وعد الأرض المرتبط بظروف تاريخية محددة ومؤقتة، لا يصح أن يكون مبرراً للحركة الصهيونية المعاصرة في مطالبتهم بالأرض وطرد أهلها منها
كتب : حميد المبارك
ورد وعد الأرض لبني إسرائيل في قوله تعالى "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ .." (المائدة ٢١). وقد تكرر ذكرها في العهد القديم (التوراة). وقد ورد فيها خروج إبراهيم من منطقة حاران واتجاهه جنوباً إلى أرض كنعان، "وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. .. فَأَخَذَ أَبْرَامُ سَارَ ايَ امْرَأَتَهُ، وَلُوطًا ابْنَ أَخِيهِ، وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ" (التكوين ١٢: ١، ٥). وهي الأرض التي وعد إبراهيم (التكوين ١٥: ١٨-٢١). وبعد خمسة قرون، قصدها بنو إسرائيل خارجين من مصر بقيادة موسى (الخروج ٣: ٨).
وقد نزح بنو إسرائيل إلى مصر في زمن يوسف بن يعقوب، وسكنوا في أرض جاسان الواقعة قريباً من البحر الأحمر شمالاً (سفر التكوين ٤٧). وبعد ٤٠٠ سنة، خرجوا بقيادة موسى في اتجاه الأرض الموعودة، والتي كانت قريبة جداً لكنهم لم يسلكوا الطريق المستقيم، كما في الخروج ١٣: ١٧، ١٨ "وَكَانَ لَمَّا أَطْلَقَ فِرْعَوْنُ الشَّعْبَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَهْدِهِمْ فِي طَرِيقِ أَرْضِ الْفَلَسْطِينِيِّينَ مَعَ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ، لأَنَّ اللهَ قَالَ: لِئَلاَّ يَنْدَمَ الشَّعْبُ إِذَا رَأَوْا حَرْبًا وَيَرْجِعُوا إِلَى مِصْر. فَأَدَارَ اللهُ الشَّعْبَ فِي طَرِيقِ بَرِّيَّةِ بَحْرِ سُوفٍ".
ولم يدخلها موسى، كما في التثنية ٣٤: ١-٦ "وَصَعِدَ مُوسَى مِنْ عَرَبَاتِ مُوآبَ إِلَى جَبَلِ نَبُو، إِلَى رَأْسِ الْفِسْجَةِ الَّذِي قُبَالَةَ أَرِيحَا، فَأَرَاهُ الرَّبُّ جَمِيعَ الأَرْضِ مِنْ جِلْعَادَ إِلَى دَانَ، وَجَمِيعَ نَفْتَالِي وَأَرْضَ أَفْرَايِمَ وَمَنَسَّى، وَجَمِيعَ أَرْضِ يَهُوذَا إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ، وَالْجَنُوبَ وَالدَّائِرَةَ بُقْعَةَ أَرِيحَا مَدِينَةِ النَّخْلِ، إِلَى صُوغَرَ. وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: هذِهِ هِيَ الأَرْضُ الَّتِي أَقْسَمْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ قَائِلاً: لِنَسْلِكَ أُعْطِيهَا. قَدْ أَرَيْتُكَ إِيَّاهَا بِعَيْنَيْكَ، وَلكِنَّكَ إِلَى هُنَاكَ لاَ تَعْبُرُ. فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ"، وإنما قادهم إليها يشوع بن نون، والذي عبر بهم نهر الأردن (سفر يشوع ١: ١-٤) إلى الأرض الموعودة الواقعة غربي النهر.
لكن تملك بني إسرائيل للأرض لم يكتمل حتى عهد سليمان بن داود، حيث سيطر على كامل الحدود المذكورة لأرض الميعاد، كما في الملوك الأول ٤: ٢١، ٢٥ "وَكَانَ سُلَيْمَانُ مُتَسَلِّطًا عَلَى جَمِيعِ الْمَمَالِكِ مِنَ النَّهْرِ إِلَى أَرْضِ فِلِسْطِينَ، وَإِلَى تُخُومِ مِصْرَ. كَانُوا يُقَدِّمُونَ الْهَدَايَا وَيَخْدِمُونَ سُلَيْمَانَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ. .. وَسَكَنَ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلُ آمِنِينَ، كُلُّ وَاحِدٍ تَحْتَ كَرْمَتِهِ وَتَحْتَ تِينَتِهِ، مِنْ دَانَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ، كُلَّ أَيَّامِ سُلَيْمَانَ"، وفي خبار الأيام الثاني ٩: ٢٦ "وَكَان مُتَسَلِّطًا عَلَى جَمِيعِ الْمُلُوكِ مِنَ النَّهْرِ إِلَى أَرْضِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَإِلَى تُخُومِ مِصْرَ". فتدل هذه السياقات على مطابقة حدود مملكته للأرض الموعودة حسب التوراة، وهي أرض كنعان الواقعة عبر النهر. والمقصود بالنهر هو نهر الأردن كما تقدم، أو نهر الفرات أي فرعه المتصل ببلاد الشام، وهو المشار إليه في سفر التثنية ١١: ٢٣-٢٤ "يَطْرُدُ الرَّبُّ جَمِيعَ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ مِنْ أَمَامِكُمْ، فَتَرِثُونَ شُعُوبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكُمْ. كُلُّ مَكَانٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ يَكُونُ لَكُمْ. مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ. مِنَ النَّهْرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ، إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ يَكُونُ تُخْمُكُمْ"، ونظيره في سفر التكوين ١٥: ١٨.
ويتضح بذلك، أنه لا مانع عن القول بأن ملك سليمان مثّل تحقيقاً لوعد التمكين في الأرض، وذلك بعد حوالي ٤٨٠ سنة من الخروج من عبودية مصر (الملوك الأول ٦: ١). وهو ظاهر السياق القرآني، كما في القصص ٤-٦ "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ"، وفي سورة ص ٢٦، ٣٠ "يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ .. وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ".
وقد دلت النصوص اليهودية على مشروطية دوام مملكة سليمان، "وَأَنْتَ إِنْ سَلَكْتَ أَمَامِي كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ بِسَلاَمَةِ قَلْبٍ وَاسْتِقَامَةٍ، وَعَمِلْتَ حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَيْتُكَ وَحَفِظْتَ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي .." (الملوك الأول ٩: ١-٥). ثم أخبر عن تمزيق المملكة، "فَقَالَ الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذلِكَ عِنْدَكَ، وَلَمْ تَحْفَظْ عَهْدِي وَفَرَائِضِيَ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ بِهَا، فَإِنِّي أُمَزِّقُ الْمَمْلَكَةَ عَنْكَ تَمْزِيقًا وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ. إِلاَّ إِنِّي لاَ أَفْعَلُ ذلِكَ فِي أَيَّامِكَ، مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ أَبِيكَ، بَلْ مِنْ يَدِ ابْنِكَ أُمَزِّقُهَا" (الملوك الأول ١١: ١١-١٢).
وبناء على هذه السياقات، فقد مثّل ملك سليمان ذروة تحقق الوعد لبني إسرائيل، ثم بدأ الانحدار وصولاً إلى السبي البابلي وزوال المملكة بالكامل، "وَسَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي جَمِيعِ خَطَايَا يَرُبْعَامَ الَّتِي عَمِلَ. لَمْ يَحِيدُوا عَنْهَا. حَتَّى نَحَّى الرَّبُّ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَمَامِهِ كَمَا تَكَلَّمَ عَنْ يَدِ جَمِيعِ عَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ، فَسُبِيَ إِسْرَائِيلُ مِنْ أَرْضِهِ إِلَى أَشُّورَ إِلَى هذَا الْيَوْم" (الملوك الثاني ١٧: ٢٢-٢٣).
ويتصل بذلك مادل على الارتباط بين انهدام الهيكل (الملوك الأول ٥: ٥) وبين انتهاء وعد الأرض، كما في الملوك الأول ٩: ٦-٩ "إِنْ كُنْتُمْ تَنْقَلِبُونَ أَنْتُمْ أَوْ أَبْنَاؤُكُمْ مِنْ وَرَائِي، وَلاَ تَحْفَظُونَ وَصَايَايَ، فَرَائِضِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا أَمَامَكُمْ، بَلْ تَذْهَبُونَ وَتَعْبُدُونَ آلِهَةً أُخْرَى وَتَسْجُدُونَ لَهَا، فَإِنِّي أَقْطَعُ إِسْرَائِيلَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، وَالْبَيْتُ الَّذِي قَدَّسْتُهُ لاسْمِي أَنْفِيهِ مِنْ أَمَامِي، وَيَكُونُ إِسْرَائِيلُ مَثَلاً وَهُزْأَةً فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ، وَهذَا الْبَيْتُ يَكُونُ عِبْرَةً ..". وقد هُدم الهيكل السليماني في فترة السبي البابلي، ثم أُعيد بناؤه بعد ذلك (سفري عزرا ونحميا). ثم جاء الاخبار على لسان المسيح بمآله إلى خرابه النهائي، "هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا" (متى ٢٣: ٣٨). وقد حصل ذلك على يد الرومان سنة ٧٠ ميلادية، ولم تقم له قائمة منذ ذلك اليوم.
ومقتضى الارتباط الرمزي بين البيت والأرض أن الايذان بخرابه بحيث لا تقوم له قائمة، هو إيذان أيضاً بانتهاء خصوصية وعد الأرض.
وقد دلت السياقات القرآنية على إن وعد الأرض مشروط بالتقوى والصلاح، كما في الأعراف ١٢٨ ".. إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"، وفي الأنبياء ١٠٥ "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ". بل جاء انقضاء وانتهاء وعد الأرض لبني إسرائيل، كما في النور ٥٥ "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ..". وكذلك انقضت خصوصية اليهود الدينية، كما في خطاب المسيح لليهود حسب إنجيل متى ٢١: ٤٣ "لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ". وفي آل عمران ٦٨ "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ".
الخلاصة:
(١) إن وعد بني إسرائيل بالأرض هو من النصوص التي يجب تفسيرها ضمن سياقها التاريخي، من حيث الشروط ومن حيث أمد تحققها خارجاً. وقد تحقق وعد الأرض في عهد سليمان بن داود، ثم انتهى بتمزق مملكته من بعده.
(٢) كما إن الخراب النهائي للهيكل الذي هو رمز الخصوصية المكانية لاسرائيل، مؤشر آخر على انتهاء وعد الأرض. وذلك لوجود ارتباط رمزي بين البيت والأرض، كما تقدم.
والمتحصل، إن وعد الأرض المرتبط بظروف تاريخية محددة ومؤقتة، لا يصح أن يكون مبرراً للحركة الصهيونية المعاصرة في مطالبتهم بالأرض وطرد أهلها منها.