DELMON POST LOGO

للمترحمين على الدولة العثمانية والحالمين بعودتها لحكم العالم العربي

بقلم : عبدالنبي الشعلة

غريب أن نجد بيننا من يترحم على دولة الخلافة العثمانية، ويدعو ويحلم بعودتها لحكم العالم العربي، ولنحاول أن نفهم ونتفهم هذا المنطق، ولنقارن بين حكم العثمانيين المسلمين للعالم العربي، وحكم العرب المسلمين للأندلس، وحكم المغول المسلمين للقارة الهندية؛ فقد حكم العرب المسلمون شبه الجزيرة الأيبيرية أو الأندلس أو إسبانيا والبرتغال كما تسمى اليوم ما يقرب من 800 عام، بنوا خلالها، وبشهادة الجميع، مجدا وحضارة أضاءت الطريق للنهضة الأوروبية وغذتها بعلومها وفنونها وثقافتها.

وترعرع في كنفها وربوعها فرسان الإشعاع الحضاري العربي من الكتاب والفلاسفة والعلماء والمفكرين والشعراء من أمثال الفلاسفة ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، والعلامة الإمام القرطبي صاحب كتاب “الجامع لأحكام القرآن”، وأبو القاسم الزهراوي وابن البيطار كانا من أهم علماء الأندلس في مجال الطب، وفي مجال الفلك ابن حزم وأبوعبيدة القرطبي، وفي الجغرافيا الشريف الإدريسي، وفي الهندسة عباس بن فرناس، وكان أبو القاسم المجريطي من أوائل الذين اشتغلوا بالرياضيات والكيمياء في الأندلس، وعشرات غيرهم من العرب المسلمين، الذين أصبحت على أيديهم اللغة العربية لغة الحضارة والعلوم ووسيلة للعلم والتراث، والذين ساهموا في تحويل إسبانيا إلى منارة للعلوم والآداب والفنون.

وأنشأ العرب المسلمون في الأندلس المدارس والمكتبات ودور العلم والترجمة وشيدوا الصروح العمرانية الباهرة كالقلاع والجوامع والصوامع والجسور والقصور التي أصبحت الأمة الإسبانية تزهو وتفخر بها حتى الآن، وأصبح ما تبقى منها يستقطب الملايين من السياح سنويًا، ويدر على خزائنهم بلايين الدولارات كل سنة؛ مثل قصر الحمراء بغرناطة والمسجد الكبير بقرطبة، وغيرهما من المعالم الرائعة، التي تؤكد مدى رقي هذه الحضارة وتقدمها العمراني.

وبعد انحسار الحكم العربي الإسلامي في العام 1492م، ومن هذه القاعدة الحضارية والعلمية الصلبة التي أسسها الحكام العرب في دولة الأندلس، وفي العام نفسه انطلقت حملات الاستكشاف الإسبانية والبرتغالية بريادة كريستوفر كولومبوس التي أدت في النهاية إلى نجاح الدولتين في اكتشاف دول أميركا الجنوبية والاستيلاء عليها واستعمارها، إلى جانب جزء من الولايات المتحدة لأكثر من 3 قرون.

فما الذي حققه الحكام العثمانيون بالمقارنة، من إنجازات في العالم العربي؟ وما الذي قدموه للشعوب والدول العربية التي سيطروا عليها وحكموها لأكثر من أربعة قرون؟ وما هي المآثر والمعالم والإنجازات الحضارية أو العلمية التي تركوها وراءهم؟ وكيف كان حال هذه الدول بعد أن رحلوا عنها؟

وفي العام 1001م بدأ المسلمون حكمهم لشبه القارة الهندية، والتي تشمل اليوم الهند والباكستان وبنغلاديش لمدة تقارب من 800 عام أيضا (من العام 1001م إلى العام 1858م)، وقد بلغ الحكم الإسلامي لشبه القارة الهندية أوج عنفوانه وعظمته في عهد الدولة أو الإمبراطورية المغولية الإسلامية التي دام حكمها لأكثر من 300 عام.

وقد حمَل الحكام المسلمون معهم للهند مختلف أوجه العلوم والمعارف وخلَّفوا تراثا إنسانيا وحضاريا ترك أثرا ملموسا في اللغة والعمران والنظم الإدارية بالهند، وكونوا مجتمعًا ازدهرت فيه التجارة والصناعة والعلوم والفنون والآداب. وعلى الرغم من أن حكام الهند المغول المسلمين لم يكونوا عربًا، إلا أنهم استخدموا اللغة العربية في الدواوين وأصبح لها تأثير في ثقافة الهند وحضارتها، وكان لها تأثير أيضًا في لغات الهند ولهجاتها بما أدى إلى بلورة لغة جديدة، وهي “اللغة الأردية” التي أصبحت الآن اللغة الرسمية للباكستان وللملايين من الهنود في الهند.

وتحت ظلال الحكم الإسلامي للهند انتشرت العلوم والمعارف وأنشئت المدارس والمعاهد العلمية والمكتبات والمراصد، وبرزت قامات أدبية رائعة كان لها نتاج فكري متميز أثرى المكتبة العربية بالكتب والمقالات العلمية والبحوث والدراسات، وتناولت بكل اقتدار موضوعات الأدب والفن والنقد والاجتماع والسياسة، ونشطت تحت ظلال الحكم الإسلامي كذلك حركة التأليف والترجمة وتطوير نظم الحكم والقوانين الإدارية والأنظمة المالية وقوانين الضرائب ونظام القضاء، وقد بحث بإسهاب المؤرخ الهندي الدكتور تارا تشاند في هذه الموضوعات في كتابه “أثر الإسلام في الثقافة الهندية” الذي أصدرته “مؤسّسة الفكر العربي”، ومن بين ما جاء فيه: “وفي مجال العلوم تمّ إدخال نظريات العرب وآرائهم في الطب والرياضيات وعلم الفلك. وكان التغيّر في جميع شِعاب الحياة الاجتماعية في الهند هائلًا وكبيرًا إلى حدّ أنه يعتبر بداية حقبة جديدة”.

إن روعة وعظمة ما تركه الحكم الإسلامي في شبه القارة الهندية من تراث فني ومعماري يبرز بكل وضوح في المباني والجسور والحدائق والقصور والقلاع والمساجد بتصاميمها المعمارية الهندسية المميزة، نذكر منها على سبيل المثال مقبرة السلطان جهانكير والقلعة الحمراء “لال قلعة” وقلعة أگرا، والمسجد الجامع الكبير في مدينة دلهي، وضريح همايون و “قطب منار” أو منارة قطب، التي تعد من بين أهم آثار الإسلام المعمارية في الهند ومن أجمل الأبراج في العالم ويصل ارتفاعها إلى 72.5 متر؛ ما يجعلها أطول مئذنة في العالم مبنية من الطوب، وهي المنارة الأطول من نوعها في الهند وثاني أطول المنارات في تاريخ العالم الإسلامي بعد “منارة الجيرالدا” في أشبيلية.

أما جوهرة العمارة الإسلامية في الهند فهو بلا منازع مسجد أو ضريح “تاج محل”، الذي أصبح يمثل أحد أبرز المآثر المعمارية في العالم وواحد من أبرز عجائب الدنيا السبع.

وهكذا فإن الحكم العربي الإسلامي للأندلس، والمغولي الإسلامي للهند أصبحا يشكلان حدثين حضاريين مهمين تميزا بزخم متدفق من التفاعل الفكري والحضاري والإنجاز العمراني، أما الحكم العثماني للبلاد العربية الذي دام لأكثر من أربعة قرون حتى بداية القرن العشرين، وشمل مصر والشام (سوريا وفلسطين ولبنان والأردن) والعراق واليمن وتونس والجزائر وليبيا إلى جانب الحجاز ونجد وتهامة وعسير والأحساء من ما تسمى الآن المملكة العربية السعودية، فقد قاد هذه الحكم هذه الدول إلى “عصر الانحطاط والتخلف” الذي شهد المجازر والكوارث، كما أكد ذلك كل المؤرخين والباحثين، وكما أكده الأرث العثماني وتداعياته؛ ومن بين أهم سلبيات هذا الحكم عدم الاهتمام بترسيخ مقومات الدولة، فقد تركز اهتمامهم على الحروب والتوسع وعلى جباية الضرائب التي أرهقت الناس منها ضريبة “الميري” بواقع 22 % لحساب السلطان، وضريبة “الكشوفية” وقدرها 16 %، وضريبة “الحلوان” التي كانت تفرض للمرور بالطرق والشوارع وغيرها من الضرائب، وتم كذلك تجنيد شباب هذه الدول والزج بهم في معاركهم التوسعية، ولم يعيروا أي اهتمام للتعليم والثقافة والصحة والتنمية العمرانية؛ فلم يستفد أو يتعلم آباؤنا وأجدادنا أي شيء من الحكم العثماني، وفي ظل الحكم العثماني توقفت الدول العربية عن إنجاب العلماء والمفكرين والأدباء البارزين، وتراجع النشاط الثقافي والزراعي والتجاري والصناعي، ولم يهتم الحكام العثمانيون بالثقافة واللغة العربية ولم يحاولوا الارتقاء بها، ومن الناحية العمرانية فإن الحكام العثمانيين لم يخلفوا أو يتركوا وراءهم أي أثر يذكر؛ فلا جامع مثل جامع قرطبة أو جامع دلهي أو الجامع الأموي، ولا مرافق تعليمية أو مكتبات أو دور للترجمة والبحوث، ولا قصور مثل الحمراء في غرناطة، ولا حصون أو قلاع مثل القلعة الحمراء وقلعة أگرا في الهند، ولا جسور ولا حدائق ولا أبراج مثل قطب منار الذي شيده الحكام المسلمين المغول في الهند.

فهل بعد هذا الموجز سيبقى بيننا من يترحم على دولة الخلافة العثمانية ويدعو ويحلم بعودتها لحكم العالم العربي؟