بقلم: محمود القصاب
إن أي مقاربة موضوعية للواقع العربي الراهن، سوف تضعنا أمام حقيقة قاسية ومؤلمة هي : أن كل الأقطار العربية تعاني اليوم من أزمات متعددة وعلى صعد مختلفة. بعض هذه الدول غارقة في مستنقعات الحروب والصراعات الأهلية والفتن الطائفية التي افقدتها استقرارها السياسي والاجتماعي، والبعض الآخر تمزقت كياناتها وغابت أنظمتها بعد أن اجتاحتها تلك العواصف العاتية التي جلبت معها واقعاً مدمراً، هذا الواقع جعل من جميع هذه الدول في حالة انكشاف تام أمام مشاريع ومخططات القوى المعادية وفي المقدمة منها المشروع الصهيوني الذي وجد الفرصة مواتية للنفاذ إلى العمق العربي القومي من خلال "بوابة التطبيع" بعد أن أيقن أن القضية الفلسطينية قد تراجعت في سلم اهتمامات وأولويات الدول العربية التي وجدت نفسها مشغولة بقضايا وتحديات أكثر أهمية وأكثر إلحاحاً على حدودها وفي داخلها؟؟ الأمر الذي تحولت معه فلسطين القضية إلى مجرد "حالة لا تستحق الاهتمام يقابله اتساع مساحة التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل؟ الذي راح يعد وينفذ الخطط لاختراق الساحات العربية تحت ستار "التطبيع" ومن بينها للأسف ساحة البحرين التي اندفعت وبالغت في الحماس والتجاوب مع هذا المسار بشكل يبعث على الدهشة والاستغراب؟؟ وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول ما الذي يمكن أن تجنيه البحرين من سياسة "اللهث" و"الركض" المتسارع خلف هذا التطبيع دون حساب أو مراعاة لإرادة وثوابت البلد الوطنية والقومية، أو الإنصات إلى مواقف شعبه الذي عبر مراراً وتكراراً عن رفضه لهذه الخطوات التطبيعية المستفزة، وتأكيده على قوة التحامه وتعلقه بالقضية الفلسطينية وإيمانه بعدالة وحقوق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وتقرير مصيره، نعم: هو هذا جوهر وحقيقة موقف الشعب البحريني بكل أطيافه ومكوناته السياسية والمجتمعية والذي لا زال يتساءل عن أسباب هذا الإصرار على المضي في سياسة التطبيع والذي يعني في الواقع أننا نرمي ببلدنا وبحاضره ومستقبله وبكل إرثه التاريخي المضيء من قضية فلسطين في أتون خطر يوازي خطر الحرب مع هذا الكيان الغاصب والعنصري؟؟.
إن هذا الكيان يدرك بأن صراعه مع العرب يوجد في وعي ووجدان الشعوب العربية، لذلك هدفه الأساسي نزع كل مظاهر العداء له من عقول وضمائر الناس، والدخول من بوابة التطبيع إلى المنطقة وفق رؤية واستراتيجية تنهي معها الصراع العربي الصهيوني لمصلحته ومن ثم طي صفحة الحقوق الفلسطينية والعربية مدفوعاً بحرص وترحيب حكومات وأنظمة دولنا، ومسنوداً بقاعدة اعلامية من بعض الصحفيين والكتّاب وانصاف المثقفين من دعاة التطبيع؟؟.
إضافة إلى بعض رجال الأعمال والمال المدفوعين وراء مصالحهم الذاتية، هؤلاء وأولئك الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الترويج زوراً وكذباً لفوائد التطبيع، وما يمكن أن يجلبه من سلام واستقرار وازدهار كما يزعمون، بينما كل الوقائع والمعطيات تؤكد أن هذه المزاعم لا تعدو كونها أوهام وأضاليل تعج بها مخيلة هؤلاء المطبعين، فأحد أهم تلك المعطيات تقول: ان هذا الكيان ينظر إلى دول الخليج العربي كافة باعتبارها مجرد كيانات صغيرة تعاني من أوضاع سياسية وأمنية هشة، وإنها تمثل الخاصرة الرخوة للأمن العربي القومي وأنها وفق وصف أحد الكتاب الخليجيين "مخزون الثروات" و"مستودع الطاقات" لذلك وجد فيها هذا الكيان المجال الجغرافي والحيوي الجديد للتموضع فيه لتحقيق أهدافه ومصالحه وتنفيذ مخططاته في اختراق ساحات هذه الدول والتوقيع معها على اتفاقيات، تطال كل الجوانب السياسية والاقتصادية والصناعية والتعليمية وغيرها من المجالات الحيوية؟؟.
ماذا يعني هذا؟
يعني أن التهديد الذي يواجهه بلدنا وبقية دول الخليج العربي هو تهديد حقيقي، وإن المضي في هذه السياسات غير المحسوبة وتجاهل كل أثارها وتداعياتها المدمرة على أوضاعنا الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، يمثل خطأً جسيماً سوف يجعلنا نصحو يوماً لنكتشف أن الصهاينة قد تمكنوا من التغلغل في مجتمعاتنا وأصبحوا قادة للمشهد في أقطارنا والمقررين لمصيرها؟؟ وعلى صلة بهذا الجانب تستحضر ذاكرتنا الوطنية القريبة ما حصل مع أول ساعات الاعلان عن خطوات التطبيع بين البحرين والكيان الصهيوني والكشف عن الاتصالات السرية التي كانت تجري بين الطرفين (أعلنها أول مرة الرئيس الأمريكي السابق ترامب) بعدها رأينا كيف أخذت المجاميع الصهيونية بالتوافد على البلد وتجوب شوارعنا ومدننا تحت ستار السياحة، ثم اعقب ذلك تبادل الزيارات الرسمية والاعلان عن توقيع عدة اتفاقيات مشتركة في مجالات الاستثمار والرحلات المباشرة والأمن والاتصالات والتكنولوجيا والرعاية الصحية والثقافية والبيئية وغيرها كما جاء في أول بيان معلن حول استئناف العلاقات الدبلوماسية، ثم راحت خطوات التطبيع تتسع لتشمل إضافة إلى الجوانب الاقتصادية والاستثمارية المؤسسات الجامعية والثقافية، وهو ما دفع بعض الأساتذة والمهتمين بشؤون التعليم والثقافة للتعبير عن قلقهم والتحذير من توجه واهتمام الكيان الصهيوني بهذه المجالات في بلدنا؟؟.
أما ما هو أشد قلقاً وخطورة في كل هذه الخطوات والسياسات التطبيعية والذي كشف كل المستور هو إصرار هذا الكيان مدعوماً من الولايات المتحدة الأمريكية على الدخول في منظومة أمنية إقليمية وعقد "الاتفاقيات" و"التحالفات" مع دول المنطقة من "البوابة الأمنية والعسكرية" الأمر الذي يعني إحداث تغييرٍ حقيقيٍ في خريطة المنطقة، ووضع دول الخليج العربي برمتها في مرمى شظايا ونيران أي حرب يمكن أن تشهدها المنطقة الجالسة على بارود لا قدر الله، وهنا من الضروري التذكير بالبيان الذي صدر في 30 سبتمبر (أيلول) 2021 حول إقامة علاقة دبلوماسية بين البحرين والكيان الصهيوني الذي تجاهل إي إشارة إلى الصراع العربي الصهيوني على الرغم أن بعض التبريرات التي سيقت وقتذاك للدفاع عن قرار "التطبيع" إن "إسرائيل" قد وافقت على تعليق (مجرد تعليق) قرار ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة ويكفينا اليوم نظرة عابرة ومنصفة على الأوضاع المأساوية في الأراضي الفلسطينية وما يجري في الضفة وقطاع عزة وما يقوم به العدو المحتل من عمليات وإجراءات لتهويد القدس واتساع رقعة الاستيطان وغيرها من جرائم القتل والتهجير التي تمارسها قوات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وتنافس قادة وأحزاب الاحتلال المتطرفة الدينية منها والقومية على حدً سواء على رفض وتجاهل أبسط الحقوق الفلسطينية و"الدوس" على كل "الاتفاقيات" التي تمت مع بعض الدول العربية ومع السلطة الفلسطينية التي تحولت إلى مجرد "وكيل أمني" كما حصل في اتفاقية "أوسلو" على سبيل المثال لا الحصر، وها هو نتنياهو قادم على رأس تحالف صهيوني يميني متطرف معادي وحاقد على الفلسطينيين والعرب وأهدافه الإجرامية المعلنة تجاه القضية الفلسطينية.
نقول: تكفي نظرة واحدة على هذا الواقع لنعرف مع أي "دولة" أو "كيان" إجرامي وعنصري نحن نطبع؟؟ أما التعلل بمسألة السيادة واستقلالية الدول العربية في اتخاذ قرار التطبيع مع الصهاينة فإن هذا يمثل في الحقيقة قمة الاستخفاف بعقول الناس والاستهانة بنضالات وتضحيات الشعب الفلسطيني، وقبل هذا وذاك فإن قرار التطبيع يمثل بكل وضوح ضرباً للمصلحة الوطنية وانتهاكا صارخاً لسيادة واستقلال الدول المطبعة لما يحمله من ضغوط وإملاءات أمريكية واضحة لا يمكن إخفاؤها أو إنكارها؟؟.
لكل هذه الأسباب والمعطيات نقول: إن مسألة التطبيع هي بالنسبة لنا كدول وشعوب وقوى وطنية ومجتمعية هي مسألة حيوية ومصيرية ينبغي التعامل معها بكل جدية واللجوء إلى كل الوسائل السلمية المشروعة والإمكانيات المتاحة من أجل إفشالها ووضع الخطط والبرامج لهذا الغرض، كما أنه من واجب المفكرين والمثقفين وكل الوطنيين أن يأخدوا دورهم في هذا الجانب والعمل على إعادة صياغة أسس الصراع مع الكيان المحتل وشحنه بعوامل ومفاهيم جديدة تناسب المرحلة وخطورتها في ظل اختلال موازين القوى لصالح الكيان الصهيوني.
أما "جوقة" المطبعين والسائرون في ركب التطبيع المخزي أياً كان انتماؤهم و العناوين التي يتخفون خلفها أو الميادين التي يبثون سمومهم فيها، علينا فضحهم وتعرية نهجهم المتخاذل والتصدي لهم بالمنطق والحجة وعدالة القضية، لأنهم يتحملون وزر تبيض صورة الاحتلال وتبرير جرائمه وتكريس روح الهزيمة في نفس المواطن العربي عوضاً عن استنهاض روح الأمل و التفاؤل بالمستقبل وبحتمية انتصار إرادة الشعب الفلسطيني مهما اشتدت عليه المحن وكثرت ضده المؤامرات من قبل العدو البعيد أو الأخ القريب؟؟ ، وعلينا أن نؤمن بأن الواقع العربي المأزوم والمشحون بكل العلل والأمراض السياسية والاجتماعية والأمنية ليس قدراً محتوماً أو محكوماً لا فكاك منه؟.
فالعالم من حولنا يتغير ومعه سوف تتغير معطيات ومعادلات تبرز معها قوى وموازين وحقائق جديدة حتماً وعلينا أن لا نغفل أو نتجاهل بأن أحد أهم أسباب هذه الأوضاع العربية المتردية هم هؤلاء المطبعون وأمثالهم من الذين غابت عنهم كل قيم الحق والعدالة وتحكمت الهزيمة من نفوسهم وعقولهم واستسلموا خانعين طائعين أمام قوة مصالحهم، لذلك هم يصرون على وضع بلدنا في الجانب الخطأ من التاريخ وبيع فلسطين وشعب فلسطين ومقدسات فلسطين بأبخس الأثمان؟؟، والتنكر للحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف لهذا الشعب المناضل والمضحي ولكل الحقوق العربية التي سوف تبقى أقوى من تلاعب دعاة التطبيع وأقوى من أصحاب العقول المهزومة والضمائر المثلومة.