بقلم : د. منى عباس فضل
عرف الكاتب روبرت إسحاق في كتابه مخاطر العولمة الفقر بــ " أن تكون فقيراً يعني حرمانك من الفرص الكافية للحصول على الغذاء والشراب والعمل ومن الوصول إلى العناية الطبية في حالة المرض، ومن الحصول على النظافة الأساسية ومن الشعور بالأمان خصوصاً الأمان المالي "
مؤخراً أطلقت "الأسكوا" إصدارها حول الفقر في بلدان مجلس التعاون الخليجي؛ وذكرت فيه حقائق صادمة، مشيرة "إلى أن ازدهار اقتصاد المنطقة خلق انطباعاً بأن معدلات الفقر فيها منخفضة أو لا وجود لها"، لم لا والكل يعتقد أن أهل الخليج يعيشون في رخاء وبحبوحة عيش بعيداً عن الفقر والعوز والمعاناة، وفي حقيقة الأمر هذا ما درجت على تسويغه التقارير الرسمية التي تعد سنوياً لأغراض المؤتمرات الدولية والسياسة.
والمهم في التقرير، التنويه "إلى إنه وعلى مدى عقود، اعتمدت اقتصاديات المنطقة على ثرواتها الطبيعية التي مؤلت الإيرادات الحكومية والدخل القومي وارتفاع الإنفاق الحكومي، مما انعكس على ارتفاع نصيب الفرد من الإيرادات وإعانات الحكومة، إلى جانب معدلات الضرائب المنخفضة والعمالة الواسعة في القطاع العام..إلخ"؛ لكن التقرير من جهة أخرى شدد إلى إنه لم يُبذل سوى القليل من الجهد في التحقيق بمدى انتشار الفقر وعمقه، حتى إنه لم يتم تحديد خطوط له تحدد معدلاته وفقاً للتعاريف الوطنية؛ وهنا نتفق مع هذه الخلاصة خصوصاً عندما نناقش وضع البحرين لاحقاً.
استندت "الأسكوا" في تحديد خطوط الفقر الخليجي على "مقياس دخل الأسرة والإنفاق الاستهلاكي"، على الرغم من وجود معارضين لهذا المقياس يرون؛ أنه لا يعكس صورة واقعية وحقيقية عن مستوى حرمان الأسرة ذات المداخيل المتدنية مؤكدين أن إحصاءات الدخل لابدّ وأن يعززها الانطباعات الذاتية للفقراء وأساليب فهمهم لحالتهم الاجتماعية، بل أن هناك من يجد صعوبة في تحديد الدخل الذي يمثل حداً فاصلاً بين الأسرة الفقيرة وغير الفقيرة، باعتبار إن تحديد حد أدنى لدخل الأسرة هو تعريف ذو طابع اجتماعي متغير بحسب ثقافة المجتمع والفترة التاريخية التي يمر فيها، إضافة إلى إن وضع الأسرة في المجتمع الواحد متباين من حيث حجمها وتركيبتها وفقاً للعمر والجنس وتغير مستوى المعيشة الذي لا يتطابق مع تغير مستوى دخل الأسرة، وبالتالي فإنه لا يعطي إلا صورة جزئية عن ظاهرة الفقر؛ ومع ذلك حسناً أن نشرت "الأسكوا" نتائج ما توصلت إليه، لماذا؟.
فقر البحرين ...
على المستوى البحريني، غالباً ما يُحاجج حول وجود الفقر من عدمه، وحيث يصعب الأخذ بمفهوم الفقر المطلق الذي يحدد خطه قياساً على مدى توفر الحاجات الضرورية للفرد، وهذه نسبية، خصوصاً وبعض الاقتصاديين يجدونه نسبي ويمكن قياسه على أساس نسب معينة من مقياس الرفاه "كالدخل الوسيط"، ولهذا فأن ما خلص إليه تقرير "الأسكوا" بوجود فجوات كبيرة في الإنفاق وتكلفة المعيشة لكل أسرة بين بلدان مجلس التعاون الخليجي، يعكس وجه من أوجه عدم المساواة، فقد ذكر بإن البحرين تحتل المرتبة الثالثة بنسبة فقراء تبلغ (7.5%) عام 2022 مقارنة ب(6.8) عام 2010، وفي هذا تأكيد على وجود فقر وفقراء لمن ينكرون ذلك، وأن تقديرات "الأسكوا" لمتوسط الإنفاق الشهري للأسرة البحرينية يبلغ (1,548د.ب) فيما خط الفقر الشهري المقدر لها يمثل (490د.ب)، مضيفاً بأن معدل فقر الدخل لدى المواطنين في بلدان مجلس التعاون الخليجي قد انخفض منذ عام 2010، باستثناء الكويت والبحرين التي زاد فيها على نحو طفيف. هنا يحذر البعض من فخ البيانات الإحصائية بشأن تراجع معدلات الفقر؛ ليس في هذا التقرير فقط وإنما في التقارير الوطنية والدولية أيضاً، حيث يشكل الفقر ظاهرة مركبة اقتصادية، اجتماعية، سياسية، نفسية، وثقافية؛ وغالباً ما يُخضع في دراستها وتحديدها لاعتبارات الوضع السياسي وما يحدده من مؤشرات بما لا تعبر عن حقيقة الفقر وتنوعه.
في تقرير "الأسكوا" فتم التركيز على عاملين أساسيين يساهمان في معدلات الفقر؛ هما مستوى الدخل أو الإنفاق وتوزيعه بين السكان، ويوضح بأن هناك عدم مساواة في توزيع الإنفاق بين بلدان التعاون الخليجي، ففي البحرين مثلاً يقل إنفاق أفقر (10%) من الأسر المعيشية بمقدار (10) أضعاف مقارنة بإنفاق أغنى (10%) من الأسر.
مؤشرات الأسكوا
عند مقاربة مؤشرات "الأسكوا" وما كشفته إحصاءات الدخل الشهري للبحرينيين العاملين من الجنسين لعام 2022 كما في الجدول والشكل التالي؛ سنجد أن أعلى نسبة منهم بعدد (45,160) ونسبة (46%) لا تتجاوز مداخيلهم الـ(500 د.ب) وهم نسبة كبيرة يتطابق وضعها وخط الفقر الشهري الذي قدرته الأسكوا للأسرة البحرينية، اللافت أن أقلهم دخلاً هن النساء اللاتي يمثلن نسبة (36%) مقارنة بالرجال الذين يمثلون نسبة (64%).
أما أصحاب المداخيل الشهرية التي تتراوح بين (100-300 د.ب) فنسبتهم تمثل (11%) أغلبهم نساء بنسبة (56%) مقارنة بالرجال (44%) ونجد هؤلاء في وضع متدنٍ مقارنة بخط الفقر المقدر من "الأسكوا"، فيما تتناقص أعداد من يتمتعون بمداخيل تتناسب ومستوى إنفاقهم الشهري الذي حددته "الأسكوا" للبحرين بمبلغ (1548د.ب) حيث يبلغ عدد من يتقاضون دخلاً من (500-880 د.ب) بلغوا (17,102) فقط وأقلهم النساء بنسبة (36%) مقارنة بالرجال (64%)، وهناك (13,487) فرداً يتقاضون (800-1000د.ب) شهرياً أغلبهم رجال بنسبة (72%) مقابل (28%) نساء، فيما يقل العدد الإجمالي إلى (11,385) فرداً فقط ممن يتقاضون دخلاً شهرياً (1,500 د.ب فما فوق) وأغلبهم رجال بنسبة (78%) وأقلهم نساء بنسبة (22%).
لامساواة بالمظلة الحمائية
وماذا عن أوضاع المتقاعدين المعيشية من حيث المداخيل؟
تكشف إحصاءات هيئة التأمينات الاجتماعية لمن يعتاشون على مرتباتهم التقاعدية من القطاعين العام والخاص إنهم بلغوا (76,685) من الجنسين وبمتوسط معاش تقاعدي (789 د.ب) وتصل نسبة النساء منهم (36%) فقط، فيما يتبين أن الوسيط للمعاشات الشهرية لهذه الفئة في القطاع الخاص بلغ (413 د.ب)، ماذا يعني هذا؟
يعني أنه مؤشر لدخل أدنى من خط الفقر الشهري الذي قدرته "الأسكوا" للأسرة البحرينية ومستوى انفاقها شهرياً حتى مع افتراض أن الزوجين يعملان وينفقان معاً على الأسرة، مع ملاحظة أن أغلب أصحاب المعاشات التقاعدية هم من القطاع الخاص الذي يتسم بتدنِ المداخيل التقاعدية مقارنة بالقطاع العام، وهناك ما مجموعه (22,702) فرداً من المستحقين من "الأرامل واليتامي وآخرين" للمعاشات التقاعدية ممن تقل مرتباتهم الشهرية عن (359 د.ب) في القطاع العام و(279 د.ب) في القطاع الخاص، وهؤلاء أيضا يقعون في مستوى تحت خط الفقر المحدد "للأسكوا".
وقس على ذلك فيما ذكره مؤخراً الدكتور حسن العالي في مداخلة له بأن "إجمالي عدد البحرينيين من (سن 15 فما فوق) يمثلون (496 ألف) منهم (245 ألف) نساء و(95 ألف) منهن يعملن وإن (70 ألف) منهن يعملن بأجر، ومؤمن على (58 ألف) منهن فقط، أما (12 ألف من هؤلاء ممن يمثلن نسبة 17%) هن من العاملات بأجر وغير مؤمن عليهن؛ وبالتالي يمكن تصنيفهن ضمن خانة العمل غير النظامي"، أي بمداخيل متدنية وغير ثابتة وشحيحه، وهناك "(14 ألف) يعملن لحسابهن الخاص مؤمن على (554 منهن فقط) و(7 آلاف) بتصنيف صاحبات عمل والعاملات لحسابهن الخاص المؤمن عليهن بعدد (1855) فقط ويتضح أن غالبيتهن غير مؤمن عليهن، فيما بلغت ربات البيوت (78 ألف) ربة بيت و(9 آلاف) عاطلة عن العمل، مقارنة بعدد من العاطلين (3 آلاف)، والفئات الأخيرة بالطبع دون مداخيل شهرية، ما يعني افتقاده لأي مظلة اجتماعية حمائية توفر لها الاستقرار المادي.
إلى هنا مظاهر الفقر في البحرين تفقع العيون ودلالتها تكمن في المؤشرات الرقمية التي عرضت أعلاه وبحاجة إلى تمحيص ورؤية نقدية وجدية في النظر إلى واقع هذه المعضلة لاسيما مع تقلص مستوى المساعدات الاجتماعية وخفض الرسوم والفشل في تنفيذ سياسة بحرنة الوظائف وخفض نسب البطالة، وعدم المساواة بين المواطنين في ميزات مظلة الحماية الاجتماعية، لاسيما الذين يعملون في العمل غير المنظم، ولا يمكن لبعضهم امتلاك البيوت والسكن بسبب هشاشة "مداخيلهم" وعدم قدرتهم على تسديد إيجارات المساكن والتخلف في دفع أقساطها أو أقساط القروض المصرفية والسيارات وفواتير الكهرباء وتأمين المواصلات، وبرغم إن التعليم إلزامي هو والرعاية الصحية حيث يقدمان بالمجان أو شبه المجان، إلا إن تدني مستويات الخدمة الصحية والمخرجات التعليمية وجودتها باتت تستهلك مداخيل المواطن البحريني وتؤثر على مستوى معيشته باللجوء إلى خدمات الطب والتعليم الخاص، في ظل ارتفاع مطرد للأسعار وتدني الأجور وتزايد الاقتراض الاستهلاكي لسد الاحتياجات.
وعليه تبقى الخيارات مفتوحة ومتاحة لمن بيدهم قرار الحد من الفقر والقضاء عليه، سواء باعتماد نظام ضريبي عادل ومنصف يخفف من آثار القيمة المضافة عبر الإعفاءات المستهدفة للأغذية والأدوية الأساسية، ويفرض الضرائب على أرباح الشركات والمؤسسات والتحويلات المالية للأجانب، فضلاً عن زيادة كفاءة الإنفاق العام وإصلاح الدعم وتنويع النمو والمساعدة في التوظيف استناداً إلى الكفاءة والأحقية والحد من الفوارق الاجتماعية.