب والمسلمين ظلوا متشبثين بهويتهم الوطنية الإسبانية واضطروا إلى التنصر، إلا أن تنصر الكثير منهم كان تقية، وظلوا متمسكين خفية بدينهم الإسلامي لقرون عدة، وكان يطلق على العرب والمسلمين المتنصرين “الموريسكيين”.
لقد تمكن الإسبان الفاتحون من القضاء على الحكم العربي الإسلامي لإسبانيا بشكل قاطع، لكنهم لم يتمكنوا من القضاء على الروح العربية الإسلامية التي ظلت متأصلة وعالقة في وجدان الكثيرين منهم، والتي بدأت تستيقظ خلال العقود القليلة الماضية في عدة مظاهر؛ منها أنهم أصبحوا يقدرون ويتفاخرون بما تبقى من المعالم الإسلامية، وصاروا يتباهون باسم ومكانة قصر الحمراء بغرناطة والمسجد الكبير بقرطبة، وغيرهما من المعالم والقصور والقلاع التي شيدها العرب، واهتموا بترميمها وإعادة هيبتها، فأصبحت تستقطب الملايين من السياح سنويًا وتدر على خزائنهم بلايين الدولارات كل سنة.
ولم يعد الإسبان يتحسسون أو يتحرجون من تسمية جامع قرطبة بـ “المسجد” ولا يصرون على تسميته بالكاتدرائية كما كان في السابق، ويعتزون بقمة جبل مولاي الحسن Mulhacen، وهو من بين أعلى سلسلة جبال منتجع Sierra Nevada بغرناطة، الذي دفن على قمته أبو الحسن علي أو مولاي الحسن أحد ملوك غرناطة في القرن الخامس عشر.
وقد تمت إزالة الحجر عن تعليم الحقبة الأندلسية في المؤسسات التعليمية، وزال الحرج والخوف من الكشف عن الأسماء الحقيقية للأسر أو الأصول العربية التي ينتسبون إليها؛ وتبين على سبيل المثال أن من 400 إلى 500 عائلة إسبانية على قيد الحياة الآن تنحدر من سلالة بني أمية.
ونُصب في العاصمة الإسبانية مدريد في شهر مايو 2021 تمثال للخليفة عبدالرحمن بن معاوية أو عبدالرحمن الداخل، الأمير الأموي الذي هرب من الشام إلى بلاد الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، وأسس الدولة الأموية في الأندلس في العام 756م فأصبح هذا التمثال أحد المعالم التي تخلد ذكرى هذه الشخصية المهمة في التاريخ الإسباني؛ فلهذه الشخصية إسهامات بارزة في تاريخ وتراث إسبانيا، وكانت وراء انتقالها من العصور الوسطى في أوروبا إلى مركز متقدم للعلم والثقافة، ومن المفارقات اللافتة أن التمثال نصب في “ساحة الإمام علي”؛ وهي بدورها منطقة حديثة التطوير تقع في حي “فونتنكار” بالقرب من مركز مدريد.
وجاء تطوير هذه الساحة كخطوة مهمة لتعزيز التفاهم الثقافي بين المعتقدات المختلفة والاعتراف بالتاريخ الإسلامي وتأثيره في الثقافة الإسبانية وتشكيل الهوية الإسبانية.
وكمؤشر على تصالحها مع تاريخها الإسلامي أصدرت الحكومة الإسبانية في العام 2022 طابعًا تذكارياً احتفاءً بالقائد المسلم الحاجب المنصور، محمد بن أبي عامر رئيس وزراء الدولة الأموية في الأندلس وحاكمها الفعلي في عهد الخليفة هشام الثاني، والحاجب المنصور كان قد خاض في الأندلس أكثر من 50 معركة انتصر فيها جميعًا ومدد نتيجة لها حدود الدولة الإسلامية على الأراضي الإسبانية إلى أقصى شمال الجزيرة الأيبيرية.
وأصبحت شوارع بعض مدن إسبانيا تزدان بأسماء شخصيات عربية لها إسهاماتها في تاريخ إسبانيا وحضارتها وثقافتها، منها شارع عبدالرحمن الداخل، وشارع المنصور في مدريد، وشارع ابن رشد، وشارع ابن زيدون، وشارع وساحة المظفر في قرطبة، وشارع المعتمد، وشارع ابن سينا، وساحة الحمراء في إشبيليا، وشارع ابن الخطيب، وشارع الحمراء، وساحة الزهراء في غرناطة، وشارع ابن البيطار، وساحة ابن فرناس في ملقة، وشارع الزهراء، وساحة طارق بن زياد في بلنسية، وشارع ابن عربي، وساحة ابن رشد في مرسية، وشارع الزهراوي، وساحة القصر في طليطلة، وغيرها من الشوارع والميادين والساحات التي تُذكّر الإسبان كل يوم بتاريخهم العربي الإسلامي المضيء.
وكما ذكرت في بداية هذه الوقفة، فإنني خلال العقدين الماضيين التقيت وما أزال بعدد غير قليل من وجوه ورجالات إسبانيا، ولم اتمكن حتى الآن من الإجابة على تساؤلات بعضهم عن الفائدة التي جنتها بلادهم لقاء مواقفها الإيجابية تجاه القضايا العربية وحقوق الشعب الفلسطيني، فإسبانيا لا تحظى بموقع متقدم في حجم التبادل التجاري مع العالم العربي، ولا تأتي على قمة الدول التي تتوجه الاستثمارات العربية إليها، ولم تتطور علاقاتها مع الدول العربية إلى المستوى الاستراتيجي، وغيرها من التساؤلات التي سنحاول التطرق اليها في وقفة قادمة إن شاء الله.