بقلم محمد حسن العرادي
حين قررت الدولة فتح باب العمل السياسي على مصراعية في بداية عهد الإصلاح عام 2002 لم تكن القوانين والأنظمة المعمول بها تسمح بذلك، لكن الدولة لم تجد غضاضة في التصريح لهذه الجمعيات بالتأسيس بموجب قانون الجمعيات الأهلية رقم 21 لسنة 1989.
وكانت تلك بداية لمصالحة حقيقية جعلت من البحرين قبلة للحراك السياسي المتعدد وواحة للحريات السياسية والإعلامية في منطقة إقليمية تعتبر منغلقة سياسياً، عندها انخرط عدداً كبيراً من المواطنين في العمل السياسي، وجمع عددٌ كبيرٌ من نشطاء المجتمع المدني بين العمل في الجمعيات الأهلية والثقافية والإجتماعية والرياضية التي كانت السمة الغالبة للعمل العام في البحرين، وبين العمل السياسي الناشئ حينها، وساهموا في إحداث نهضة سياسية غير مسبوقة وضعت البحرين في مصاف الدول ذات الديمقراطيات العريقة في التجارب الحزبية والسياسية على مستوى العالم.
في تلك الأجواء إستقبلت البحرين العديد من المؤتمرات السياسية الفاقعة الألوان والمشاركين من كل حدبٍ وصوب، وفتحت البلاد أذرعها لاحتضان فعاليات سياسية وفكرية كانت حتى وقت قريب مصنفة تحت الخطوط الحمراء، فارتفع بذلك منسوب الأمل والتطلع المجتمعي إلى مستويات عالية من حرية الرأي والتعبير والفكر المتقدم والتعددية السياسية، وهكذا عُقدت في البحرين ندوات ومؤتمرات ولقاءات سياسية وازنة ناقشت مختلف قضايا العالم بحرية تامة وغير مسبوقة، بل واستضافت البحرين منتديات لم تعتد على استضافتها مثل ملتقي ندوة "أفاق التحول الديمقراطي في البحرين" التي عقدت فبراير 2002 "والمؤتمر الخليجي الثالث لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني" الذي عقد في العام 2003، "والمنتدى الموازي لمنتدى الشرق الأوسط" "والمؤتمر القومي العربي" والعديد من الفعاليات التي تنضح سياسة ومواقف معارضة حادة وحاسمة، وكانت أبواب البحرين آنذاك مفتوحة لشخصيات عربية طالما اعتبرت من بين المغضوب عليهم مثل الشاعر العراقي العظيم مظفر النواب رحمه الله، والشيخ عكرمة صبري امام وخطيب المسجد الأقصى والمطران عطا الله حنا أسقف كنيسة القيامة في القدس والأستاذ معن بشور أمين عام المؤتمر القومي العربي، والسيد نواف الموسوي عضو مجلس النواب اللبناني عن حزب الله، وأبو أحمد فؤاد نائب امين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعدد كبير من الأمناء العامين لاحزاب وتنظيمات فلسطينية ولبنانية مناضلة تمتشق السلاح دفاعاً عن فلسطين ولبنان وتُطالب بحق العودة واعتبار القدس العاصمة الأبدية لفلسطين.
لقد كانت أيام لاتنسى ورغم كل ذلك النشاط والحراك السياسي، كان الشعب البحريني في أعلى درجات الإنضباط والإلتزام، ورافق ذلك إنفراج أمني واسع أذهل العالم من حولنا.
لقد شهدت البحرين حينها مستويات عالية من السلام المجتمعي والأمن الاجتماعي لم تعهده منذ طوال عقد التسعينات من القرن العشرين، بل إن العلاقة بين الناس العاديين والمؤسسات الأمنية شهدت شهر عسلٍ إتصف بالمحبة والوداد والترحاب بعد سنوات من المواجهات والصدامات التي تلك الفترة المتأزمة وما رافق ذلك من خسائر مادية وبشرية هائلة أثقلت كاهل مجتمعنا واقتصادنا الصغير.
لقد أثبتت تلك الحقبة من الإنفتاح السياسي التي استمرت عقدا كاملاً بأن نقطة التحكم ونشر الأجواء المنفتحة والمريحة كانت على الدوام بيد السلطة وتحديداً بيد المؤسسات الاًمنية والسياسية، التي تستطيع إحداث إنفراجه كبيرة وإرسال تطمينات هائلة للمجتمع وضمان تفاعل إيجابي واسع إن هي أرادت ذلك،
كما تستطيع توتير الأجواء وزيادة معدلات الإحتقان والغضب المجتمعي إن هي إختارت التشدد والقبضة الأمنية القاسية، وفي جميع الأحوال فإن التيارات السياسية والجماهير تستجيب للنهج والأسلوب الذي تتعامل به المؤسسات الأمنية والسياسية، وباختصار فإن التشدد يقود إلى التشدد المقابل وإنتشار العنف، والتواصل والإنفتاح يؤدي إلى انتشار ثقافة التواصل وتعزيز الثقة مع مختلف مؤسسات الدولة.
من هنا نقول بأن إختيار حل بعض الجمعيات السياسية ومنع المنتمين لها من ممارسة حقوقهم السياسية وخاصة حق الترشح لمجلس النواب والمجالس البلدية، ثم إضافة تعديلات قانونية جديدة للقانون رقم 21 لسنة 1989 يحضر على المنتمين للجمعيات السياسية بصورة عامة الترشح لأي من إدارات الجمعيات الأهلية والمجتمعية والرياضية بموجب القانون رقم 30 لسنة 2002، القاضي بتعديل بعض مواد قانون الجمعيات الأهلية، يعتبر تصعيداً وتأزيماً للوضع الأمني وتعطيلاً للحياة السياسية، حيث ستجد الجمعيات السياسية نفسها بدون منظمات جماهيرية قادرة على رفدها بالأعضاء والكفاءات والكوادر الجديدة.
لقد كان المنع والأغلاق خياراً غير صحيح وأزم العلاقة بين كافة الأطراف وتسبب انتهاج هذا المسار في ركود سياسي ومجتمعي وتباعد حاد بين الأطراف ذات العلاقة لاسيما السادة النواب والشوريين الذين مرروا تعديل المنع الذي كان تراجعاً فجاً عن مسار الإنفتاح السياسي الذي وعد وبشر به المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، وكان يمكن بجرعات إضافية من الصبر والحكمة والحوارات الهادئة تحاشي حدوث هذا التراجع الذي يعد قطيعة سياسية وحصار غير مبرر للعمل السياسي وضربة قوية لمؤسسات المجتمع الاهلي والمدني المختلفة.
وكأن النهج التأزيمي الذي يقاد من بعض القوى المؤثرة لم يكتفي باللجوء إلى حل الجمعيات السياسية الثلاث (امل ، الوفاق، وعد) والذي ساهم في خلق أجواء إحتقان متفجرة لم تكن البلاد مستعدة أو مهيئة آو محتاجة لها، فلجأ الى زيادة التوتر عبر إجراءات الحل، وخطوات التضييق السياسي التي جاءت في مسارات مغايرة جداً ومضادة لدعوات العمل المشترك والإنفتاح السياسي التي كانت سائدة في البحرين طوال حكم جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه.
ودون شك فإن أحداث ما سُمي بالربيع العربي ظلماً وزوراً وتجنياً على الأمة العربية، كان لها الأثر البالغ في إحداث ردات فعلٍ عنيفة تفاعلاً مع ما شهدته الساحة العربية من تظاهرات وتجمعات جماهيرية منفلته في كثيرٍ من الأحيان، وكان الوضع يتطلب من السلطات إتخاذ القرارات القادرة على إمتصاص الغضب والإنفعالات والإنفلاتات غير المحسوبة، وكان يجب أن يكون الإحتواء والتفهم أكبر بكثير مما شهدته الأوضاع حينها، خاصة مع تمتع الدولة بكثير من الخبرة والحنكة السياسية التي تستطيع توظيفها لتنفيس الإحتقانات والغضب الجماهيري المنفلت تحت موجات التحريض الموجه من قوى إستعمارية وإمبريالية معروفه.
لقد كانت السلطات العربية والبحرينية على راسها قادرة على إعادة إحتواء وتوجيه الغضب الجماهيري باتجاه إيجابي، دون أن تصل البلاد التي انطلقت فيها دعوات التمرد وشعارات (الشعب يريد اسقاط النظام) إلى حدود معارك كسر العظم وإحداث القطيعة التامة مع التيارات والجمعيات السياسية التي كان يمكن إعادة استيعابها بالحوار تارة وبالوساطات الحكيمة من العقلاء تارة اخرى،
لكن الخيارات الأمنية والسياسية الحادة في البحرين ذهبت للأسف باتجاه الحل والمنع الذي عطل جزءاً كبيراً من الحياة السياسية.
وهنا نجد أن تسوية هذا الخلاف وفك الإشتباك لم يكن يستدعي الإقدام على تعديل المرسوم بقانون رقم 14 لسنة 2002 بشأن مباشرة الحقوق السياسية (خلال الفصل التشريعي الرابع 2014 - 2018 ) ، كما لم يكن يستدعي التعديل بقانون رقم 30 لسنة 2002 على قانون الجمعيات الاجتماعية والاندية رقم 21 لسنة 1989 (اعتمده مجلس النواب والشورى في الفصل التشريعي الخامس2018 - 2022) وما ترتب على ذلك من حل ثلاث جمعيات سياسية وما سيترتب عليه من تفريغ بقية الجمعيات السياسية القائمة من الكوادر والعناصر النشطة التي ستصاب بالرهاب والخوف من استهداف أرزاقها وفرصها في الحياة العامة.
لقد كان ممكنا أن تسعى الحكومة الى استيعاب الخلاف السياسي مع الجمعيات الثلاث (أمل، وعد، الوفاق) بشكل هادئ عبر حوار مباشر أو من خلال الوسطاء الحريصين على تسوية الأمور بهدوء وسكينة حفاظاً على اللحمة الوطنية والنسيج المجتمعي الوطني، كما أن الدولة كانت تمتلك الكثير من الخيارات البديلة عن الحل والتضييق على الجمعيات السياسية المنحلة والقائمة، مثل المطالبة بتصحيح مسارات هذه الجمعيات بما يتوافق مع مطالب وخطوات وايقاعات الدولة الاصلاحية ، أو اللجوء الى خيارات تغيير مجالس إدارات وقيادات هذه الجمعيات الذي تتيحه القوانين، وحتى توقيفها أو تجميدها لفترة معينة.
بمعنى آخر كانت الخيارات التي ذهبت إليها السلطات السياسية في البلاد مستعجلة نوعاً ما، فلقد كان بإمكان الجهات المعنية اللجوء الى معالجات أكثر حكمة تحافظ على وهج العمل السياسي المنظم الذي سارت عليه البحرين منذ إطلاق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظم، بدل الإطاحة بهذه الجمعيات التي تمتلك تيارات سياسية وفكرية وجماهيرية وازنة، كما كان بالأمكان استيعاب هذه الكوادر السياسية المنظمة والاستفادة منها في دعم التجربة السياسية الفتية في البلاد.
لكن الجهات المعنية وعوضاً عن توظيف خبراتها الكبيرة في إعادة تقويم ما تعتقده إعوجاجاً في الممارسة لدى الجمعيات السياسية المنحلة بحكم المحكمة والجمعيات السياسية القائمة التي تتعرض للتضييق والتهميش من خلال التعديل الاخير،
لجأت الى التعسف في ممارسة الحق القانوني والتشريعي ولجأت إلى الحل والتضييق، وزاد عليه توسيع دائرة ردة الفعل وتعميمها لتشمل منع المنتمين للجمعيات السياسية بصورة قاطبة من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية.
وهو ما لم ينص عليه التعديل الذي أجراه مجلس النواب بشان قانون مباشرة الحقوق السياسية والذي اقتصر تعديله على منع قيادات الجمعيات السياسية المنحلة فقط من حق الترشح لانتخابات مجلس النواب.
ما لبثت أن تدافعت مختلف الجهات والوزارات المعنية بالشان العام إلى تعديل الأنظمة والقوانين التي تنظم عمل الجمعيات والمؤسسات التي تعمل تحت إشرافها باتجاه منع أعضاء الجمعيات السياسية من حق الترشح لمجالس إدارات هذه الجمعيات، وهكذا تم منع عدد كبير من الكوادر والكفاءات من حق العمل في ميادين العمل الخيري، الاجتماعي، الثقافي، الرياضي، الشبابي، النسائي في سابقة تشبه قرارات إجتثاث الأحزاب في الدول التي سقطت فيها أنظمة سياسية قائمة وحلت بديلاً عنها أنظمة سياسية جديدة تحمل من الضغائن والأحقاد ما لا يمكن تجاوزه.
والحال أننا في البحرين نمتلك نظاماً سياسياً مستقراً ومتمكناً، تمتد تجربته السياسية في الحكم إلى أكثر من 200 عاما، ولديه من التجربة والخبرة والدراية والمستشارين السياسيين ما يؤهله إلى تجاوز هذه العقبات أو الخلافات مع الجعيات السياسية، وفي سبيل استعادة الأمل ليس أقل من التراجع عن خطوات منع وعزل النشطاء السياسيين عن الترشح للجمعيات والمؤسسات الأهلية.
إننا نتطلع إلى تدخل جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه للتوجيه بتعديل هذه المسارات التي من المحتم بأنها ستقود إلى قتل العمل الأهلي ومؤسسات المجتمع المدني في البحرين التي تمتد لأكثر من نصف قرن من الزمان ، بعد أن زاد التوجس والقلق لدى النشطاء بصورة عامة، وتوقفت الدماء الجديدة عن الانتماء لمعظم الأعمال والمنظمات المجتمعية، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو تطوعية، مخافة أن ينسحب ذلك على مستقبلها ومستقبل حقوقها المدنية.
من هنا فإننا نتطلع إلى الصدر الرحب والأفق الواسع والحكمة الأصيلة التي يتمتع بها جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين المعظم حفظه الله ورعاه لإصدار توجيهاته الحاسمة بمعالجة هذا الملف برفق ورعاية وعناية من أجل إستعادة تفعيل الحياة السياسية في البحرين بما يليق بتاريخ وتجربة البحرين وشعبها والأمل كبير في استجابة جلالته.