في الصورة مخيال لأصل الأشياء، يتدفق في جهات كثيرة، أسوأها عندما يكون صاحب هذا المخيال فاشي يبحث عن منفذ للهروب من مسائلة على شاكلة بنيامين نتنياهو، الذي يحاول توظيف الصورة للإفلات من تهمة فساد تطارده فيلجأ لتمديد البطش والعدوان. وهو يبحث عن صورة تمجده وأخرى يسعى لإغتيالها وحجبها. الصورة تاريخ وحاضر ومستقبل، توثق الفعل وتحفر في الذاكرة.
لذلك ارتكب الكيان الصهيوني فجر أمس الجمعة جريمة حرب جديدة وقام بعدوان على أعضاء الطواقم الصحفية والإعلامية الذين كانوا نائمين في سكنٍ بمنطقة حاصبيا في جنوب لبنان، أستشهد فيه ثلاثة من المصورين والتقنيين هم المصور غسان نجار ومهندس البث محمد رضا من فضائية الميادين والمصور وسام قاسم من فضائية المنار. لم يكن هناك سببا لهذا العدوان سوى أن الكيان أمِن العقوبة فأستمرأ الإفلات من العقاب بعد أن حصل على تغطية كاملة على جرائمه وخصوصا منذ السابع من أكتوبر العام الماضي، حين شرع في حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة. حصل على الضوء الأخضر من الإدارة الأمريكية، التي تفاخر بصهيونيتها كلما لزم الأمر، ومن دول غربية متحالفة وتابعة لواشنطن، حيث وضعت هذه الدول مهمة حماية العصابات الصهيونية من أي مسائلة قانونية لدرجة أنها ضغطت لتغيير رئيس محكمة الجنايات الدولية التي يفترض أن تجر رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو وقادة صهاينة آخرين الى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني.
أراد الكيان أن يطمر الحقيقة ويُغيّبها عن الرأي العام العالمي ويحجب صور مجازره ضد أطفال ونساء فلسطين بطمرهم تحت المباني التي يدمرها على رؤوسهم وهم نيام أو بحرقهم في خيامهم المهترئة بعد رحلة نزوح مضنية ومتكررة دون أن يصورها أحد. وللإفلات من العقاب راح يطارد الصوت والكلمة والصورة لعله يفلح في حجب الحقيقة، فارتكب جرائم بالجملة ضد من ينقل صور المذابح وأخبارها حتى وصل عدد الذين قتلهم بدم بارد نحو 200 من الطواقم الصحفية والاعلامية والتقنية، أغلبهم في قطاع غزة، ونالت الضفة الغربية نصيبها وكذلك لبنان. فهذا كيان يرتكب جرائم الحرب أكثر مما يتنفس قادته، ويمارس الإبادة الجماعية وتدمير المستشفيات والمدارس وشبكات الكهرباء والماء والطرقات بإعتبارها أهداف عسكرية يجب تسويتها بالأرض، كما يمنع الدواء والغذاء والماء في حصار لم يشهد التاريخ الحديث له مثيلا.
إن إستهداف الصحفيين والإعلاميين هو قرار اتخذه قادة الكيان منذ سنوات طويلة في محاولة لحجب وإخفاء حقيقته النازية والفاشية لما يقوم به من فظائع يندى لها الجبين. وإذا تورط في جريمة يدعّي أنه فتح لجنة تحقيق فيها، كما فعل مع عملية إغتيال الصحافية في قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة قبل بضع سنوات، وهي التي تحمل الجنسية الامريكية بالاضافة الى جنسيتها الفلسطينية، فتهّرب من النتائج ثم أخفاها بمساعدة الإدارة المتصهينة في البيت الأبيض.
**
قبل أربعين عاما، رسم الشهيد الفنان ناجي العلي كاريكاتيرا يسأل فيه مواطن عادي صحافي نضيف اليد: "مقالك اليوم عن الديمقراطية عجبني كثير.. شو عمتكتب لبكرة؟
أجابه الصحفي: عمبكتب وصيتي".
كأن العلي تنبأ بإغتياله. ففي صيف العام 1987 تم إطلاق النار عليه في إحد شوارع العاصمة البريطانية لندن وبقى شهرا بالمستشفى لينهي كاتم الصوت الغادر حياته الحافلة بالإنجازات الكبرى في 29 أغسطس من نفس العام، وقد وجهت أصابع الإتهام إلى عملاء الكيان الصهيوني بارتكاب هذه الجريمة النكراء. رحل المبدع وبقت رسوماته نبراسا وطريقا لمن يتوقون للحرية والعدالة وتحرير فلسطين..وفعل الإبداع الفني. فقد كشف ناجي العلي حالة الفساد في قيادة منظمة التحرير والتراجع والهوان إزاء القضية المركزية وتدني الحرية في الوطن العربي ومعاناة الصحفي الذي يضنيه التعب بحثا عن الحقيقة في زمن حجبها بقوة قانون يعاقب من تُسوُل له نفسه البحث بين الركام للكشف عن شيئ يراد له أن يُطمر في كومة قش. وبقوة القانون المُفصّل على مقاسات ضيقة تحارب الحرية، يتم بموجبه جرجرة الصحفيين والإعلاميين الى المحاكم وإدانتهم بسبب حق دستوري مارسوه. وإذا سنحت الفرصة لتضييق هامش الحرية يتم توجيه "الترزية" لإعادة تفصيله من جديد حتى يكاد لا يرى بالعين المجردة.
**
أراد النازيون الجدد، بقتلهم الطواقم الصحفية، إغتيال صورة الحقيقة تحت ركام نزل حاصبيا ومباني غزة والضفة الغربية والجنوب اللبناني وبيروت والضاحية الجنوبية، لكنهم فشلوا في ذلك فشلا ذريعا رغم بطشهم وقوتهم المستمدة من واشنطن ولندن وباريس وبرلين وبعض العواصم العربية المتواطئة والمتخاذلة. فإذا كانت طائرات أف35 والقنابل الخارقة للتحصينات الخرسانية وأجهزة الرصد الأكثر تقدما في العالم التي تزودهم بها الإدارة الأمريكية كلما احتاجوا لمزيد من القتل والتدمير في غزة ولبنان، فأن إرادة المقاومين في فلسطين ولبنان تفوق تقدمهم التقني والتدميري، حيث يتجلى الإيمان المطلق بالنصر المبين القادم لا محالة رغم التضحيات والآلام والأوجاع التي لا مقدرة للجبال على حملها فحملها مناضلين ومجاهدين وضعوا أرواحهم على أكفهم، آمنوا بعدالة قضيتهم فسقوا الأرض بدمائهم الزكية حتى مطلع الفجر.
ولىّ زمن احتجاز الصورة ولن يتمكن الصهاينة وداعموهم من إغتيالها. إنهم يتوهمون ذلك وسيعجزون، فهناك من يرابط واضعا أصبعه على الزناد، يرسل للعدو طير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، ويوثقون بالصورة بطولاتهم فيهزمون الطاغية..وهم يفعلون.