إعداد: عبدالله جناحي
أبهرني المقال الأخير للباحث الفلسطيني الدكتور إياد البرغوثي المنشور في صحيفة "القدس"، حيث أدخل في عالم السياسة مصطلحات جديدة كأوصاف دقيقة للكيان الصهيوني، بجانب الأوصاف القديمة المعروفة عن هذا الكيان، فهو يعطي لكل "وصف" معنًى وعمقًا سيكولوجيًا واجتماعيًا وسياسيًا وتاريخيًا، وذلك على النحو التالي:
١- الكيان الصهيوني كائن "مخلوق": من لا شيء، إذ لم يكن متوفراً أيٌ من "عناصره" عند بداية "التنفيذ"، فكان لزاماً توفير كل شيء: الأرض والشعب والنظام والجيش والثقافة واللغة والقوانين... كل شيء. وحيث أنه كيان مخلوق من لا شيء، فهو يحمل صفاتًا "جينيةً على الأغلب"، تجعله مختلفًا عن باقي الكيانات؛ فهو كيان "عنصري" و"انعزالي" قبل "اصطناعه" وليس في سياق تطوره اللاحق. والعنصرية الصهيونية "تَفَوق" و"مُقَدس"، ولا يقتصر ذلك التفوق عليه ككيان، بل يمتد إلى الأفراد، فالصهيوني متفوق على أي إنسان آخر وليس على الفلسطيني فقط، بل إن الآخر لا قيمة له، وفي بعض الحالات لا وجود له.
٢- الكيان الصهيوني "أبدي": ولأن هذا الكيان نتيجة مشروع من نوع خاص صممه أصحابه ليكون "أبدياً"، لذلك هو في "مهمة" لا تنتهي، فيتم الحرص على "شحنه" باستمرار، وإمداده بكل أسباب الحياة و"التفوق".
الانبهار في مقال البرغوثي يأتي "بتفكيك" هذه المصطلحات من خلال "ربطها" بعضها البعض في علاقة "جدلية" عميقة. فالصفة الثالثة له هو:
٣- الكيان الصهيوني "روبورت" ولكن "متوحش": فهذا "الخلق" الاصطناعي جعل هذا الكيان أقرب إلى "الروبوت" Robot من أي شيء آخر؛ فهذا "الرجل الآلي" يريد أن يكون "استثنائيًا" في قوته، ممنوعًا عليه أن يبدو ضعيفاً، لذلك يذهب هذا "الروبوت" إلى "التوحش". وهذا يفسر "ضرورة" تحسسه المستمر لوجوده، وخوفه من انتهاء صلاحية بطاريته، فهو لا يكتفي بالوجود بل باستمرار التأكد من وجوده المصطنع والتأكيد عليه. والكيان "الروبوت" من أهم صفاته: "صفر المشاعر، وصفر التسامح"، فليس لغيره أي حق.
٤- الكيان الصهيوني مثل "Fast Food": إنه كذلك كالوجبة "السريعة" التي تحرص على نجاعة "التسويق" الذي لا يعني جودة المحتوى، وإنما يريد فرض "حبه" على الآخرين رغم محتواه "القاتل". إنه لا يرضى برأي آخر ويسعى إلى امتثال الآخرين لوجهة نظره وروايته، وأن يجدوا في "تميزه" شيئاً طبيعياً، هو باختصار لا يرضى إلا بصهينة العالم. لذلك هذا الرجل الآلي ارتاح لظلم الفلسطينيين وإبادتهم-لأنه صفر التسامح. ولأنه- صفر المشاعر- لم يستطع إيجاد طريق "لسعادة" الصهاينة أو "لوجودهم" داخل كيانه غير الإنساني.
٥-الكيان المختلق "استثنائي" في مفهومه "للزمن": لأنه مقتنع كلياً باستثنائيته، لذلك أوجد عنده فهماً خاصاً "للزمن"، فهو يستقطع من التاريخ ما يشاء، ويتجاهل ما يشاء. له روايته الخاصة عن تاريخ فلسطين القديم، فيعتبر فترة إنشاء مملكة يهودا القديمة التي استمرت لثمانين عاماً فقط بداية تاريخ فلسطين-على الرغم أن بعض المؤرخين الغربيين يشككون بوجود هذه المملكة "التوراتية"-، ولذلك اعتبر ما قبل إنشاء تلك الدولة من تاريخ فلسطين وما بعده لا شيء. لم يكن قبلهم أحد ولم يكن بعدهم أحد. وهذا حدث أيضاً في روايتهم عن "الطوفان"، فتبدأ الرواية من ذلك اليوم ليبنوا على الأمر "مقتضاه" كأنه بداية الصراع، ويصنعون روايتهم وليس أمام الآخرين إلا تبنيها والإيمان بها.
٦- الكيان الصهيوني مصاب بمرض "التوحد": ولأنه يعتبر نفسه فوق باقي شعوب العالم، وهو الوحيد الواحد الأحد "الاستثنائي"، لذلك هو استثنائي في "توحّده" (بالمعنى المرضي) وتعامله مع الآخرين بناء على ذلك. فهو لا يريد أن يكون عضواً في الإتحاد الأوروبي، لكنه يريد أن يُعامل من قِبله أفضل من الدول الأعضاء في هذا الإتحاد. ولا يريد أن يكون عضواً في حلف شمال الأطلسي لكنه يريد أن يحظى بامتيازات فوق ما يحصل عليه الأعضاء. لا يريد هذا "المتوحد" "المتوحش" أن يكون مع أي أحد، لكنه يريد من الجميع ان يكونوا معه أو خلفه. ليس لدى العقل الصهيوني احترام لأحد، فهي (إسرائيل) مستعدة لأن تهاجم من تشاء حتى أولئك الذين قدموا لها الخدمات، مثل القوات الأممية في جنوب لبنان، وهي لا تعتبر نفسها مسؤولة عن أي "آثار جانبية" قد تترتب على عملياتها.
٧- الكيان الصهيوني لديه "قيمه" الخاصة عن بقية قيم العالم، ويؤمن "بالمطلق" في كل شيء: فهذا الكيان يتصرف بناءً على "منطق" خاص لفهم القيم، فما يقوم به هو الخير ولا شيء غيره. وهو لذلك لم يقم بتقييم اخلاقي لعملياته، ولو مرة في تاريخه، بل كل ما يقوم به هو تقييم مهني لاستخلاص العبر من أجل أن تكون عملياته القادمة أكثر "نجاعة". لذلك لا يرضى هذا الكيان إلا بـ "المطلق"، يحارب من أجل النصر المطلق، كما يقول نتنياهو، ولا يرضى إلا بإيمان كلي بروايته، بل هو يؤمن أن لا رواية إلا روايته. وهو لا يؤمن بالحوار ما دام يعتقد أن الحقيقة (والعقل والله) تُعرف به؛ فالحقيقة هي ما تقوم به، والعقل هو ما يؤمن به، والله هو "رب" إسرائيل. لذلك هو من يحق له أن يقول رأيه في الآخرين وليس العكس.
٨- صفات "جينات" أفراد هذا الكيان من نفس صفات كيانهم المختلق: إن ما ينطبق على هذا الكيان، ككيان مصطنع في مجال "عنصريته" و"استثنائيته" ينطبق ايضاً على الفرد الصهيوني، وعلى من هو مرشح ليكون صهيونياً. فالصهيوني في داخل هذا الكيان وخارجه هو أهم وأرقى وأذكى و"أقدس" وأغلى من أي انسان آخر. لذلك فالحق إلى جانبه دائماً، والحماية له، والأولوية له، والتسهيلات له، والمشاعر مقتصرة عليه. هو من يُصاب بالهلع إذا سمع صوت انفجار، والآخرون يكذبون إذا أبدوا أي مشاعر تجاه آلاف القنابل التي تسقط على رؤوسهم. هو من يحاكم الآخرين ولا يحق للآخرين محاكمته، وإلا تم رفع تهمة "اللاسامية".
٩- ماذا فعل "الطوفان" في هذا "الروبوت": "جريمة" الطوفان، بالنسبة لهذا الكيان، أنه هز صورة الكيان "المخلوق"، هز "استثنائيته"، وأرجع الأمور إلى البدايات (النكبة) بعد أن كادت الأحداث تخفيها تماماً، عادت الأسئلة الأساسية لشعب تم اغتصاب حقوقه في وضح النهار ولم يعترف بصرخاته كل المشاهدين. في ذلك اليوم بدا الروبوت قابلاً لأن يكون أقل ذكاء، وأقل تفوقاً، وأقل قوة، وظهرت جلياً قابليته للانكسار. اهتزت أركان المشروع. والدولة التي وُجدت لحمايته احتاجت لمن يحميها، واحتاجت لمن يقوم بأداء مهامه في الحفاظ على "الاستثنائيين" وعلى "المشروع" بكل كفاءة، فإذا به بحاجة إلى من يحافظ عليه. ضرب الطوفان كل قواعد "الاستثناء" الصهيوني في ساعات. عاد هذا الكيان "المتفرد" في "ذكائه" و"قوته" و"ديموقراطيته" إلى كيان هش مثل باقي الكيانات الهشة التي تطلب العون والدعم والحماية، ولم يبق من عناصر "تميزه" على الآخرين إلا توحشه ولا معقوليته. ووجد نفسه تساوم على "قيمته" في مفاوضات تبادل الأسرى، ووصل به الأمر إلى "التضحية" بأسراه وحتى قتلهم من أجل استرجاع صورته. واكتشف هذا الصهيوني المهاجر إلى كيانه بأنه رخيص ولا يمتلك أي حقوق المواطنية.
١٠- الكيان الصهيوني فضح نفسه و"ديمقراطيته": أبطل الطوفان قدرة الكيان على "التمثيل"، فالذي كان يفاخر بديموقراطيته الوحيدة في المنطقة، أخذ يلاحق مواطنيه على رأيٍ في وسائل التواصل الاجتماعي، وتم فصل موظفين من وظائفهم، وطلبة من جامعاتهم بناء على آرائهم. لقد أصبح كيانًا "نزقًا" لا يتحمل أي شيء ولا يطيق أي معارضة، ولا أي اختلاف حتى لو كان ذلك من وزير جيشه نفسه. لا يسمح "الاستثناء" الصهيوني لهذا النمط من التفكير المختلف عن صفاته "الجينية"، أي لا يسمح بالتفكير في طرق بديلة لحل مشاكله ومعضلاته التي لا تسير إلا في خط تصاعدي، لذلك فهو يحل "معضلة" الاحتلال بالمزيد من الاحتلال، ومعضلة ارتكابه للجرائم بارتكاب مزيد منها، ومعضلة وجود ضحايا لاعتداءاته إلى إيجاد مزيد من الضحايا.
هذا الكيان المخلوق لم يعرف ولن يعرف غير "اللامعقول". أظهر أنه رجل آلي "خفيف" وأرعن ولا يملك أي حس بالمسؤولية تجاه العالم. ضاعف في هذه الحرب ضحاياه من الفلسطينيين واللبنانيين والعرب والمسلمين وحتى الصهاينة، و"حرض" الحكومات الغربية على مواطنيها وشبابها وطلبتها وأصحاب الرأي فيها، وأساء للأمم المتحدة وسكرتيرها العام ومؤسساتها وفي مقدمتها المحكمة الدولية الأهم. وإضافة لذلك، فإنه يعبث بالتاريخ وبالجغرافيا والقيم والمنطق والأعراف وبكل ما هو إنساني. وفي سياق الارتباط "الغربي" الأعمى به، جر الولايات المتحدة والأنظمة الغربية إلى اللامعقول أيضاً، وهذه بدورها أخذت المنظمة الدولية والنظام العالمي برمته إلى نفس الحالة، فهل يُعقل أن يصوت أرفع مجلس أممي مسؤول عن السلم العالمي ضد وقف إطلاق النار ومع استمرار ارتكاب المجازر والإبادة... نحن أمام حالة مذهلة من اللامعنى.
أبدع البرغوثي حقًّا في وصاياه العشر!.
وصلة مقال د. إياد البرغوثي: https://www.alquds.com/ar/posts/141700