بقلم : محمد حسن العرادي
يخطئ من يعتقد بأن النجاح في العمل السياسي عبر المسارات الديمقراطية المختلفة يعني الغاء الاخر واخراجه من الساحة السياسية بالقانون او بغير القانون، بل ان هذا النوع من الاجراء يكون أساس ضعف وتعثر العملية السياسية، ودون شك فان التنافس السياسي عبر تزاحم البرامج والانشطة السياسية والحزبية هو الذي يساهم في تطوير التجارب الديموقراطية ويحدد نجاحاتها.
لقد شهدت البحرين خلال العقود المنصرمة تجارب سياسية غير مكتملة بفعل النفس الإقصائي الذي مارسته بعض الجهات المسئولة التي كانت تضيق بالراي الآخر، وتلجأ الى أقصر الطرق وابسط الوسائل لاقصاء المختلفين معها من أجل أن يخلو لها الجو فتتسيد المشهد السياسي وربما اللجتماعي ايضل، وهذا يعكس بصورة واضحة تدني التربية والوعي السياسي لدى كثير ممن وجدناه يطفو على سطح المشهد السياسي في العهد الاصلاحي والكثير منهم تناثر واختفى مثل زبد البحر.
وهنا نحتاج الى تحليل ابرز الخطوات الخاطئة بل الكارثية التي اتخذت لتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية (المرسوم القانون رقم 14 لسنة 2002) من خلال التعديل الجذري القسري للمادة الثالثة من المرسوم المذكور ،
فجاء القانون رقم 25 لسنة 2018 في نهاية دور الإنعقاد الرابع من الفصل التشريعي الرابع ( 2014- 2018) ليضع المزيد من العراقيل امام تطور العملية الديمقراطية في مملكة البحرين.
لقد جاءت تلك التعديلات المتعسفة تحت عناوين المنع الشامل لتعبر عن ضيق افق بوجهات النظر الأخرى، وكأن من ساهم في تشريعها لم يكتفي بصدور الأحكام القضائية الحاسمة التي أدت الى حل الجمعيات السياسية المعارضة (جمعية العمل الاسلامي، جمعبة الوفاق الوطني الاسلامية، جمعية العمل الوطني الديمقراطي - وعد)!
بل عمد الى مسح هذا الجمعيات والاحزاب من الوجود ونظر لازاحتها من على وجه الأرض وعرقلة عودتها الى ساحة العمل السياسي بأي شكل من الأشكال وتحت اي ظرف من الظروف مغلقا بذلك الباب أمام أي محاولة يمكن أن تؤدي معالجة قرارات المنع والسماح بعودتها لميدان العمل السياسي، وقد ضرب هذا القرار العملية السياسية برمتها في مقتل وأفرغها من كثير من أهدافها الاصلاحية المعدة لتفعيل الحراك السياسي الايجابي .
وبالعودة الى التعديل على المرسوم بقانون (مباشرة الحقوق السياسية) نجد ان المادة الأولى من القانون رقم 25 لسنة 2018 نصت على التعديل التالي:
ويمنع من الترشيح لمجلس النواب كلٌّ من:
1- المحكوم عليه بعقوبة جنائية حتى وإن صدر بشأنه عفو خاص عن العقوبة أو رُدَّ إليه اعتباره.
2- المحكوم عليه بعقوبة الحبس في الجرائم العمدية لمدة تزيد على ستة أشهر حتى وإن صدر بشأنه عفو خاص عن العقوبة.
3- قيادات وأعضاء الجمعيات السياسية الفعليين المنحلة بحكم نهائي لارتكابها مخالفة جسيمة لأحكام دستور المملكة أو أي قانون من قوانينها.
4- كل من تعمد الإضرار أو تعطيل سير الحياة الدستورية أو النيابية وذلك بإنهاء أو ترك العمل النيابي بالمجلس أو تم إسقاط عضويته لذات الأسباب.
واذا كان من الممكن تفهم السياقات التي جاءت بها النقاط 1،2 من هذا التعديل باعتبارها تتصل بصورة مباشرة بالأحكام القضائية وتنفيذها وبشكل فردي، فان النقاط 3، 4 لايمكن تفسيرها الا ضمن سياق الضيق بالتجربة الديمقراطية وبأصحاب الرأي الاخر أو أي رأي مختلف على الإطلاق، والسعي لاقصائهم وشطبهم من الحياة السياسية، الأمر الذي كان كفيلاً بعرقلة تطور العملية الديمقراطية وهي لبُ وأداة التطور الأساس والتي انطلق منها المشروع الاصلاحي لجلالة الملك المعظم منذ تم الاستفتاء على ميثاق العمل الوطنيفي العام 2001.
وبالعودة الى النقطة 3 من المادة الأولى للقانون رقم 25 الذي عدل المرسوم بقانون (مباشرة الحقوق السياسية) سنجد ان النص المذكور من النوع المرتبك الذي يوحي بوجود عوار دستوري وقانوني كبير يعبر عن استسهال اتخاذ قرار اقتلاع فئة كبيرة من المواطنين وحرمانهم من حقهم الدستوري ومنعهم من ممارسة الحق في الترشح لمجرد ان هناك حكماً قضائياً صدر بحل الجمعية السياسبة التي انتموا اليها رغم أن تشكيلها جاء وفق القانون والنظم الاجرائية المتبعة في هذا الشأن .
وبمعنى أكثر وضوحاً فان هناك فرقاً كبيراً بين الحكم بحل الجمعية السياسية الذي هو (حق للقضاء) وفق القرائن والأدلة المتوفرة لدية، وللجمعيات المنحلة بحكم قضائي الحق بالدفع بعدم قانونية الحل ايضا ان هي ارادت ذلك، وبين الحكم بحرمان المواطنين المنتمين الى هذه الجمعيات السياسية من حقوقهم السياسية التي اقرها ونص عليها الدستور او من بعضها كما هو في هذا الحكم.
لقد شهدت كثير من دول العالم أحكام قضائية بحل أحزاب سياسية لأسباب مختلفة وبعض الأحكام حملت زعيم الحزب المنحل مسئولية جنائية قضت بحرمانه من حق العمل السياسي لفترة محددة كما حدث مع الرئيس التركي طيب رجب اردوغان الذي حرم من العمل السياسي لمدة خمس سنوات ثم عاد ليتزعم حزبه من جديد ويصبح رئيس وزراء ثم رئيسا للدولة، لكننا لم نشهد أبداً سابقة إصدار احكام قضائية تحرم جميع المنتمين للأحزاب المنحلة من الحق السياسي والانتخابي
تحديداً .
حتى ان الأحكام التي صدرت باجتثاث احزاب السلطة قي بعض البلدان كما جرى لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق وحركة الإخوان المسلمين في مصر فان العقوبات والمنع ذهب باتجاه الأحزاب ككيانات اعتبارية والعمل الحزبي الذي تمارسه هذه الكيانات وليس باتجاه حرمان الافراد انفسهم من الحقوق الدستورية.
وبحسب كافة القوانين والفقه الدستوري العالمي فإن العقوبة تكون فردية وليست جماعية، لذلك فان الاحكام التي تصدر ضد الاحزاب والجمعيات السياسية تعامل مع هذه الاحزاب باعتبارها هيئات ذات شخصية اعتبارية ، أو تستهدف الشخصيات القيادية في هذه الأحزاب بصفتهم القيادية، ولاتستهدف جميع أعضاء هذه الجمعيات او الأحزاب لكونهم شخصيات طبيعية لكل منهم كينونته ووضعه القانوني الخاص ولا يكون الجمع او الخلط في هذا المعنى.لكن التعديلات التي تمت في قانون مباشرة الحقوق السياسية في البحرين جاءت تعبر بشكل جلي عن الروح الانتقامية والشخصانية والاقصائية التي سيطرت على صياغة التعديل بهدف ابعاد المنافسين السياسيين وحرمانهم من حق اعادة التجمع في أطر سياسية بديلة او حتى ممارسة العمل السياسي الفردي من خلال التقدم للانتخابات البلدية او النيابية كاشحاص طبيعيين.
كما ان النكد والاستهداف السياسي وروح الأقصاء لم تقف عند هذا الحد ، بل تعدى ذلك الى اسقاط هذه الأحكام التي تقضي بالحرمان دون وجه حق على الترشح لمجالس الأندية الرياضية والمراكز الشبابية والجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني بكافة أشكالها وانواعها، وهنا يصدق على هذا القانون لفظة الاجتثاث بأسوأ صوره، وهو في الحقيقة يتجاوز فكرة الاجتثاث المتعارف عليها في الدول الاخرى التي حرمت الكيانات المنحلة من العمل السياسي ولم تحرم الافراد من الحقوق الدستورية.
والغريب ان القانون جاء مفصلاً وكاسراً لعرى الترابط الطبيعي بين (حق الترشح وحق الانتخاب) فمنع الأول وسمح بالثاني في ظاهرة غريبة وخلط للأعراف والقوانين السياسية نراه للمرة الأولى في الأنظمة البرلمانية، فهذين الحقين (الانتخاب والترشح) متلازمين في جميع القوانين والأنظمة الا ان المشرع في البحرين اجاز لنفسه إحداث سابقة الفصل القسري بينهما ليحقق هدفاً واضحاً هو إقصاء المنافسين والمختلفين من الحياة السياسية كمرشحين مع الابقاء عليهم كقوة ناخبة تساهم في رفع نسبة الاقتراع، وهذا لعمري عوار تشريعي وبدعة تحتاج الى من يفسرها او يراجعها ويعيد اصلاحها.
اما المادة ذاتها في الرقم 4 فانها جاءت تصادر حق المواطنين من الإنسحاب وكأنها تقول بان من حق المواطن ان يدخل البرلمان لكن ليس من حقه الخروج منه، وهذا تفسير اغرب من الخيال، لان الحق الدستوري يتمثل في حق الاختيار بين الدخول والخروج والمشاركة والمقاطعة وليست هناك احكام مؤبدة، خاصة وأن الذي يحكم العملية السياسية هو الناخب الذي يحق له اختيار من يراه مناسبا لتمثيله، كما ان اي قوى سياسية من حقها المناورة والتهديد بالانسحاب وممارسة أي تكتيك سياسي لتشكيل ضغوط معينة من اجل تحقيق برامجها.
وقد شهدنا العديد من الأحزاب والقوى السياسية بل والافراد تنسحب من المجالس النيابية لأسباب سياسية وضمن قراءتها للمعطيات للسياسية المتوفرة، ثم تقرر في مرحلة لاحقه ما تراه مناسباً، حدث هذا في لبنان حين انسحبت كتلة حزب الكتائب في أعقاب ثورة 17 تشرين 2020 من مجلس النواب ثم عادت اليه في انتخابات 2022، وحدث هذا في الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان حين قرر تيار المستقبل بزعامة الرئيس سعد الحريري مقاطعة الإنتخابات والانسحاب من الحياة السياسية، لكنه أكد على احتفاظه بحق العودة متى ما راى ذلك مناسبا ، وحدث ذلك في باكستان حين انسحب عمران خان رئيس الوزراء وكتلته النيابية من البرلمان الباكستاني واحتكموا الى الشارع لتشكيل ضغط سياسي يسمح لهم باعادة التموضع وتحقيق برنامجهم واهدافهم السياسية، وعليه فان منع المنسحبين من المجالس المنتخبة من حق الترشح امر غريب وغير دستوري بحاجة الى اعادة نظر.
ويجب هنا أن نفرق بين حق من انسحب طواعية من المجالس المنتخبة في العودة للترشح لها وبين من أسقطت عضويته من هذه المجالس لأسباب قد توجب حرمانه من الترشح مرة اخرى، مع إيماننا بحقه في التظلم واللجوء للقضاء العادل لاستعادة الإعتبار ، ومجددا نقول ان احكام المنع في هذا المجال لايمكن ان تكون ابدية سرمدية وكانها حكم بالإعدام السياسي بصورة جماعية، وما لم تكن العقوبة فردية فانها تصبح عقاباً جماعياً يجب مراجعته ومعالجة الخلل البين فيه.
ويمكننا القول بأن هناك فهما خاطى لدى بعض المشرعين في غرفتي البرلمان البحريني قاد الى اقرار هذه التعديلات المتعسفة ووضع البلاد امام منعطف تراجعي يحتاج الى إعادة تقويم، فالاصل في القاعدة الفقيهية هو الحلية ولا منع الا بقانون ينطلق من المواد الدستورية التي تنص على حقوق المواطنين وتحميها، وأنه عند إصدار القانون بالمنع يجب ان يراعي احكاما وقواعد منطقية ابسطها ان لا عقوبة الا بجناية وبوجود اثباتات وادلة وشهود ومحاكمة عادلة، وان العقوبة شخصية دائماً فلا يجوز ان تصدر عقوبة لمجموعة عرقية او اثنية او سياسية لمجرد ان من يختلفون معهم يمتلكون الأغلبية البرلمانية التي تخولهم اصدار القانون، فدور القوانين تنظيمي ينطلق من الدساتير التي تنظم إصدار مختلف القوانين التي تساوي بين المواطنين ولا تفرق بينهم ولا تحرمهم من حقوقهم على اساس اللون او الدين والمذهب والعرق والعنصر والجنس.
من هنا فاننا نطالب باعادة النظر في التعديلات التي اجريت على المرسوم بقانون رقم 14 لسنة 2002 لمباشرة الحقوق السياسية في اتجاه قراءة فاحصة توسع دائرة الفضاء الديمقراطي وليس التضييق في العمل بهذا الفضاء، ويقينا فان العودة الى اصل الاشياء ورفع الحيف عن المواطنين الذين التحقوا بالجمعيات السياسية التي تأسست بموجب القانون وحلت بموجب القانون وإعادة حقوقهم السياسية كاملة دون نقصان وأهمها حق الترشح والانتخاب والنقد هي اولى خطوات اعادة تفعيل الحياة السياسية في البحرين .
وللحديث بقية