في احتمالاتِ اللقاء،كلُّ الدروبِ تحنُّ إليكَ، وكلُّ الشحارير، وكلُّ الخلايا
كم زهرةٍ تبكي معي الآن، كم ياسمينةٍ، وكم قرنفلة ، قلبي يتشظى، يهدأ، ينهارُ، يفرحُ، ينتصرُ، ينهزمُ ، مَن يشتري قلبي؟ مَن يشتري المدى؟
شعر فاطمة التيتون
(1)
في مقهى الهوى،
الرفاقُ لا يأتون ولا العشاق، وينتظرُ المطر،
واللهفةُ لا تنتظر، منذ دهرٍ وهي لا تنتظر،
العابرون يعبرون، والطقسُ يرسمُ الهوى، والقهوة تنتظر.
لعلها حكاية الوقت، لعلها رفرفةُ القلب، لعلها أغنية قديمة.
(2)
والمرايا مهووسةٌ بالمرايا، ولا أحد.
واللؤلؤُ يموت، كان يلبسُ الماءَ، لكنّه يموت،
وغرقنا في النهاياتِ وعُدنا في بدايات الغرق.
(3)
ما أغربَ أطوارِ الناس،
قلبٌ يهذي، وآخرُ يستجدي، والساعةُ لا تروي.
القلبُ المهمومُ يغني ليلاً ونهار،
والقلبُ العاشقُ يروي ألمَ الأوتار.
(4)
وترحلُ أوجاعُ الريح،
كأنها ما عصفت، كأنها ما نزفت،
كأنها لم تسرقْ العُمر، لم تطعنْ الحُلم، كأنها لم تشتعل، وكأنها لم تكن.
(5)
الليلُ تراخى، والكلماتُ لم تتنفس، تهاوى الصُبحُ ولم تتلفت.
الكلماتُ التي رافقتنا، لم تشفقْ حين بكينا،
لم تنتشلنا من الموتِ حين اقترب، لم ترَنا،
لم تبتعد، لم تقترب، لم تنطقْ، وكانت رماد.
(6)
كأنكَ تنسى الوقتَ والصمتَ والياقوت، يا قلبي،
تنسى الزوايا والكلماتِ والسطور،
والطريقَ الذي مشيتَ، والكواكبَ، والأفلاكَ، والدمعَ، والأفراح.
وتغيبُ كأنكَ شمسٌ لا تودُّ المجيء،
كأنكَ تسعى لغيرِ الماءِ، تهفو لأزمنةٍ لا تكون.
كأنكَ تتضوّر يا قلبي، تبكي، تتلاشى في الغيابِ،
ترمي بكلِّ القلائدِ، تنسى البحرَ والنجمَ والبدر،
تنسى أروقةَ اليأس وأبوابَ الجوع، والضجر.
كأنكَ تختالُ حُزنا، كأنكَ تروي الماءَ ولا ترتوي، كأنكَ أعشى،
يا قلبي، كأنكَ تهرمُ جوعاً ولا تشتكي.
(7)
تمرُّ الليالي كظلٍّ حزين، كعصفورةٍ ميتة،
يتخلى الكونُ فيها عن الكونِ، تهرمُ فيها المرايا، يعطشُ الماء.
والسرابُ يظلُّ سعيداً ذاهباً آتياً في خداعٍ طويل.
(8)
ربما نرسمُ الكلمات، ربما نشبهُ العطرَ والصدى،
الكلمات التي تضيعُ في اللقاء،
لها الحضورُ والغياب، لها الجفافُ والمطر،
لها السطورُ وما بعدها، ربما هو الكلمات.
(9)
يخبو الحديثُ سريعاً، وتحزنُ الغصون،
يأتي الحديثُ خجولاً، يتلاشى، وتبكي الحروف.
يصرخُ الصمتُ، والياسمينُ يموت.
ويرقصُ الشجن، تتلاشى القلائدُ، ويضيعُ قزح.
مَن علّمَ المارةَ أن يغيبوا؟ أن يتمادوا في الأسى؟ وأن يرحلوا؟
(10)
في احتمالاتِ اللقاء،
كلُّ الدروبِ تحنُّ إليكَ، وكلُّ الشحارير، وكلُّ الخلايا،
وكلُّ الحروفِ، والصمتُ والزوايا،
والخريفُ والصيفُ وأغاني الشظايا.
(11)
كأنك تأتي، كأنكَ تشعلُ وهجَ الثريا،
وتأتي، ويبتسمُ الليلُ والفجرُ ووردُ العصرِ.
كأن المطرُ رسولي إليكَ، كأن زهوركَ وقتي.
(12)
وأظلُّ في شوقٍ، أظلُّ واقفةً على بابِ الهوى،
يحملُ الليلُ همّي والفجر،
بين شكٍّ بين جوعٍ بين أسئلةٍ أكون.
كلُّ الضلوعِ تحنُّ، وكلُّ الخلايا دموع.
أهو العشقُ الذي يسكنُ الروحَ ويأكلُ البدن؟؟
(13)
كنتَ العطشَ، لصوتٍ، لحكاية، لأرضِ وعدٍ، لفُرات.
كنتَ الحنينَ لوقتٍ يسترسلُ في الصَفا،
كنتَ الشوقَ لمعزوفةِ الماس، لربيعِ الفراشة.
كنتَ العطرَ الذي يسألُ عني، في الدُّجى، في الصحو،
يسألُ عن وردِ الرضا، عن خيوطِ الذهب،
عن اليقينِ في الظنِّ، عن الأغاريدِ، عن الشذى.
كنتَ انتظارَ الصامتين، وأغاني العارفين،
والنهارَ المنزوي في الشمس، والنخلةَ الحانية.
كنتَ وعداً من مرايا الشمسِ يأتي،
يحملُ التاجَ ويُعطي طفلةَ الأمسِ الحزينة بعضَ حلوى،
بعضَ ألوانٍ ودفتر، وقلادة. كنتَ ورداً يملأ الكونَ صلاةً وعبادة،
كنتَ وهجَ العُمرِ والبهجةَ والحزنَ وقيثارَ الجنازة.
(14)
العشاقُ يمشون في الظلام، يصمتون طويلاً،
الظلُّ يتبعُهم والشجر، حكاياتُ الحزنِ تعرفهم،
لم يبالوا بعودةٍ، لم يكونوا في الزمن،
يمشون دهراً، ولا يستريحون.
(15)
كيف نلمسُ العناقيد؟ كيف نقودُ السفينة؟
أين يصيرُ المدى؟ كيف يرانا النجم؟
هل العشقُ يعرفُ؟ هل يطرقُ الباب؟ هل يكتبُ القصص؟
قلْ لي عن الحكايةِ يا أبي، هل ألوذُ به؟
هل أرى ما يرى؟ هل أقتني ما يقتني؟
(16)
الحُبُّ أنا، وهدايا الهوى والوجد، وشهدُ الكلامِ والورد.
راقَ لي أن أكون الحكاية، أن أكون البدءَ والنهاية،
أن أكون الجنونَ، والعاشقَ والمعشوق.
(17)
في النفسِ أنين، وأهزوجةٌ متعبة،
قصة لا تبدأ منكَ ولا مني، لا تضجُّ لا تهدأ،
في الضبابِ تغيبُ وتأتي، في الصقيعِ تهوي، تتلاشى،
وفي الخريفِ لا تبين.
(18)
يعرفنا الموتى، وتعرفنا الأشجار،
علينا القرنفلُ يحزنُ والأنهار،
قليلةٌ أيامنا، رخيصةٌ أوجاعنا، وحُلمنا فقير.
(19)
البردُ يكوي، النارُ تستعصي، والجوعُ يعصف!
الصمتُ يكبرُ في المرايا، يطاردُ الزمنَ، ويكتبُ الرواية.
خاوية تلك النجوم، في الصبحِ تبكي،
في العصرِ تخبو، وفي الليلِ تلوم.
(20)
هل نموتُ قليلاً؟ هل الوردُ يجني على الوردِ؟
هل السَما تخالفُ السَما؟ هل تبكي علينا المزاميرُ؟
والعطرُ يغتالنا؟ والنرجسُ يروي الأحلام؟
هل الأصيلُ يواسي؟ هل الندى ينتحب؟
(21)
منذ الفجرِ والقنديلُ يرتجف!
مرهقةٌ أسمالنا، نترجى الدفءَ والبهجة. هزيلةٌ كلماتنا، والأغنيات.
هجرتنا المناراتُ والبحرُ والأشرعة، وباتَ الهوى في الأسر.
(22)
أخذته المراكبُ منّي، وتولّى،
أصاخَ لهم، وتهاويتُ في الظنِّ.
لم أخبرْ الشُهبَ عنه، والليلُ لم يعرفْ ولا النهار،
لكنني أخبرتُ الآلهةَ، وأخبرتُ الأشجار.
العصافيرُ تسألُ مَنْ يكون؟
لعلكَ منها، لعلكَ أجنحة، لعلكَ ريشُ الوهمِ، ومنقارُ الجنون.
(23)
تحدثنا عن المعنى، عن الطريقِ تحدثنا، وعن أسفِ العندليب.
اغرورقَ القلبُ دماً، وضيّعَ الرؤى،
ماتَ قبلَ الموتِ، توارى في الثرى.
(24)
كالمعتوهةِ، كالمهجورةِ، كالمنسيةِ أصبحتُ، وتهاوى السقف.
الوقتُ كئيبٌ وضحلٌ، وبخيلةٌ الأمكنة.
(25)
الصَفصَافُ والياسمينُ وعبّادُ الشمسِ والعنبُ يتذكرون،
ووردُ العصرِ، وصمتُ المساء، والنسيمُ المائلُ نحو الحزن.
الزمنُ يقطفُ وردةً، ويمضي، وأمضي في الصدى،
في ضجيجِ الأسف، في غناءِ الخوف، أمضي في أنينِ العشق.
والأهازيجُ لا تهدأ، لا يرتوي الماءُ، ولا النهرُ، ولا الغصنُ،
ولا اللحاءُ، ولا يرتوي الندى.
عصفٌ يأخذ الباقي من الدهرِ، يفتتُ قلبي،
يخطفُ بسمتي، يكسرُ أضلعي، وعظامي وهامتي.
يسرقُ كلَّ كلامي، ومثلما يأكلُ الموتى يأكلني طعامي.