بقلم محمد حسن العرادي - البحرين
عندما حطت بنا الطائرة في مطار القاهرة مساء يوم 21 أكتوبر 1976 لم أكن أتخيل المسارات التي ستأخذني اليها تلك الخطوة التي نقلتني من قرية صغيرة إسمها عراد في بلد صغير إسمه البحرين الى أكبر مدينة عربية كانت عاصمة الشرق والوطن العربي الكبير، القاهرة التي قهرت الكثير من الأعداء على مر الأيام والعصور، كانت التجربة جديدة بكل المقاييس، نقلة إجتماعية حضارية وثقافية أسست الوعي السياسي وغيرت المستقبل وعززت بداخلي روح المغامرة والتحدي.
في 18 نوفمبر 1976 سمعت بأول عملية إغتيال سياسي في البحرين حين تمت تصفية الشهيد عبدالله المدني رحمه الله والذي كان أحد أبرز القيادات الإسلامية آنذاك ويرأس تحرير مجلة المواقف بالإضافة إلى عمله في المجلس الوطني، ثم جاء ديسمبر 1976 فإذا بفاجعة أخرى تمثلت في تصفية الشهيد محمد غلوم بوجيري أحد مؤسسي الاتحاد الوطني لطلبة البحرين في 2 ديسمبر على خلفية الاتهام بالمشاركة في عملية إغتيال الشهيد المدني مع عدد من كوادر الجبهة الشعبية في البحرين رغم تبرأتهم جميعاً بحكم من المحكمة، وبعد عشرة أيام إنضم الشهيد الشاعر سعيد العويناتي لقافلة الشهداء تحت وطأت التعذيب أيضا وكان من المحسوبين على تنظيم جبهة التحرير الوطني البحراني اليسارية، وما كاد شهر يناير 1977 يحل حتى بدأ التململ وسط أبناء الشعب المصري نتيجة القرارات الاقتصادية القاسية، فانفجرت ثورة الخبز في 18 - 19 يناير التي أطلق عليها الرئيس الراحل محمد أنور السادات إنتفاضة الحرامية.
كان ذلك العام بداية المواجهة العنيفة بين حكومة البحرين والاتحاد الوطني لطلبة البحرين، ففي صيف العام 1977 صدر قرار المنع من السفر الشهير بحق مئات النشطاء والنقابيين من مختلف فروع الإتحاد حول العالم، وحُرم الإتحاد من أكثر قياداته حتى أن بعض الفروع فقدت كل مجالس إدارتها بسبب تلك الحملة الشرسة من الإعتقالات، وكان فرع القاهرة أحد أهم فروع الاتحاد الذي طالته العقوبات حينها، فمنع كامل أعضاء مجلس إدارته من السفر، وزاد الضغط عليه أكثر حين قررت السلطات المصرية إيقاف العمل باسم الفرع والعودة الى ترخيص رابطة طلبة البحرين في القاهرة.
جاء ذلك متزامناً مع قرار حكومة البحرين تأسيس نادي طلبة البحرين في القاهرة أبريل 1976 ليكون بديلاً مستئنساً ووديعاً لفرع الاتحاد، الأمر الذي أطلق تنافساً محموماً وموبوءاً بين طلبة الاتحاد وطلبة النادي، حيث تعرض الإتحاد لأقصى درجات الضغط والحصار والمطاردة، فيما حصل النادي على أقصى درجات الدعم والإسناد من قبل الحكومة ممثلة في المؤسسة العامة للشباب والرياضة، وهكذا وضعت الحكومة اللبنة الأولى لتصفية الإتحاد، مع نجاحها في تأسيس نادي طلبة البحرين في الكويت أيضا.
إرتبك العمل في فرع الاتحاد بالقاهرة رغم التأقلم الذي إبتكره الطلبة البحرينيين مع القرارات الجديدة، وتزامنت تلك الفترة الحرجة مع الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس المصري محمد أنور السادات الى القدس في 19 نوفمبر 1977، الأمر الذي إنعكس تشديداً امنياً على كافة الأنشطة الطلابية العمالية والحزبية، وإشتعلت المواجهات بين التيارات السياسية اليسارية والحكومة المصرية، وكانت الجامعات إحدى ساحاتها الملتهبة، ثم أطلق الرئيس المصري العنان لتأسيس الأحزاب والمنابر البديلة لامتصاص الغضب الشعبي وبدأ عصر التدجين السياسي العربي وإنتعاش التيارات الإسلامية والأصولية وكان أهمها حركة التكفير والهجرة.
في ظل تلك الأوضاع تم نفي 52 طالباً بحرينياً إلى مدينة أسيوط على بعد أكثر من 500 كم في صعيد مصر، لينضموا لمن بقي من 48 طالباً تم نفيهم من قبل إلى جامعة أسيوط في العام 1975 ولم يتبقى منهم سوى عشرة طلاب فقط، بينما لم يتبقى من دفعة 76 سوى طالبين فقط كنت أحدهم (تعرض الطالب الآخر للمنع من السفر ضمن حملة المنع في العام 1977) ، وخسر غالبية الطلبة دراستهم الجامعية في أسيوط عبر التحويل لجامعات اخرى او العودة إلى لبحرين نتيحة عدم تحملهم للأوضاع البائسة والحياة المعيشية التعسة حد التخلف في الصعيد، وكان الهدف من هذا النفي للطلبة إضعاف الحراك الطلابي النقابي المتمثل في نشاط الإتحاد الوطني لطلبة البحرين فرع القاهرة، دون أي مراعاة للمستقبل، ورغم هذا صمد حوالي 12 طالباً بحرينياً من أصل 100 طالب في أسيوط تم نفيهم الى هناك عبر قرارات مجحفة.
لقد كان العام 1979 عام التغيير الاستراتيجي بكل المقاييس فبعد أن وقع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الصهيوني الارهابي مناحيم بيغن إتفاقيات التسوية في 17 سبتمبر 1978 بعد 12 يوماً من المفاوضات السرية في كامب ديفيد، تم التوقيع على (إطار لإبرام معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل) وقاد ذلك إلى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل التي وقعت في كامب ديفيد أيضا في العام 1979، وهذا العام إحتوى على مفاجئة أخرى من العيار الثقيل تمثلت في نجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني رحمه الله الذي تمكن من إسقاط الشاه محمد رضا بهلوي في 11 فبراير 1979.
في فبراير 1979 أيضا إنعقد المؤتمر العام الثالث للاتحاد الوطني لطلبة البحرين في بغداد وإستمر المؤتمر الذي كان مقررا له ثلاثة أيام لأكثر من 12 يوماً بسبب الخلاف على توزيع المناصب القيادية في الهيئة التنفيذية وتحديداً منصب الرئيس الذي فاز به الراحل الأستاذ محمد يوسف الجودر بعد التلويح بنقل جلسات المؤتمر الى قبرص، ثم قاد الجودر رحمه الله جهوداً نقابية وسياسية مضنية لإسقاط قرار منع السفر بحق الطلبة، ونجح في ذلك نتيجة الحراك النقابي والجماهيري الكبير الذي توج بمسيرة مهمة في البحرين.
وقد كان لي شرف المشاركة في أعمال المؤتمر العام الثالث للإتحاد، وكان عمري لايتجاوز العشرين سنة حين وقفت أمام الكاميرا لأول مرة مُتداخلاً في الجلسة العامة للمؤتمر التي إنعقدت في أحد المدرجات الكبيرة في العاصمة العراقية، وأذكر حينها مقدار الفزع والهيبة التي إعترتني وأنا أواجه كاميرا التلفزيون العراقي بشكل مباشر، لكنني حزمت أمري وقررت أن أرتجل تاركاً للمصور أن يفعل ما يشاء، وقد شكلت تلك اللحظة موعداً فاصلاً في حياتي المهنية حيث عززت نشاطي النقابي وإهتمامي بالاعلام ورسخت من ثقتي في نفسي كثيراً.
بعد عودتنا إلى القاهرة ترأست المؤتمر العام لفرع القاهرة الذي كان يعمل تحت يافطة (رابطة طلبة البحرين) حيث عقد المؤتمر في مقر الإتحاد الوطني لطلبة الكويت بمنطقة المساحة تحت إشراف الأخ العزيز محمد فاضل العبيدلي الذي كان قد أصبح للتو عضواً في المجلس الإداري للاتحاد بعد انتهاء أعمال المؤتمر الثالث في بغداد.
واعتباراً من ذلك التاريخ تكرس نشاطي النقابي في الإتحاد من خلال المشاركة في مختلف اللجان العاملة في الفرع وخاصة اللجنة الاجتماعية، ثم في انتخابات مجلس ادارة فرع القاهرة وصولاً الى تولي مسؤولية الرئاسة لعدة دورات وإنتهاءاً بالمشاركة في أعمال المؤتمر العام الرابع للإتحاد في مدينة دمشق فبراير 1981 حيث تم إختياري عضواً بالمجلس الإداري للاتحاد، وتم تكليفي برئاسة لجنة العمل الصيفي للإتحاد ذلك العام بمعية عدد من الأخوة كان من بينهم عضو المجلس الإداري المرحوم الأخ علي الدوسري الذي شغل موقع نائب رئيس اللجنة، وفي ذلك الصيف أصدرنا نشرة إعلامية بعنوان صيف الاتحاد وعددا من المطبوعات الاعلامية الى جانب انشطة طلابية أخرى.
تعرضت في صيف 1981 لأول إستدعاء أمني في البحرين، وبعد أن إنتهى التحقيق حزمت أمتعتي وسافرت إلى القاهرة لاستكمال النشاط الطلابي النقابي، وحين علمت بأن إسمي كان قد وضع على قائمة المطلوبين في مطار البحرين الدولي، آثرت البقاء خارج البحرين طوال 4 سنوات حتى إنتهينا من أعمال المؤتمر العام الخامس للاتحاد في فبراير 1984، ثم لجأت الى دولة الامارات العربية المتحدة بعيداً عن الأضواء والعيون حتى تاريخ عودتي الى البحرين يوم الخميس 14 يونيو 1984 الذي صادف شهر رمضان الكريم.
تعرضت للإعتقال والتحقيق لمدة ثلاثة أيام، وحين أفرج عني لاحقاً بدأت البحث عن عمل بشهادتي الجامعية بكالوريوس علوم من جامعة عين شمس، لكن الأبواب كانت موصدة باحكام، حتى التحقت بإحدى شركات الدعاية والاعلان إعتباراً من الأول من أكتوبر 1984 مستفيداً من تجربتي الإعلامية وخبرتي التي اكتسبتها من العمل النقابي وتنظيم المؤتمرات والفعاليات ضمن كوادر الإتحاد الوطني لطلبة البحرين، وكنت ولا أزال أقول لمن يسألني عن تخصصي بأنني أحمل شهادتين الأولى من جامعة عين شمس تخصص علوم وهي شهادة لم أعمل بها ولن اعمل بها أبداً، أما الشهادة الثانية فهي التي شكلت الوعي العملي والمهني وتحولت الى الخيار الأحب الى النفس والوجدان، وهي شهادة خبرة من الإتحاد الوطني لطلبة البحرين، فشكراً لكل من ساندني ووقف إلى جانبي طوال هذا المشوار الجميل، وسنظل دائماً نردد، ذكرى ميلاد إتحادنا ... ذكرى عزيزة على قلوبنا، وتحية الى جميع قيادات وكوادر الاتحاد الوطني لطلبة البحرين والرحمة والغفران لمن غادر سريعاً إلى جوار ربه الكريم.
.png)
