الكاتب عبد الله حبيب : شكرا لك لانك لن تتركنا في هذا الوقت الصعب
يصادف يوم غدا الحادي من سبتمبر ذكرى 11 عاما لوفاة الاب الروحي ومؤسس جمعية وعد ، الرفيق المناضل المرحوم عبد الرحمن محمد النعيمي والذي ترك بصمة واضحة وجلية خلال فترة حياته التي قضى جلها في المنافي مناضلا وعاد مع المشروع الاصلاحي ليشارك في العمل السياسي العلني المشروع .
رثاه الشاعر الكاتب العماني عبد الله حبيب في كتاب اصدره بعنوان " قنديل بعيد عن الشمس " بكلمات اديب احب رفيقه بعمق وفيما يلي نص الرثاء :
اجيئة مسافرا مجروحا محرجا – مثلكم تقريبا او مثلكم بالكامل ، عابرا فانيا في اللحظة الآبقة ، لكن كيف يمكن الحديث عنه كبيرا كبيرا دون الكلام عن الوقت ؟ كيف يمكن استحضاره عملاقا من دون الولوج الى الزمن ؟ كيف يمكن استفهامه وفهمه ولو في الحد الادنى الذي قد نستطيع آنيا غيره – وذلك من غير بعض الوعي بالاجتراحات الجارحة والاحراجات الراجحة بين اللغة والفعل كما في دم الوردة ، او كما في وردة الدم .
لقد كان راحلنا العزيز يعيش ضمن شروط هي اقل من الحد الادنى في الكثير من الاحيان ان تعلق الامر به او باسرته ، ويناضل في الوقت نفسه بالحد الاقصى، وذلك املا في تغيير الزمن نحو الحد الاعلى . ويا لهذا من مهمة باذخة الشظف ، والصعوبة والاصرار باسراف شديد !
لهذا البرزخ من برازخ كما يا للغة من لغات !
ابتهجي الحرف اللغة ، ام تذهب الموجة الى البحر ، ام تكتب العاشق الدمعة ، وهل يمكن ان يضيئ القمر الا في الليل المدلهم ، وكيف كان للبوصلة ان تاتي الا لمن فقدوا الاتجاهات والدروب ؟
تبحث المقالة عن رغيف ، فيهطل الدقيق على البصر والبصيرة ، ويصاب ابناء الرب الذي في الاعالي بالعيون . يبحث الهواء عن هوى ، فيحاق به الاعصار كله ، تبحث الشجرة عن جذور ، فاذا بالانساغ كلها تتواشج تحت الرماد. وابحث عنه – عن عبد الرحمن النعيمي – ضائعا ، يتيما ، حزينا ، باكيا ، مكلوما ، مغدورا ، وحيدا ، فاذ به مختبئ في حليب امي.
والحال هذه ، اذا ، اسمحوا لي من فضلكم ان موضع التجربة التاريخية الفذة والفريدة لفقيدنا الكبير في عبوره الضخم بين الوقت والمن ، ففي ما يخص اي استدعاء لتلك المرحلة الاستثنائية التي لا يبدو لي انه قد بلغ آخر تخومها البعيدة بعد ، هو العابر الهائل بنعالين من امل على ارض من الم ، سواء اسماء البعض عبد الرحمن محمد النعيمي ، او تذكره آخرون باسمه الحركي سعيد سيف ، او تحبب اليه غيرهم بكنية ابي امل ، ( هذا وان كنت في وارد اطلاق كني والقاب اخرى لى وجوده بين اظهرانينا ، او عودته الى اصلابنا كما تعود حلمه الرضيع الى فم الثدي – كنى بالقاب اخرى ) .
وفيما يخص اي استدعاء لتلك الرحلة الاستثنائية ، اذا ، يبدو لي انه لا مناص من استذكار خمس مقولات في الاقل لجل الشهيد ، ولاجل الشهود ، وايضا لاجل الشهادة ، ولاجل الفرق الدقيق بين الوقت والزمن .
في مقولات عديدة يتخندق كامل مشروع ورحيل عبد الرحمن النعيمي الفائض بالتوقعات ، والغامر بالاحتمالات والمفاجآت ، باعتباره عابرا حرجا ومحرجا وقلقا ومقلقا كما هو حال كل الشعراء والمبدعين الكبار ، ولا بالله عليكم ، او الشيطان نفسه ، ما الذي يدفع شخصا حسن الطوية ، وبالغ الرشد ووافر العقل ورزينه ، وحصيف التجربة ، ومحنك الخبرة ، واحد مؤسسي تنظيم كان يمطح الى الحرية من عمان الى الكويت ، بل الى ما هو اكبر وابعد من ذلك . مالذي يدفعه ، اذا ، للدعوة الصريحة الى ( وضع الجبهة الشعبية في الثلاجة ) ، وذلك حين اقتضت الظروف الموضوعية الانتقال من الاستماع لشرط الوقت الى الانصات لاشتراطات المكان وهو الذي كان قد اسهم ، مع جورج حبش واخرين ، في تحويل دفة حركة القومين العرب بعد نكسة 1967 نحو اليسار ؟
سادعي ، اذا ، ان عبد الرحمن النعيمي منذ بدايته الثورية ، منذ تنظيمه لتلك المظاهرة العمالية الباكرة ، منذ اول ليلة قضاها في الزنزانة ، كان يعاني الزمن اكثر من كثير منا ، واكثر من معاناة غيبوبة استمرت مدة اربع سنين كان يتواصل مع محيطة خلالها عبر ما يمكن تسميته ( لغة الجفون ) عوضا عن ( لغة العيون ) وتعميقا لبلاغتها ، ولسان حاله يقول ( انني اسمعكم ، واستمع اليكم ، فهاتوا ما لديكم ) ، اذ الفرق بين السماع والاستماع ليس صغيرا بدوره كما هو الحال بالضبط في الفرق بين الوقت والزمن.
هذا ،اذا ، كان عبد الرحمن النعيمي يجدد الوقت بطريقته الخلاقة الباهرة مخافة تبلده ، وصدئه وتراجعه وتناحره وذلك حرصا على طرواة الزمن وطهره ونقائه وديمومته .
كان شقيا مثل اب ، او مشقي كما ارملة ، يضع بين راحتيه ، او بين ضلوعه او بين عينيه او بين اذنيه سؤال دلمونيا قديما خشية على اللؤلؤة ، او على السمكة او على البحر كله من التصنيع.
كان عبد الرحمن النعيمي يمضي بحصافة فراشة دائخة وهو مثقل بالاجنحة الضوئية نحو المستقبل . كان تنبأ في الاستبطان ، ويستبطن في الاشراف لكن لم يدر بخلده ان رحاله ستحط فيما ستحط على وقت لم يحد فيه السؤال البحريني الوقتي الملح هو ( انت شعبية ام تحرير ؟) بل صار السؤال ( انت سني ام شيعي ؟) .
قد نكون دفنا عبد الرحمن النعيمي بمكان ضيق في حفرة مظلمة في الوقت ، لكن حنجرته الفسيحة وحجرته الوثيرة في المن تتسع لنا جميعا كما الضؤ او البحر ، فها هو ذا يقول لنا من هناك : لا عليك من انت ، لا عليك من هو ، فهذا لا يهم ، المهم هو انتم وكيف ستصبحون ؟ اهتم بالوقت لكن بطريقة تجلك تمضي نحو الزمن ، الاول – اي الوقت – فينبغي ان تكون انت حجته دائما .
ستكون محظوظا بالطبع ان انت التقيت عبد الرحمن النعيمي عدة مرات في وقته المزدحم دوما بالمشاغل العديدة ، لكن لا يتوجب منك ان تلتقيه سوى مرة احدة فقط لا غير كي تدرك البون الشاسع بين الوقت الذي يمضي والزمن الذي سياتي حتما وقطعا ، وان تفهم جيدا ان عليك ان تعم كثيرا وبعناد وبسالة في الاول كي لا تتخلف قيد لحظة او انملة عن الثاني .
وفي اية حال ثمة رفقة عزيزة وقديمة ومعروفة لعبد الرحمن في الارخبيل الصغير الملئ بالفنارات العالية التي ما فتئت تذكر روحي بالفرق الكبير والحرج بين الوقت والزمن ، حقا كان قاسم حداد ، على سبيل المثا ، قد اوضح لنا ذلك الفرق بطريقته الرؤيوية الخاصة حين قال : "لسنا جزيرة الا لمن يرى الينا من بعيد ".
هكذا هم اهل عبد الرحمن النعيمي : لا يتمكنون من احاقة الجمال في شكل جرعات تدريجية وقتية ، ومرحلية ، بل مرة واحدة ، دفعة واحدة في الزمن.
اذا ساقول ان في رحلته الخالدة بين الوقت والزمن لم يكن لدى عبد الرحمن النعيمي سوى ناقة حاتم الطائي في عدوها الحثيث في البحر من البحرين الى قطر الى شرق شبه الجزيرة الى ابوظبي ( التي نظم فيها بعضا من العناصر التي ستصبح من اكبر رموز التحرير الوطني في بلادي – عمان - بمن فيهم صديقي الراحل هلال مفرج الريامي الذي شاء له الوقت ان يذهب الى الزمن قبل النعيمي ) ، الى اليمن ، الى عمان الى لبنان الى سوريا الى غير ذلك من اقطار فيما سيتبقى من اللغة ليس لقواميس الوقت قدرة عليه لان معاجم الزمن كانت حنجرته اصلا من اجل التعريفات المبدئية .
لكن عبد الرحمن النعيمي هو القائد الذي كان يصر على المشاركة في مناوبات حراسة المقاتلين النائمين المنهكين من المعركة عوضا عن قبوله ان يكون محروسا من قبلهم حين ينام كما هو الحال في اعراف حرب العصابات ، سيتشيط غيظا وغضبا على الوقت ، والزمن ، بل الدهر كله ان المرء لم يشر الى بعض من الرهط البحريني الصالح الذي اتانا برفقته وفي رفاقيته الى تلك الجبال المقفرة والوعرة المليئة بالنار والاحلام في الستينات والسبعينات الى عمان بمن فيهم بل في مقدمتهم الطود الشامخ الكبيرة العزيزة العالية الغالية ليلى فخرو ، وعبد النبي العكري واحمد العبيدلي وعبيدلي عبيدلي ، وعبد العزيز الراشد واحمد الخياط الذي عمل في مستشفى الشهيد فاطمة غنانه وغيره ممن كانون يجيئون كما الذهب للتدريس في مدراس الثورة ثم يذهبون لاستئناف الدراسة الجامعية بدروهم في رحلة الشتاء والصيف رغبة في العدالة والمساواة بين الذهب والفضة وتراب الارض الباهضة الجسيمة وما تعتمله في نفوس العابرين.
ماذا يستطيع المرء ان يقول عنهم ولهم ؟ ماذا ؟
تقريبا لا يستطيع المرئ ان يقول عنهم ولهم اي شئ سوى : شكرا جزيلا لكم لانكم الهمتمونا ، وعلمتمونا ، وساعدتمونا كثيرا جدا في تهيئة الوقت لدينا شخوصا وابصارا نحو الزمن.
يا عبد الرحمن النعيمي ، يا سعيد سيف ، يا ابا امل : اسمح لي ، من فضلك ان اتذكر عبارة قالها فيدل كاسترو في خطابه الذي القاه في مناسبة تأبين رفيق دربه تشي غيفارا ، ( شكرا لك لانك تعود الينا في هذا الوقت الصعب !).
وانا اقول ، يا عبد الرحمن النعيمي : شكرا لك لانك لن تتركنا في هذا الوقت الصعب على الرغم من ذهابك الى كل ذلك المن الرحب ، يا سعيد سيف : شكرا لك يا ابا امل : حقا ، شكر جزيلا لك .