نحنُ- العشاقَ- النائمون على الجمر.. نحن- المتعبينَ- الذين لم يضمْهم قبر .. نحن المثقلون بالهمَّ، المبتعدون عن الجمعِ
كلنا عابرون في المكان في الكلامِ في القلم .. في الكتبِ التي ربما تتذكر.. ربما نترك الحنينَ والعشقَ والشغف
شعر : فاطمة التيتون
(135)
نحن- الجياعَ- الذين لا نشتهي كِسرة.
نحن-المندثرين- الذين لا يذكرنا أحد.
الضائعون في المكان، المتلاشون، نغلقُ أبوابنا،
يصرخُ فينا الخواء، تبكي علينا العطور. ونفتحُ أبوابنا للسماء!
(136)
في الربيعِ الأخيرِ لابدَّ من زهرةٍ تتحدث،
لا بدَّ من نهرٍ لا يتأخر،
لا بدَّ من عنبٍ، لا بدَّ من نخلةٍ تضحكُ، تتلفت،
والعشقُ لا بدَّ أن يتجددَ في الربيعِ الأخير.
(137)
أصابعُنا بردت، الدمُ فيها ترهّل، والأظافرُ ماتتْ قليلاً.
أيُّ وردٍ نهدي الآن؟ أيُّ دمعةٍ نمسح؟
هل ترانا القناديلُ؟ هل تشفقُ إن رحلنا؟
القصورُ التي توهمنا لم تكن، الأراجيحُ التي رسمنا لم تتحرك،
والمواعيدُ التي أردنا لم تكن،
في غفلةِ الزمنِ انتهينا، وتلاشت أصابعنا.
(138)
من ثنايا السُحبِ يرقصُ النورُ، ويهتفُ المطر،
ألفُ غيمةٍ تتبعُ ألفَ غيمةٍ، والفؤادُ يُحتضر.
(139)
أتلاشى خلفَ العطرِ، خلفَ الماءِ، خلف السَّمَا،
ويكونُ الحنينُ رماداً، يكونُ ورداً منسياً،
ونهراً مهزوماً، ويكون دماء.
(140)
أصغي لدمٍ يرتجفُ، لأشلاءٍ تهوي، لنواحٍ،
والوقتُ لا يتمهل، لا يُبدي الصَبابةَ، ولا الكراهية.
الوقتُ كالشمسِ أخرس.
ألفُ حَسرةٍ في الجيبِ، ألفُ دمعةٍ على الجدار،
ألفُ حُرقةٍ في القلب، ولم يدرِ البدرُ عن الأسى، ولم يستدر.
أرهقنا السكوتُ، الدمعُ أتعبنا، ضجرَ الوقتُ منا، ليتنا .....
(141)
ودعتُهم، ودعتُ مَن وَدّعَهم، وتأجّلَ الأجل!
عشقتُهم، وعشقتُ مَن يَعشقُهم، راودهم ملل.
القهوة تسألني، والغارقونُ في الموتِ يسألون، والنادمون، والراحلون،
مِن أيِّ جحيمٍ أتينا؟ إلى أيِّ جحيمٍ نمضي؟ هل نجمةٌ تبحثُ عنا؟
(142)
وانتهينا في شرايين العويل،
ضجرتْ مِنا الحكاياتُ العتيقة، وخسرنا ما ربحنا،
اغتربنا عن أراضينا، وجِعْنا، ألفُ دهرٍ قد عبرنا.
(143)
حين يسألُ الجناةُ عنا، قد غفرنا،
ونسينا الدموعَ والقضبان، لا تخبروهم أننا نتذكر.
كلُ السُحُبِ تلاشت، والعسلُ المرُّ ترهل.
وليس في الضلوعِ سوى الضلوع.
(144)
في الصمت، يتبعني الماءُ المالحُ والحلو،
تتبعني آياتُ الشكِّ،
والوجدُ النائمُ يهمسُ في وجعٍ في جوفِ الليل.
أرقٌ يحني هذا الضلع، ونجومٌ تسألُ عن وردٍ عن عشق،
لماذا اسئلةُ الوقت تعود؟ ولماذا تتجدد؟
لماذا نخدعُ العابرين والسفن؟
والبحرُ لماذا ينمقُ المعاني؟ وبين النهي والنفي يتمرغ؟
أقصدُ أن الوقتَ يخونُ الصيادين، ويواسي أحياناً،
وأقصدُ في أزمنةِ الصمتِ تحلو المنون، وتكبرُ الحسرة،
تتكسرُ الساعاتُ، تتهاوى المُنى،
يخجلُ النقيقُ والضجيجُ، والشكُّ يقتلُ اليقين.
(145)
وردةٌ في القلبِ تضجُ، تنزفُ، تغفو في الكون.
لها الريحُ تنحني، والسماءُ تحن.
في التأويلِ هي الروح، هي احتمالاتُ الندى، والبلسمُ الذي يُحي.
وردةٌ في القلبِ، هي الأبد، وعطرُ المتكلمين.
هي جنةُ العارفين، والمرايا الحزينة، وانتظار الشفق.
هي العشقُ الأبدي، هي الكونُ والكائنات.
(146)
النخيلُ أنا وأنتم، وهو العشقُ، وهو نارٌ مؤبدةٌ،
هو جمرٌ يؤججُ الضيا، هو جنةُ الرُّطب،
هو البدءُ في الخاتمة.
(147)
كأنكَ من بحرٍ، والبحرُ في السرِّ يموت،
والبحرُ يشربُ البحر، ويعرفُ السفن.
(148)
رأيتُ الصقيعَ، رأيتُ انكسارَ الزمن،
رأيتُ الطريقَ الذي يؤدي لذاتِ الطريق،
وعرفتُ الطيرَ الذي ضيّعه القفص.
(149)
أعرفُ أن البحرُ يترددُ لكنْ يأتي،
وتأتي البواخرُ تهتفُ في الصُبح، يهدأ الشوقُ حيناً، وحيناً يضجُّ،
أعرفُ انتظاري وصمتي ويأسي وشكي، أعرفُ أن البحرَ يأتي.
هو البحرُ الذي كان مني، أبكاني صغيرة وضيّعني.
كان يهجرُني دهراً ودهراً،
كان ضنيناً وعاتياً ومُرّاً ومريباً وكان.
(150)
في الحبِّ يرى الأعمى، والأخرسُ يتحدث،
القبيحُ يكونُ أجمل، والمشلولُ يرقص،
يصيرُ الليلُ نهاراً في الحُبِّ، والجليدُ ناراً.
والبومةُ تصيرُ قبرةً، والقردُ طاووساً في الحُبِّ.
(151)
كيف أجمعُ الفقاعاتِ؟ كيف أرتلُ الأحزانَ؟
كيف أغيّرُ مَجرى الريح؟ أيُّ سَحابةٍ تُصغي؟ وأيُّ قبرٍ يبكي؟
ماتت أقواسُ النصرِ، والبومةُ مرضت، تلعثمتْ في بدءِ الكلامِ وماتت.
(152)
عندما وُلدَ الحبُّ ميتاً،
كفنتهُ بدموعي، دفنتهُ في دَمي.
(153)
لو عِشقنا أصابَ، لو كان لنا من الفاكهةِ نصيب.
لو ترعرعنا بين قلبين.
لو الرصاصُ أخطأنا، لو نسينا المِحن.
لو لا نتمنى في آخر أعمَارنا، لو.
(154)
في الستين لا تتكلمُ المرايا، لا يهمسُ الفنجان، والحكايةُ لا تتحدث،
الجدارُ لا يهذي ليلاً، ولا يثرثرُ ظهراً، والصبحُ في الخرس.
لا تنطقُ الوجوهُ في الستين،
العيونُ تصمتُ، والشفاهُ لا تنبس، والشمسُ في شروقها تغيب!
في الستين تحاوركَ الأكفان، بعضُها من رضا،
وبعضُها خصام. يسقطُ اسمُكَ سهواً من قائمةِ الأموات.
لا تجوعُ ولا تعطشُ في الستين، تختارُ لنفسكَ أسماءً أخرى،
وتنامُ على أرصفةٍ منسيّة في عُمرِ الستين.
(155)
ترافقني وحدتي، أحياناً نقهقه، أحياناً نصمت،
نكونُ كالشِعرِ الحزين، وتداهمنا الوساوس.
نتفجعُ، نسخطُ منا وعلينا، يهربُ الكلام، تعبرُنا المسافاتُ والوقت.
كأن السماءَ تجمدت، كأن البحرَ مات، والزوايا هربت!
سقطتْ العنوان، نفرَ الباب، والجدارُ ضاع،
أصبحنا في محوٍ، نتجرعُ السُّمَّ. لم تترفقْ نجمة، لم تنتشلنا يدٌ حانية.
(156)
النائمون خلف الوقت يلبسون الغيمَ والشجر.
لا ينكرون الدهرَ، يقتاتون العُشب، ويزرعون الفرح.
أراهم في الساعات، أحنُّ إليهم، علموني الشجن، وعلموني الكلام.
أراهم كأنني لا أراهم، أميلُ إليهم كأنني لا أميل،
سافروا بعيداً ولم يرجِعوا، تأججَ قلبي حنيناً، ولم يرجعوا.
أخذوا التفاصيلَ والشقشقةَ والنهرينَ والعبيرَ وغادروا،
سرقوا الماءَ والخبزَ والثمر، ولم أعدْ أنتظر.
لا أفكرُ في الشهدِ ولا في المُرِّ ولا الذكرى،
لا أبتغي الحنينَ ولا النجوى.
(157)
في متاهات الوجدِ تلاشيتُ، في المدى ترحلّت،
ملكتني النجومُ والسُّحُب،
صرتُ في اللامكان، وتناسيتُ الزمن،
لعبةُ التاريخِ انتهت، وانتهتْ ثرثرةُ الألم.
(158)
كلنا عابرون في المكان في الكلامِ في القلم،
في الكتبِ التي ربما تتذكر،
ربما نترك الحنينَ والعشقَ والشغف.
(159)
الضوءُ الفاتنُ يغري، لا يستثني،
يهلُّ في الأركان، في الحكاية، في الأقواسُ والفرح،
هذا الضوءُ الفاتنُ أنتَ.
(160)
لم يصلْ الأصحابُ، والأوطانُ بعيدة،
الصَفصَافُ حزينٌ، العصافيرُ في عتمة، ولم يبقَ إلا الخرس.
(161)
نكبرُ وتصغرُ القصص،
ينامُ الليلُ هانئاً مستكيناً مستسلماً، وتنامُ الزهور،
لا شيءَ يقلقُ هذا الليلِ، لا شيءَ يقلقُ السكون،
ونكون كالقمر، نزينُ المُنى، نرتلُ الأساطيرَ والقصص.
نكبرُ، ويصغرُ مَن جاءَ ومَن مضى، وتغيبُ الرؤى.
(162)
لا شيء يدعو للأسف،
إن تهشمتْ الأسماءُ والقناديلُ والمسافاتُ لا أسف.
إن هجرَ الأحبةُ والرفقةُ لا أسف.
إن باعنا القريبُ والغريبُ لا أسف،
يرقصُ الصَفصَافُ في الريحِ، ولا يعرفُ الأسف.
(163)
ليست قصصي تلكَ الأحلامُ المكسورة، ليست أيامي.
العصفُ عصفي، والمرايا ابتهالاتي،
دمي يرقصُ في كفي، والزهرُ ينادي وألبي.
164))
نغيبُ في المطر، تسألنا السُحُب، ونسألُ السفر،
الحكاياتُ سرابٌ، الدموعُ وهمٌ، والضحكُ قلق.