DELMON POST LOGO

نهار آخر .. عبدالرحمن النعيمي الحاضر بيننا

بقلم: رضي الموسوي

يحتفي رفاق ومحبو وأصدقاء الراحل المناضل عبدالرحمن النعيمي في الأول من سبتمبر بالذكرى الثالثة عشرة لرحيله بعد رحلة مضنية مع المرض ودخوله في غيبوبة منذ أبريل 2007 حتى وفاته في العام 2011. وكانت جمعية وعد التي أسسها بمعية مجموعة من المناضلين اليساريين والقوميين والشخصيات الوطنية، تحتفي بهذه الذكرى سنوياً وتسلط الضوء على مناقبية هذا المناضل الاستثنائي وتطرح القضايا الوطنية والقومية الكبرى التي ناضل ورفاقه من أجل تحقيقها وفي مقدمتها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتجسيد مبادئ حقوق الإنسان على أرض الواقع، وتشييد الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة المتساوية، دولة المؤسسات والقانون.

لم تكن سيرة عبدالرحمن النعيمي "سعيد سيف"، سيرة عادية عابرة، بل كانت حافلة بكثير من العمل النضالي الدؤوب الذي لم يتوقف إلى أن تعرض للغيبوبة وهو في قمة عطائه، حيث كانت آخر سفراته لحضور فعاليات سياسية شملت لبنان والأردن وسوريا ومصر وانتهت بالمغرب التي تعرض على أرضها للغيبوبة، وتم نقله بعد ذلك الى المستشفى التخصصي بالعاصمة السعودية الرياض ومن ثم نقله إلى البحرين حتى توفاه الله بعد أربع سنوات.

مرت الأحداث الكبرى على النعيمي منذ كان طفلاً وشاباً يافعاً، فعايش تباشير تأسيس هيئة الاتحاد الوطني وهو لم يكمل العاشرة من عمره عندما حضر خطاب زعيمها عبد العزيز الشملان في العام 1954، وعاصر الوحدة المصرية السورية في فبراير 1958 وكذلك ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 في العراق بقيادة عبدالكريم قاسم، فتفاعل مع الفكر القومي والوحدة العربية التي تشكلت أكثر في عقله ووجدانه أثناء دراسته في جامعة بيروت الأمريكية (في الفترة من 1960إلى 1966)،  ليصبح عضواً فاعلاً في حركة القوميين العرب التي تأسست في العام 1959 على أيدي مناضلين فلسطينيين ولبنانيين وخليجيين أمثال جورج حبش ووديع حداد وأحمد الخطيب ومحسن إبراهيم..وغيرهم من المناضلين العرب الذين وجدوا في نكبة فلسطين سنة 1948 فرصة لتغيير واقع الأمة المحكومة بالقوى الاستعمارية وأتباعها في المنطقة، مستندين إلى تجربة ثورة 23 يوليو في مصر بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر.

عندما عاد النعيمي للبحرين بعد رحلته الدراسية، عمل على إعادة ترميم حركة القوميين العرب في البحرين إثر الضربات التي تعرض لها عناصرها. فقد عمل مهندساً في محطة الكهرباء وباشر في عملية تنظيم العمال وتوعيتهم بحقوقهم، وذلك بمعية العديد من الأخوة والرفاق، ليصار إلى تنظيم إضراب عمالي يعتبر الأول من نوعه بعد انتفاضة 5 مارس 1965.

فقد تقدم العمال بعريضة حددوا فيها مطالبهم وفي مقدمتها السماح لهم بتشكيل نقابة عمالية وتعديل سلّم الرواتب والدرجات وتحسين ظروف العمل، إلا أن الحكومة تجاهلت المطلب الأول وباشرت في الثاني. يشير النعيمي في مذكراته التي نشر بعضاً منها في مجلة "الديمقراطي" لسان حال جمعية وعد التي تم حلها في 2018، إلى "أن الحكومة سمحت بتشكيل لجنة ثلاثية من العمال معينة من قبل الحكومة كلجنة استشارية يمكن للعمال العودة إليها لرفع مطالبهم وشكاويهم". ويفصّل أكثر بالقول إن العمال "تمكنوا من تشكيل لجنة قيادية من عدد من العناصر التي لم تتردد من تقديم كل ما تملك من أجل المصلحة العمالية وبالأخص الأخوة صالح العلص، حمد بهلول، عبد الرحمن يوسف إنجنير، عبد الرسول وغيرهم، وبات من الضروري أن يتم التركيز على الباب الثالث من قانون العمل الذي ينص على حق العمال في تشكيل نقابات، وتشكيل لجان عمالية ووضع برنامج للتثقيف العمالي وإصدار نشرة عمالية محدودة التوزيع، إضافة إلى دراسة وضعية كل العمال ودرجاتهم والظلم الواقع عليهم من جراء استهتار الإدارة بعدم إنصاف هؤلاء المستخدمين وإبقائهم سنوات طويلة في الدرجة نفسها رغم تغيير الظروف".

في تلك الظروف العاصفة على المستوى العربي، حيث لا تزال آثار نكسة حزيران 1967 شاخصة وتفعل فعلتها، كان الوضع المحلي يتفاعل بسبب تحكم الإنجليز في مفاصل الدولة ومنها محطة الكهرباء التي يتحكم فيها مدير ورؤساء أقسام أجانب يمارسون التمييز على العمال البحرينيين. يشير النعيمي إلى أن مهندساً بحرينياً ثانياً قد التحق بالعمل في محطة الكهرباء وهو السيد جميل العلوي، بينما كانت الأوضاع تتفاقم  بإصرار المدير على اصطفاف العمال في الطابور، وقد رفض العمال الانصياع واستمر المدير في تعنته.

يقول النعيمي: "وحيث رفضوا ذلك، رفضنا التسجيل، وجاء الراتب مقطوعاً نهاية الشهر، فرفضنا استلامه، وقلنا بأنه صراع إرادات، نحن أم هذا البريطاني المتعنت، وأخيراً تم استدعاؤنا أنا وجميل العلوي في اجتماع ضم كافة المهندسين لإبلاغنا بالفصل من المحطة، وكان الرد قاسياً عليه، حيث ذكّرناه بأننا موظفون لدى حكومة البحرين ولسنا في الجيش البريطاني أو البحرية البريطانية، وأننا نرفض الاستجابة لما يطلب منا، وسنحتكم إلى المسؤولين الأعلى منه، وهكذا قررنا الذهاب إلى الشيخ خليفة بصفته مسؤول الجهاز الإداري آنذاك، فلم نر إلا وقد سبقنا المدير (السيد هنسن) ليلتقي مع الشيخ خليفة والسيد محمود العلوي وسكرتير حكومة البحرين (سميث)، وبالرغم من التسوية التي تمت حيث استجبنا لرغبة الشيخ خليفة بعد أن عرضنا الأمر كاملاً عليه، وشرحنا دور المهندسين الإنجليز في عرقلة استلامنا أية مسؤوليات".

كانت هذه أهم محطة في حياة النعيمي في البحرين، اضطر بعد ذلك لمغادرتها نهائياً لتتشكل حياته النضالية في المنافي بدءاً من أبو ظبي التي اُعتقل فيها على خلفية نشاطه التنظيمي في الحركة الثورية وانتهاء في دمشق التي اُعتقل فيها أيضا بسبب موقفه المناهض للتحالف الدولي بقيادة أمريكية بعد اجتياح الجيش العراقي للكويت صيف 1990.

استغرقت رحلة المنافي 33 سنة تنقل فيها بين بيروت وعدن وظفار، زاد خلالها عدد أفراد الأسرة، حيث كانت أم أمل، مريم النعيمي، أطال الله في عمرها، رفيقة الترحال مع الإبنة البكر أمل، وجاء في الغربة كل من خالد ووليد وسلوى وعائشة حيث ضنك الحياة الصعبة ومخاطر التنقل خصوصاً في ظفار واليمن.

عاد النعيمي إلى الوطن في 28 فبراير 2001 إثر الانفراج الأمني والسياسي والعفو الشامل الذي أصدره جلالة الملك، لتبدأ مرحلة جديدة من الحياة السياسية، فباشر، بمعية رفاقه، في تأسيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي "وعد" التي تم إشهارها في العاشر من سبتمبر 2001، كأول تنظيم سياسي مصرح له في البحرين ودول مجلس التعاون الخليجي.

رغم المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتقه على الصعيد المحلي والخليجي، كانت بوصلة النعيمي مصوبة نحو فلسطين باعتبارها القضية المركزية للأمة، فكانت حاضرة في كل المفاصل التي عايشها في المنفى، فكان دينامو حركة التحرر العربية، وكان مكتب الجبهة الشعبية في البحرين، مزاراً للمنفيين البحرينيين والمناضلين العرب والفلسطينيين على وجه الخصوص. كما شكّل رقماً مهماً في الداخل البحريني للعمل القومي العربي، فباشرت "وعد" إبان رئاسته في تنظيم عقد المؤتمر القومي العربي مطلع الألفية الثالثة في المنامة، ودفع باتجاه عقد المؤتمر الخليجي لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني الذي نظمته الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع.

عزاؤنا في رحيل (أبو أمل) أنه ترك إرثاً نضالياً كبيراً، ومخزوناً فكرياً وسياسياً وثقافياً يمكن أن نتزود به كلما زادت عتمة الليل الحالك. وقد جمعت "وعد" اجزاء كبيرة من أعماله وكتاباته وإسهاماته الفكرية وضمنتها في "الأعمال الكاملة..وطن في الكلام". وباشرت "وعد"، حتى قرار حلها، في تنظيم عقد "منتدى عبدالرحمن النعيمي الفكري"، حيث كان يُعقد سنوياً وتُقدم فيه أوراق عمل قيّمة عن الواقع العربي في مختلف المجالات، وتُستحضر فيه رحلة المنفى التي خاضها النعيمي ودوره في تشكيل التنظيمات الخليجية مثل الحركة الثورية لتحرير الخليج العربي المحتل، الجبهة الوطنية لتحرير عمان والخليج العربي، الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، فضلاً عن الجبهة الشعبية في البحرين التي كان أمينها العام منذ الاستقلالات التنظيمية الطوعية حتى تأسيس جمعية وعد التي ترأسها لدورتين انتخابيتين ورفض التجديد لدورة ثالثة، ليؤسس فيها تقليداً نضالياً كان يدعو له النعيمي في مختلف المحافل.

لروحه الطمأنينة والسكينة والسلام.