بقلم محمد حسن العرادي
كإحدى نتائج العدوان الصهيوني على لبنان في العام 1978 أصبح التنسيق بين حزب الكتائب اللبنانية والعدو الصهيوني، علامة فارقة في تاريخ المنطقة ومؤشراً على مسارات خطيرة تقود لبنان إلى الاقتتال الداخلي، واستمرار الحرب الأهلية التي اشتعلت في العام 1975، وأدت إلى تدمير ذلك البلد العربي الجميل الذي كان قبلة السياحة والمصيف المفضل في البلاد العربية.
كان بشير الجميل ابن الشيخ بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب اللبنانية هو الحصان الأسود الذي تراهن عليه (اسرائيل) وتقوم بأعداده جيداً للصعود إلى سدة الرئاسة في الجمهورية اللبنانية التي كانت تعاني الأمرين من تداعيات الحرب الأهلية التي قسمت البلاد بين معسكرين متقاتلين، قوى اليمين التي تقودها الجبهة اللبنانية بزعامة حزب الكتائب اللبنانية وحلفاءه المسيحيون والموارنة منهم على وجه الخصوص باعتبارهم الطائفة الأبرز والأكبر والأقوى المعهود لها بحصة الرئاسة ضمن التوزيع السياسي القائم على المحاصصة بين الطوائف الرئيسية في لبنان.
وكان بشير الجميل متعطشاً للدم بطبعه، ومعتاداً على ارتكاب المجاز التي اتخذها طريقاً لفرض سيطرته وبروز نجمه في الوسط السياسي الماروني، بغية تنصيب نفسه زعيماً مارونياً أوحداً بدون منازع، الأمر الذي دفعه لتدبير مجزرة لتصفية تيار الأحرار للتخلص من قوة ومنافسة داني كميل شمعون ، ومجزة تيار المردة التي صُفي فيها طوني سليمان فرنجية وزوجته (والد الزعيم المسيحي الحالي النائب سلمان فرنجية)، رغم أن الأحرار والمردة كانوا الشركاء الأهم لحزب الكتائب اللبنانية في ما كان يعرف بالجبهة اللبنانية التي خاضت الحرب الاهلية ضد الجبهة الوطنية.
ومن المهم هنا أن نتذكر بان العداء بين مكونات الجبهة اللبنانية لم يكن شخصياً بقدر ما كان صراعاً على الزعامة (قيادات وغالبية زعامات هذه التيارات مارونية الانتماء ومؤهلة للتنافس على منصب الرئيس)، لذلك حرص بشير الجميل على تصفية المنافسين الموارنة وكان يساعده في إعماله القذرة فريق مشكل من 12 عسكري مليشاوي- دربتهم اسرائيل- كان ابرزهم سمير جعجع وإيلي حبيقة وآخرين من اليمين الماروني المتطرف، هذا الفريق هو الذي قاد عمليات التصفيات ودعم التنسيق والتواصل مع الجيش والقيادة (الاسرائيلية) الصهيونية وخاصة وزير الدفاع ارئيل شارون ورئيس الأركان رافائيل ايتان.
وعلى المقلب الآخر ..
تولّى بشير الجميل قيادة الجناح العسكري للكتائب منذ اندلاع الحرب الأهلية في مواجهة الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وعندما إحتاج إلى الدعم السياسي والعسكري كانت (إسرائيل) الخيار الأول والمفضل لديه، ولتلميع صورته أمام الصهاينه عمدت قواته الى ارتكاب مجزرة تل الزعتر، حيث قُتل المئات من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، وهكذا اصبح الرجل مهيئاً أكثر ليكون شريكاً مناسباً في نظر الاسرائيليين وحاكماً مفضلا للبنان.
وتحت المدافع الصهيونية وعلى وقع الاجتياح المروع للقوات الإسرائيلية للبنان بقيادة وزير الحرب الصهيوني ارئيل شارون الذي احتل العاصمة بيروت وحولها إلى ثكنات عسكرية، تم أجبار 62 من أعضاء مجلس النواب اللبناني على حضور انتخابات صورية للرئاسة في 23 أغسطس 1982، فحصل بشير على 57 صوتاً من الحاضرين ليصبح رئيساً للجمهورية تحت وقع الدبابات الصهيونية، وبحسب الترتيبات كان عليه أن يبرم سريعاً اتفاقاً للسلام مع الصهاينة إلا أنّه أُغتيل في 14 سبتمبر 1982 بواسطة أحد المنتمين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي قبل أن يستلم المنصب رسمياً وذهب الحلم الصهيوني إلى المزبلة، وعندما خلفه أخوه الرئيس امين الجميل حاول إتمام الاتفاق مع الصهاينة لكن القوى الوطنية اللبنانية وخاصة حركة امل، تصدت للاتفاق المشئوم وأسقطته بتاريخ 17 أمايو/أيار 1983.
وبعد اغتيال بشير الجميل مع عدد كبير من القيادات السياسية والعسكرية لحزب الكتائب اللبنانية، كانت اولى التداعيات الاستعجال في ارتكاب مذابح صبر وشاتيلا التي كان قد اتفق هو نفسه مع المجرم ارئيل شارون على ارتكابها بعد التخلص من قوات منظمة التحرير الفلسطينية ورحيلها مباشرة، من أجل تهجير ما تبقى من الفلسطينيين تحت هاجس الخوف من المجازر، تكراراً لمشهد المجاز الصهيونية في فلسطين المحتلة عام 1948، وقد تولت ميليشيات الكتائب اللبنانية التي دربها ومولها الجيش الاسرائيلي وزودها بالأسلحة والذخائر، تنفيذ المذبحة التي راح ضحيتها ما يقدر بين 700 - 3500 لاجئ فلسطيني ومواطن لبناني يقيمون في مخيمي صبرا وشاتيلا خلال الفترة 16-18 سبتمبر 1982، إبان سيطرة الجيش الصهيوني على العاصمة اللبنانية بيروت.
لقد وفر الجيش الصهيوني كل الدعم اللوجستي للمليشيات الارهابية التابعة لحزب الكتائب اللبنانية لارتكاب المذبحة تحت حماية الإسرائيليين الذين طوقوا المخيمين فور اغتيال بشير الجميل، وأفسحوا المجال للقتلة باغتيال الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، ولم ينجو من المذبحة سوى اولئك الذين لم يكونوا بالمخيمين أو تمكنوا من الاختباء أثناء ارتكاب المذبحة الدموية البشعة.
ورغم وجود الكثير من الشهود الأحياء الذي عايشوا التفاصيل المروعة لهذه المجزة وفقدوا احبتهم من الابناء والاشقاء والزوجات والأصدقاء، الا ان الجُناة والمجرمين لم يقدموا للمحاكمة ولم ينالوا جزائهم العادل، رغم مرور 40 عاماً على ارتكاب المذبحة المروعة، بل إن كثيرا من المجرمين قد أصبحوا وزراء وسياسيين كبار ورؤساء احزاب، بعد أن كانوا أمراء حرب ساهموا في تدمير لبنان وزرعوا العديد من العملاء والجواسيس الذين يعملون لصالح (اسرائيل).
والغريب اننا بعد أربعة عقود من الزمن، لا نزال نعيش ذات المشهد التنافسي الدموي في لبنان، بين فرقاء يرى بعضهم الخلاص في الاتفاق والسلام مع الصهاينة، ويرى آخرون ان لبنان قادر على فرض معادلات جديدة تجبر العدو الصهيوني على الرحيل عن الارض اللبنانية كما حدث في مايو 2000، والانتصار عليه كما حدث في يوليو/ اغسطس 2006، ويبقى السؤال، أي من الرؤيتين ستتغلب على الأخرى، ذلك ما ستجيب عليه الأيام القادمة.