السماح بإنشاء الجمعيات السياسية هو أحد السمات التي تميز بها العهد الاصلاحي الجديد
أهم الإجراءآت القانونية التي إتخذتها الحكومة للتضيق على الجمعيات إعطاء وزير العدل صلاحيات واسعة للتحكم في عمل الجمعيات السياسية
)كان السماح بتأسيس تلك الجمعيات هو من أهم ما تضمنه المشروع، الذي جاء في أعقاب فترة طويلة من الإنفراد بالسلطة وتأزم الأوضاع السياسية في البلد ووصولها الى طريق مسدود. مما إستدعى البحث عن الحلول المناسبة للخروج من تلك الأزمة، فكان طرح مشروع ميثاق العمل الوطني، والإستفتاء عليه، وما صاحبه من مبادرات غير مسبوقة تمثلت في إطلاق سراح المعتقلين والسماح بعودة المنفيين، وإلغاء قانون أمن الدولة. وما تلى ذلك من وضع الدستور وإجراء الانتخابات لتشكيل أول مجلس نيابي بعد المجلس الذي تم حله في عام 1975. كان ذلك كله بمثابة الإنتقال الى عهد جديد تسود فيه الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية. ويتاح فيه للشعب حق المشاركة الحقيقية في الشؤون العامة والتمتع بالحقوق السياسية.
وكان السماح بإنشاء الجمعيات السياسية هو أحد السمات التي تميز بها العهد الجديد. لتكون صوتا للشعب معبرا عن آماله وتطلعاته.( ، هذه مقدمة محاضرة الأستاذ راشد حسن الجودر الأمين العام لجمعية الوسط الإسلامي في مجلس محمد حسن العرادي بقرية عراد مساء امس .
وأضاف ، الموضوع الذي نحن بصدد تناوله ومناقشته ينطلق من واقع تعيشه الجمعيات السياسية في البحرين يتمثل في تراجع أدائها. وهو واقع لا يمكن إنكاره أو تجاهله. مما يدعو للبحث في أسبابه وإمكانيات تجاوزه. وهذا الأمر يتطلب في البداية التعرف على الوظيفة المناط بالجمعيات السياسية القيام بها، ودورها تجاه المجتمع والدولة. وما هو الدور الذي لعبته الأطراف والجهات التي تقع على عاتقها المسؤولية في نجاح أو فشل الجمعيات السياسية، وفي مقدمتها الدولة.
وهذه الوظيفة للجمعيات السياسية ودورها تجاه المجتمع والدولة يمكن التعرف عليهما من خلال ما نصت عليه مواد قانون الجمعيات السياسية لسنة 2005 حيث ورد في المادة الثانية منه أن الجمعية (تعمل بصورة علنية بوسائل سياسية ديمقراطية مشروعة، بقصد المشاركة في الحياة السياسية، لتحقيق برامج محددة تتعلق بالشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمملكة البحرين) أما المادة الثالثة فقد نصت على أن الجمعيات السياسية (تسهم في تحقيق التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المملكة. وتعمل باعتبارها تنظيمات شعبية ديمقراطية على تنظيم المواطنين وتمثيلهم وتعميق الثقافة والممارسة السياسية في إطار من الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والديمقراطية)
بناء على هذا التحديد القانوني لوظيفة الجمعيات السياسية ودورها، وبالعودة الى المرحلة التي أسست فيها الجمعيات السياسية وما شهدته من ظروف إستثنائية، سنجد بأن هذه الجمعيات قد أسست في ظل المشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك حمد.
إلا أن ما حدث خلال العقدين الماضيين من تراجع عن الكثير مما تضمنه ميثاق العمل الوطني والدستور، جعل عدد من تلك الجمعيات تدخل في صراع سياسي مع الحكومة بهدف المحافظة على المكاسب التي تحققت للشعب في بداية المشروع الإصلاحي.
ولأجل ألا ينحرف المشروع عن الأهداف المعلنة له. ومع وصول الصراع الى ذروته في عام 2011م وتحوله الى أعمال عنف وشغب وتهديد للسلم ا لأهلي، وإنقسام اجتماعي طائفي.
كانت الجمعيات السياسية قد بدأت تدخل في نفق مظلم، بعدما أفرغت مواد قانون الجمعيات السياسية الخاصة بوظيفتها من مضمونها، فأصبحت عاجزة عن القيام بدورها تجاه المجتمع والوطن. وغدت أشبه بدكاكين يعتاش أصحابها على وهم المشاركة في الشأن العام. مما يعيدنا الى السؤال السابق حول الأسباب التي أدت الى تراجع أداء الجمعيات. والجهات والأطراف المسؤولة عن ذلك التراجع.
بداية لا يمكن تبرئة الحكومة من المسؤولية عما آل إليه حال الجمعيات. فهي بحكم ما تمتلكه من سلطة وثروة وتحكم في السلطة التشريعية، تعتبر المسؤول الأول عن تردي أوضاع الجمعيات السياسية. وفي ذات الوقت لا يمكننا إلقاء المسؤلية كاملة على الحكومة وحدها. فقد كان للجمعيات السياسية دورها في ما آلت إليه أحوالها كما كان للمجتمع أيضا دوره.
إن موقف الحكومة من الشعب، ومن الجمعيات السياسية التي تمثله، له جذوره التاريخية التي تمتد الى عقود زمنية بعيدة. يوم أن كانت البلاد أشبه بقبيلة كبيرة يتولى إدارة شؤونها رئيس للقبيلة، وفق عقلية قبلية تمنح لرئيس القبيلة سلطة مطلقة في إدارة شؤون القبيلة دون مشاركة أو تدخل من أحد من أفراد القبيلة، كما تمنحه حق الإستئثار بالثروة، والتصرف فيها بحسب ما يراه. أي أن رئيس القبيلة كان يحكم الأرض وما فوقها وما تحتها.
وقد ظلت البحرين لعقود طويلة، وخاصة في مرحلة الإستعمار البريطاني، تعاني من إنفراد السلطة بإتخاذ القرارات وإدارة شؤون الدولة، مع غياب أي شكل من أشكال المشاركة الشعبية في إدارة الشؤون العامة.
ومع حصول البحرين على إستقلالها في عام 1970م بدأت مرحلة جديدة في العلاقة ما بين الحكم والشعب، تمثلت في إنتخاب المجلس التأسيسي، الذي عمل على وضع الدستور. ليتم بعده إنتخاب أول مجلس للنواب. في عام 1973. ليتم حله بعد أقل من عامين على إفتتاحه. بعدما ضاقت الحكومة ذرعا بمواقف عدد من النواب لجعل مشاركة الشعب في إدارة شؤون البلاد مشاركة حقيقية وليست شكلية كما هو الحال في وقتنا الحالي. ونتج عن حل المجلس عودة البلاد الى ما كانت عليه قبل الإستقلال. وذلك تأكيدا على هيمنة العقلية القبلية. التي كان من المفترض أنها سقطت مع إنطلاق المشروع الإصلاحي، فإذا بها تعود عبر بعض القوى المضادة للمشروع الإصلاحي، لتمارس دورها في إجهاضه، وإفراغه مما تضمنه من مبادئ عظيمة.
وكان لذلك التراجع عن المشروع الإصلاحي إنعكاسه على الجمعيات السياسية. التي عملت الحكومة في فترة لاحقة، على تحجيم دورها ومحاصرتها عبر العديد من القوانين والقرارات والإجراءات. وخاصة في الفترة التي تلت الحراك الشعبي في عام 2011م وما رافقه من أعمال شغب وفوضى وتعدي على مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة، وسقوط لعدد من الضحايا والأبرياء من كلا الطرفين.
ولعل من أهم الإجراءآت القانونية التي إتخذتها الحكومة للتضيق على الجمعيات، القانون رقم (34) لسنة 2014 بتعديل بعض أحكام القانون رقم (26) لسنة 2005 والذي أعطى لوزير العدل صلاحيات واسعة للتحكم في عمل الجمعيات السياسية، وتعطيل وظيفتها التي نص عليها القانون. وشمل التعديل العديد من المواد، منها المادة رقم (5) الخاصة بشروط إنضمام الشباب للجمعيات السياسية. والمادة (8) التي تمنح لوزير العدل مزيدا من الصلاحيات تجاه الجمعيات. والمادة (11) الخاصة بالنشرات التي تصدرها الجمعيات، والتي بموجبها تم إيقاف نشرات عدد من الجمعيات السياسية. والمادة (16) الخاصة بالذمة المالية لقيادات الجمعيات السياسية، والمادة (17) والمادة (18) الخاصة بالقرارات التي تتخذها الجمعية. والمادة (22) التي تعطي الحق لوزير العدل الطلب من المحكمة بناء على دعوى يقيمها الحكم بإيقاف نشاط الجمعية. وبناء عليه تم حل ثلاث جمعيات سياسية. والمادة (23) التي تعطي الحق لأي عضو بالجمعية الطعن في قرارات مؤتمرها العام. وكذلك الطعن في قرار الجمعية برفض طلب أي شخص للإنضمام الى الجمعية.
ولم تكتفي الحكومة بما أدخلته من تعديلات على قانون الجمعيات السياسية لحصارها، وإنما سعت عبر قوانين أخرى لممارسة مزيد من التضيق عليها، كقانون الجمعيات والأندية الاجتماعية والثقافية والهيئات الخاصة العاملة في ميدان الشباب والرياضة، تنص المادة (61) على أنه ( لا يجوز أن يكون المرشح لعضوية مجلس إدارة النادي أو الإتحاد الرياضي منتميا لأي جمعية سياسية)
وفي المادة الأولى من القانون رقم 25 لسنة 2018 هناك نص يمنع بموجبه من الترشح لمجلس النواب (قيادات وأعضاء الجمعيات السياسية الفعليين المنحلة بحكم نهائي لإرتكابها مخالفة جسيمة لأحكام دستور المملكة أو أي قانون من قوانينها)
ثم جاءت الطامة الكبرى على الجمعيات، يوم أن إتخذت الحكومة قرارها بإلغاء الدعم المالي للجمعيات السياسية، بإستثناء الجمعيات التي لها تمثيل في مجلس النواب. وهو ما أدى الى إغلاق عدة جمعيات لمقارها لعجزها عن دفع إيجاراتها. وعدم إمتلاكها للميزانية التشغيلية التي تمكنها من القيام بدورها في خدمة المجتمع والوطن. وفي وقت لاحق إضطرت بعض الجمعيات الى حل نفسها.
لاسيما ان المؤسسين للجمعيات السياسية انقسم حينها الى قسمين: قسم يتمتع الكثيرون منهم بالوعي وبالخبرة في مجال العمل السياسي، وبالتجربة النضالية عبر العمل السري. وبالمستوى الثقافي الرفيع. وقسم آخر كادت الخبرة السياسية لديه أن تكون معدومة أو متواضعة في أحسن الأحوال. مع شبه إنعدام للتجربة النضالية. وفقر في مجال الثقافة العامة. مع مستوى متدني من الوعي، عجزوا معه عن الإلمام بالوظيفة المنوطة بالجمعيات السياسية، وبالدور الذي يتحتم عليهم القيام به.
تلك كانت أهم الإجراءات التي إتخذتها الحكومة للتضيق على الجمعيات السياسية. مما أدى الى تراجع أدائها. فما هي العوامل والأسباب التي إرتبطت بالجمعيات السياسية وأدت الى تراجع أدائها؟
في الحلقة المقبلة .