بقلم محمد حسن العرادي
شهدت البحرين في حقبة التسعينات إحتقانا سياسياً وإجتماعياً حاداً خشي كثيرون أن تنزلق من خلاله البلاد الى أتون صراعات طائفية لا تبقي ولا تذر، لكن أهل الحكمة والبصيرة من جميع المكونات المجتمعية وعلى رأسها الجانب الرسمي استطاعت أن تخرج البلاد من تلك الأزمة العصيبة.
وكانت ذروة محاولات الانفتاح والبحث عن حلول توافقية قد تزامنت مع بدء المشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك المفدى حفظه الله ورعاه مع بداية توليه مقاليد الحكم في البلاد في 6 من مارس 1999، وادى ذلك الى تبلور الرؤية الإصلاحية التي آذنت بانفراجات حقيقية توجت بتبييض السجون وعودة المبعدين والغاء قانون ومحكمة امن الدولة، فأصبحت البحرين آنذاك عروس التوجهات الإصلاحية ورائدة في التسامح والعفو والحريات، الأمر الذي اتاح هامشاً واعداً ومساحة واسعةً من الفرج والرضا والانفتاح لدى جميع المواطنين لم تألفه البحرين منذ أكثر من 100 عام.
لقد استطاعت البحرين في تلك الفترة أن تعبر الأزمة المريرة وتتجاوز التصدعات والتداعيات الطائفية والإجتماعية بتوافقات اجتماعية لافتة، وهكذا أبحرت سفينة الإصلاح تشق أمواج البحر العاتية بسهولة ويسر فكانت بلادنا أيقونة جميلة للإنفتاح والإصلاح على المستوى العربي وحالة إيجابية يضرب بها المثل على المستوى العالمي، خاصة في وقت تراجعت فيه الحريات في العديد من دول العالم في أعقاب هجمات سبتمبر 2001 في الدول العربية.
لقد عشنا عقداً ذهبياً لم نعرفه من قبل ، لكننا أثبتنا من خلال بدء الحراك الديمقراطي السلمي بأننا على قدر كبير من المسئولية والإستعداد لممارسة الحياة الديمقراطية والسياسية الناضجة، الأمر الذي قاد العديد من التيارات والتنظيمات السياسية الى إنهاء حالة العمل السري الذي ساد الحقب الزمنية والتاريخية السابقة بكل ما فيها من صدامات واختلافات، فتوجه الجميع لممارسة العمل السياسي العلني وفق القوانين والأنظمة المستجدة التي وضعتها الدولة نفسها لتسهل عملية التحول الديمقراطي وتستقطب الجميع للعمل العلني، وهكذا بدأ تنظيم سير العمل السياسي، انطلاقاً من الموافقة على تأسيس جمعية العمل الوطني الديموقراطي - وعد بقيادة الراحل الكبير المناضل المهندس عبدالرحمن النعيمي العائد من المنفى بعد 33 عاما من الغربة والهجرة القسرية.
ولم يتردد الرجل المحنك في التقاط اللحظة السياسية التاريخية الفاصلة في حياة البحرين فاعلن على الفور تجميد نشاط وفعاليات الجبهة الشعبية في البحرين كونه الأمين العام للجبهة حتى عودته الى البحرين في فبراير 2001 ، وقال عبارته الشهيرة (لقد وضعنا الجبهة في الثلاجة)، وكانت تلك الخطوة بمثابة مبادرة ذاتية تحمل من حسن النوايا والرغبة في تعزيز الثقة في العهد الجديد الذي ارسى دعائمه جلالة الملك المفدى حفظه الله الكثير، وقد قام ذلك على قاعدة صلبة تمثلت في الإقبال المشهود على التصويت بالموافقة على الميثاق بنسبة 98.4% من المشاركين في الاستفتاء.
وحين بدأ مشوار تأسيس الجمعيات السياسية المعبرة عن التيارات الفكرية المتنوعة، استبشر الجميع خيراً وبدى أن هناك فرصة نادرة لإطلاق حوارات فكرية متعددة الأقطاب و البدء بتأسيس حياة سياسية جديدة ذات مسارات مختلفة يستطيع المواطن من خلالها اختيار الإطار والتيار الذي يتناغم مع أفكاره وتطلعاته، وكانت أجهزة الدولة السياسية والأمنية تراقب المشهد والتحركات التي يقوم بها النشطاء بكل حرية وعلانية دون الحاجة الى العمل السري والخلايا الحزبية المستترة.
ورغم مقاطعة بعض القوى السياسية الفاعلة للعملية الإنتخابية في العام 2002، الا ان هذه القوى تراجعت عن موقف المقاطعة وانخرطت في العمل البرلماني بكل قوة وفاعلية وايجابية من خلال المشاركة الكثيثفة في الانتخابات النيابية 2006، بهدف المساهمة في تعزيز التحول الديمقراطي والانفتاح السياسي وسعيا منها للمشاركة في تطوير التجربة الفتية الواعدة، وهكذا تكرر هذا المشهد الايجابي عبر المشاركة الكبيرة في انتخابات العام 2010 وكان ذلك تأكيداً على أن الجميع يتطلع إلى المساهمة والاشتراك في انجاح هذه التجربة الديمقراطية المتميزة بكل قوة فما الذي حدث بعد ذلك؟
لقد جاء عام 2011 برياح الثورات الملونة المصطنعة و المفاجئة بعد عقدٍ واحد فقطٍ من عودة التجربة الديمقراطية التي انقطعت على مدى 30 عاماً تقريباً، وقاد ذلك الى تحول هذه الثورات او الحراكات المشبوهة التي تقف خلفها أيدي خفية الى خلط كبير للاوراق واحداث فوضى عارمة دفعت فيها وصبت لإشعالها الكثير من الأموال ونفذت العديد من الخطط والبرامج الشيطانية لتحريك الناس واحداث الصدامات، وساهمت في ذلك الأجهزة الاستخباراتية والأمنية والسياسية العالمية ذات القدرات الهائلة على تحريك الوسائل الاعلامية والمنصات الاجتماعية المتمكنة بهدف خلق الرأي العام المضاد للانظمة المستقرة فتفجر الغضب وانفعالات الجماهير وخلطت الاوراق بشكل لم يتمكن احد من السيطرة عليه، وكنتيجة لضعف التجربة السياسية في البحرين وقصر عمرها آنذاك فقد وقعنا جميعاً في براثن وشباك - ما سُمي بالربيع العربي- والذي كان يدار عن بعد من خارج منطقتنا العربية بأيادي سيئة النوايا والمقاصد كما اسلفت.
لقد كانت البلدان العربية التي تعرضت لموجات الفوضى الشاملة ضحايا تم التخطيط للزج بها في أتون المحرقة مع سبق الإصرار والترصد منذ سنوات طويلة، وقد يقول قائل من المشككين ما هو الهدف من ذلك خاصة أن الدول التي شهدت الحراك السياسي الجماهيري الفوضوي والعنيف هي الأكثر فقراً بين الدول العربية،
وهنا يتكشف الجواب واضحاً وجلياً، فلقد تم التلاعب بعواطف المكونات الاجتماعية المختلفة وخاصة الأقليات في هذه البلدان من خلال دغدغة تطلعاتها للمشاركة في الحياة الديمقراطية التي تحقق العدالة الإجتماعية، والرغبة في المشاركة بشكل أوسع مع أنظمة الحكم في مجال إدارة شئون الدولة، وقد قامت جهات مشبوهة باستغلال هذه التطلعات التي تستند الى فلسفة تعزيز المشاركة الديمقراطية مع الأنظمة التي تحكم وتدير هذه الدول من اجل اشعال الفتنة والاقتتال بين مكونات هذه الدول وانظمتها.
لقد كان الهدف من الثورات الملونة التي اطلقت بفعل فاعل هو الإبتزاز السياسي وإضعاف الأنظمة العربية ومن ثم إشغالها بفوضى مجتمعاتها وبالاقتتال الداخلي وبين بعضها البعض، بحيث يتم استكمال تقسيم المقسم والقضاء على الدول العربية الكبرى في المنطقة، من أجل أن تكون دولة الكيان الصهيوني (اسرائيل) هي الدولة الأكثر تماسكا وقوة والحاكم الفعلي للمنطقة والوكيل الحصري للقوى الاستعمارية العالمية.
وهكذ تم تدمير العراق وسوريا وليبيا وتهديد الأمن والاستقرار في مصر والعديد من الدول العربية وإدخالها في فوضى شاملة، أما البحرين فقد كان يُراد استغلال التنوع الثقافي والاجتماعي الذي تتميز به لإثارة الفوضى والاشتباك الطائفي ومن ثم توجيه رسائل تهديد قوية للدول العربية المجاورة والغنية لتكون أكثر طواعية وانقياداً للمشروع الإمبريالي لتهيئة الطريق للسيطرة الصهيونية دون اي معوقات او صعوبات.
وللأسف فقد سقط كثير من أهل البحرين في حبائل هذه اللعبة السياسية العالمية القذرة، ووقعنا جميعاً تحت تأثيرات لوبيات الإعلام المضلل والحملات المشبوهة حتى ضاقت بنا السبل وتخبطت بنا الدروب وكدنا نضيع إلى الأبد لولا أن انكشفت الغمة، وعرفنا باننا كنا جزءاً من لعبة سياسية اكبر منا بكثير، ورغم هذا لم نستطع التراجع واصلاح ما أفسدته سنوات الخراب والدمار والفتن، فوجدنا أن وطننا قد إنغمس أكثر في وحل الصراعات والتعصبات البغيضة والعنيفة، وإننا خسرنا الكثير من الثقة التي كسبناها وبنيناها بين أبناء الوطن والنظام في مملكة البحرين مع بداية العهد الاصلاحي.
لقد كان الجرح غائراً والمأساة فاجعة ويصعب معالجتها بسهولة او التئامها سريعا رغم اتضاح الصورة، ومع استمرار تداعيات الأزمة والتخندق السياسي الذي تحول طائفياً في بعض مساراته غير الواعية والتي زادت وفاقمت الكلفة على كافة الأصعدة، وهكذا عادت السجون الى الاكتضاض بالعديد من ابناء الوطن وهاجر كثيرا منهم خوفاً من الملاحقات او طمعاً في مزيد من الأمن والأمان أو لهاثا وراء وعود براقة من هذا الطرف او ذلك ولم يلبث ان ثبت زيف اغلبها.
وهكذا تفاقمت الأزمة الأمنية والتداعيات السياسية حتى وصلت الى مقاطعة الانتخابات التكميلية في العام 2011 بعد ان إستقال 18 نائباً بحرينياً تحت ضغط الشارع الغاضب والمتفجر في اعقاب حراك فبراير 2011 ، وتلى ذلك مقاطعة انتخابات 2014، الأمر الذي ضاعف المشكلة فاستعصت الحياة السياسية على العودة وتم حل الجمعيات السياسية النشطة فاختلط الحال وأصبح الاستقرار بعيد المنال.
وللحديث بقية ..