بقلم : محمد حسن العرادي
فجأة وبدون مقدمات تخيلت لو أن الله قد خلقني فلسطينياً، وتساءلت ترى كيف ستكون حياتي وماذا ستكون أمنياتي، وكانت أول الصدمات التي واجهتني، كيف سأقاوم من جاءوا من شتات هذا العالم ليصادروا أرضي وهويتي ويقتلعوا أسرتي وأحبتي من مساكنهم وبياراتهم، ليُلقوا بنا جميعاُ على حدود بلادنا مطرودين بدون جوازات سفر وبدون زادٍ أو زواد.
لكن حيرتي ازدادت حين فكرت في طريقة تعامل البلاد التي سننقل إليها قسراً، كيف سينظرون إلينا، هل سيتعاملون معنا بتعاطف أم سينظرون لنا بشك وريبة وحذر، هل سيسمحون لنا بأن نجد بيوتاً تحتوينا وتضم أسرنا، واذا حدث ذلك من أين لنا أن نطعم أولادنا وبناتنا وكيف سنتحمل تكاليف معيشتهم، ونحن بدون مصادر رزق؟
وبينما أنا أفكر في ذلك حيراناً لمعت في بالي فكرة بأن هذه البلاد الشقيقة ستتكرم علي وعلى من أبعدوا معي من فلسطين بقطعة أرض نائية عن العمار والمدنية والإستقرار، ويقولون لنا سنسمح لكم بالمكوث مؤقتاً في هذه الأرض، تمعنت جيداً في تلك البقعة التي زُوينا فيها، فوجدتها بدون ماء أو كهرباء وبدون شوارع وبدون أي مقومات للحياة المدنية، تجمعنا أنا والمطرودين معي من بلادنا التي كنا بها آمنين في تلك البقعة الصغيرة.
كان المطرودون بالمئات من الرجال والنساء والبنين والبنات، كان الألم يعتصرنا والقهر يأكل قلوبنا، وتساءل معظمنا ماذا سنفعل، وحين وجدنا الإجابة نشأء المخيم في الشتات، وشرعنا نبني بيوتاً صغيرة وشوارع ضيقة توفر لنا الأمن الاجتماعي الذي افتقدناه منذ سلبت أرضنا، ولم نكن نعلم كم سنلبث في هذه الغربة الاجبارية، لم نكن نملك المال ولا المواد لإقامة تلك البيوت المزدحمة المكتضة بساكنيها، لكننا تكدسنا فيها، كما يحشر السمك في علب السردين، بعضنا سكن الخيام ظناً منه بأنها مجرد أيام ونعود، لكن أغلبنا إستعان بما وقع بين أيدينا من أحجار وأشجار وقماش وأقمنا مخيمنا الأول في دولة عربية مجاورة.
ثم تسارعت وتيرة الإبعاد والطرد والاقتلاع من أرضنا فلسطين، وإزداد عدد المهجرين واللاجئين الهاربين من الذبح والبطش الصهيوني الإرهابي، فجاء معنا الكثير ممن نعرفهم والكثير ممن لا نعرفهم أيضاً، وبينما نحن نتعارف وجدنا بيننا من يحملون الأسى ويطلقون الحسرات والتنهيدات على ما آلت اليه أحوالنا، تعرفنا على من لديهم القدرة على الرواية وكتابة الحكاية.
وهكذا إنتقلنا من عالم الإستقرار إلى عالم من التهجير والفرار، هنالك إنفجرت القلوب شِعراً وأدباً وغناءً حزيناً استخدمنا فيه الناي كثيراً، وكانت النغمات والألحان الحزينة تذكرنا بالمواجع والفواجع التي لقيناها في وطننا عندما هاجمنا الصهاينة الأنذال واقتلعونا من جذورنا وبيئتنا.
قُلنا لأنفسنا إن هي إلا أياماً، أسابيعاً، شهوراً، وربما سنواتٍ ونرجع إلى بلادنا الحبيبة فلسطين، حيث التين والزيتون والبرتقال والتفاح والنخيل، لكن سنوات غربتنا وتهجيرنا طالت، ومشاكلنا تناسلت وأنتجت مشاكل أكثر تعقيداً، في الغربة توالدنا وتكاثرنا ونشأت بيننا أجيال جديدة لم ترى أو تشاهد فلسطين، لكننا نقلنا لهم التجربة فصاروا يحفظون التضاريس أكثر منا ويتقنون اللهجات أفضل عنا، ويتغنون بحبها إشتياقاً ولوعة لا تنتهي.
وهكذا تكرس اللجوء وأصبحنا مجتمعاً من اللاجئين المنتشرين في كل أرجاء المعمورة، حينها بدأ بعض من دول العالم يلتفت إلينا، ويتعطف علينا في أماكن اللجوء التي دُفعنا إليها وفيها تمت محاصرتنا ونكاد ندفُن فيها أيضاً، وهكذا نشأت منظمة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فقامت توزع علينا قليلاً من المواد الغذائية والاحتياجات والبطانيات والمحارم والخيام والأدوية، وفتحت لنا المدارس والمراكز الصحية، مدعية بأنها توفر لنا الحماية، لكنها كانت تكرس حالتنا كلاجئين خارج وطننا.
في غمرة التفكير التي إنتابتني قلت لنفسي، كيف إستطاع هؤلاء الفلسطينيين أن يعيدوا ترميم ذاكرتهم ويحموا تاريخهم، وأن يحافظوا على هويتهم، ويحفظوا بيئتهم ويحملوا مفاتيح بيوتهم معهم أينما ذهبوا، يتناقلونه جيلاً بعد جيل، معهم نقلوا عاداتهم وتقاليدهم ولهجات مناطقهم، وهم يرتحلون من بلد إلى بلد حتى أصبحوا بالملايين، منتشرين في كل الدُنيا، يحملون قضيتهم بين ضلوعهم، يطالبون بالعودة بإعتبارها حق أصيل لهم، ما أعظم هذا الشعب الذي إستطاع أن يصنع هذه المعجزة، معجزة البقاء والصمود.
ترى ماذا كنت سأعمل لو خلقني الله إنساناً فلسطينيا، هل يتوقع مني هذا العالم أن أرضخ للواقع البائس الظالم الذي صادر حريتي وحقوقي، هل كُنتُ سأتقبل أن يأتي شذاذ الافاق ليسرقوا بلدي وبيتي وتاريخي ويصادروا هويتي ولغتي ومدينتي وحضاراتي وثقافتي، حتى أُصبح لاجئاً فوق أي أرض لا أنتمي إليها.
ترى كيف سأتعامل مع بعض العرب الذين وقعوا اتفاقيات التطبيع مع الصهوني الذي أنتهك حقوقي وصادر ارضي ووطني، كيف ساتقبل التعامل مع هؤلاء السراق المجرمين، وكيف سانظر لاشقائي الذين يعتبرونهم جزءاً من الانسانية، كتمت ألمي في قلبي وقلت حقاً بأن هذا الشعب الفلسطيني البطل شعب الجبارين، ولابد بأنه عائد إلى وطنه فلسطين، والله من وراء القصد، للقصة بقية