بقلم: رضي الموسوي
ألتفتُ إلى دموع تنساح على المقلتين وأنا مشدود بقدوم نعشين طاهرين من الجنوب الذي تكمن فيه كل الجهات. على الشاشة كان المذيعون يحبسون دموعهم على الهواء لئلا تتساقط وتكشف الحزن والغضب المخبّأ في الصدور باستشهاد مراسلة "الميادين" في جنوب لبنان فرح عمر والمصور ربيع معماري إثر إستهدافهما عمدًا مع سابق الإصرار والترصّد، ومعهما الشاب المدني حسين عقيل، بطائرة صهيونية مُسيّرة انقضّت على السيارة التي كان الثلاثة يستقلونها فحولتهم إلى أشلاء.
هكذا قرر جنرالات الجيش، الذين افتضح أمرهم يوم الطوفان العظيم، أن فرح وربيع وحسين هم ضمن بنك الأهداف التي ينبغي استهدافها، كما مستشفى المعمداني ومجمع الشفاء ومستشفى الرنتيسي والمشفى الأندنوسي في قطاع غزة، حيث الأطفال الخُدَّج ضمن القائمة الطويلة المطلوب شطبها من السجل المدني. قوات تائهة في عدوانها، موجوعة من ضربات المقاومة في غزة والضفة ولبنان واليمن والعراق. وحشية لم تفعلها النازية أيام المحرقة.
كانت الجموع تنتظر وصول جثماني فرح وربيع إلى مبنى قناة الميادين في الضاحية الجنوبية ببيروت، وما أن وصلت سيارتا الإسعاف، حتى سلّطت الكاميرا على أسرة فرح. قالت الأم المكلومة بكل ثبات وثقة: أن فرح دائمة الابتسامة والشجاعة والإقدام وشغفها بالعمل وحلمها بمواصلة دراستها..وإذا راحت فرح هناك مليون فرح يواصلون طريقها. أما والدها فقد كان مثالا للأب المتقبّل لقدر شهادة ابنته. كان طَودا شامخا متماسكا، لم يهدِ الاحتلالَ دمعةً أمام الكاميرا، بل كان متحديا له ومؤكدًا على خط "الميادين"، خط المقاومة في مواجهة الاحتلال وتحرير الأرض والإنسان. موقف سمعناه وقرأناه على لسان رئيسها غسان بن جدو، منذ انطلاقتها الأولى، وسارت على الطريق القويم بنبض الناس فحملت أحلامهم إلى المكان الذي يليق بهم كبشر يبحثون عن حياة حرة كريمة لا ينغِّصها نعيق غربان أتَوا من بعيد ليستوطنوا الأرض ويعيثوا فيها فسادا..وأي فساد وأي خراب أكثر مما يحدث اليوم في غزة والضفة الغربية، حيث آلات الدمار الأمريكية الصنع والزناد الصهيوني يحاولون خنق الكلمة والصورة التي تفضح جرائمهم. هذا الكيان غير قادر على ارتكاب كل هذه الجرائم دون غطاء أمريكي-غربي لا يزال يلتزم بدعم مجرمي الحرب وأبطال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
**
في رائعته الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، قدم الروائي الراحل حيدر حيدر روايته "الزمن الموحش" التي صدرت طبعتها الأولى في عام 1972، بقصيدة جميلة لشاعر أفريقي لم يدوِّن اسمه. القصيدة بعنوان "مراسيم دفن":
"لأنّ الزمنَ يقهرُ الزوايا الحادّة،
ويغلِق الجراحَ
أريدُ أن أنسى الزمنَ العاريَ والقاتلَ،
زمنَ العصوِر الأولى
زمنَ نتراتِ الفضّة المتآكلة،
ومفتّت العظام
زمنَ الفصامِ بين السُرّةِ والتاريخ
زمنَ الإبرة المرتعشة بجنون
في ساعةِ الصفر
زمنَ الصِلات المشتّتة
زمنَ الحياةِ الزائفة
زمنَ الخجلِ من التمدّدِ في نقطةِ البلاهة،
الزمنَ الذي حُشِرنا فيه داخلَ الفقر
كما يمتلئُ المرءُ بالغاز والكهرباء،
الزمنَ الذي انعكسَ فيه الخلودُ رأساً على عقِب
والذي لم يعُد فيه صولجانُ الموتِ ينقرُ أدمغَتنا.
الزمنَ الذي كنتُ فيه أسمَنُ بوحشية
وأنتفخُ تحتَ الشمس،
زمنَ الدموعِ والقلق
زمنَ المشي خلال النوم،
الزمنَ الذي أُرغِمنا فيه على اختراعِ أُذنٍ ثالثة
لكي نصغيَ بها
إلى ما يقوله قضيب الزمن
وهو يدقُّ رؤوسنا
بقوته الشرسة
والذي انتَدَبتهُ الأبديةُ ليكسِرَ ظهورَنا.
ولكن...
لأن الزمنَ يُشفي تلك الجراح
ويُسوّي الجراح،
فإنني أرغب في تشييدِ دعامةٍ للزمن،
أنا المنفيّ عن الزمنِ
والمطرودُ من العصور السالفة.
أريد الآن أن أُعيد لي الكمالَ،
أصير وتينَهُ المقدّس
لأرى كيف تَتّسع أملاكي،
وتستيقظُ أرضيَ المليئةُ بالظلال
وتفرغُ نفسَها كمخزنٍ بلا حدود،
ينتظرُ مجيئَ العصور".
**
لم تختبئ فرح ولم يختبئ ربيع عن عيون الاحتلال. كانت عيونهما ترصد طريق القدس. كجبل صنين شاهقين يطلان بالكلمة والصورة التي تقول الحقيقة وتعري نازية الاحتلال. كانا في المكان الذي يجب أن يكونا فيه. المهنية والمصداقية تتطلب أن يكونا هناك مع الشاب المدني حسين عقيل بحثًا عن اليقين بلا رتوش ولا فلترات رقابية. كان الثلاثة عُزّل إلا من كلمة وصورة ترعب تتار العصر وجيوشهم الجرارة كما تفعل رصاصة المقاتل وربما أكثر، فكان القرار بإغلاق مكاتب "الميادين" في فلسطين كإنذار أولي، تبعها قرار آخر بتصفية مراسلتها ومصورها في الجنوب..هل ارتكب التتار والمغول مثل هذه الفضائع؟!
كان والدا فرح أكثر ثباتا منا. تيقنت من كلامهما المقتضب. فرغم وجع الفقد والفراق، كان والد فرح متماسكا ومتجذِّرا في قناعاته بأن هذا العدو لا يفهم سوى لغة القوة. هذا عالم بلا عدالة وبدون قيّم، فالقانون الدولي تم دعسه تحت أحذية جنود الاحتلال، بينما انبرى الأمريكي يمحو أثره والدفاع عنه ورفع الفيتو في وجه من يفكر في الدعوة لوقف حرب الإبادة والتطهير العرقي.
كانت زوجة المصور ربيع معماري الذي خَبِر ميادين الحروب ونقل الصورة بأمانة وحرفية..قالت: كان ربيع بطلًا متحمِّسًا لكنهم قتلوه هناك. ربيع كان يغطي يوميات تحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش، وكان في مقدمة الصف يحمل كاميرته، عينه، في ساحات ملتهبة بالرصاص والقنابل.
في لحظة الفقد كم هي عزيزة دمعة الحزن والغضب، لكن حبسها بطولة أخرى. ألم تحمل أمهات الشهداء في الضفة أبناءهن على أكفّهن وقبضاتهن إلى السماء؟!
**
في ذات "الزمن الموحش" كلمات من نور:
"ها هم قادمون من الجبال والسهول زحفاً باتجاه المدن. في عيونهم غضب. وعلى جباههم غبارٌ ومجدٌ مُنتَظر. في الرياح تخفق راياتهم وأصواتهم الجليلة تملأ سمع العالم. تحتهم ترتعش الأرض، ونفوسهم مفعمة بالأماني والغبطة.
بخطى واثقة، كما يتقدم موجٌ غضب نحو شواطئ مجهولة، يتقدمون. لواء فرحهم معقودًا وأنا حاديهم، ومعنا مَسرّة وبنادق، كتب وسجلاّت فقر، زحفاً باتجاه المدن التي سقطت تحت ضربات الطلائع الأولى".
**
يدفع الصحفيون ثمن بث سرديتهم الناصعة دون رتوش ودون خنادق يلجئون إليها. سيقولون الكلمة الفصل التي تُجنَد لها أسلحة وعتاد ومشاريع قوانين تمهيدا لوأدها. لكن التاريخ سيحفر في أجسادنا وشما كأسماء أطفال غزة قبل قتلهم بدم بربري بارد: إنه وبقرار فاشي تم تصفية أكثر من 62 صحفيًا وإعلاميًا حتى اللحظة، كانوا في غزة العزة ضمن بنك أهداف الجيش الذي يعد الأقوى في الشرق الأوسط. جيش لم يجد إلا أطفالا ونساء فشظَّى أجسادهم وطمر بعضهم تحت الأنقاض. جيش يخشى الكلمة والصورة لفرط ما ارتكب من حمامات دم، فوجد في الصحفيين هدفا ساميا يسحقهم وهم عُزّل.
ربيع وفرح: كم في اسميكما نصيب. سيزهر الدم الذي ساح في الجنوب الأشم ربيعًا وفرحًا يعمّ الأرجاء. كما أنشدنا يوم خرج الجند فجرًا من الجنوب دون أن يتمكنوا من لبس سراويلهم الداخلية، سنغني لفرح قادم في الربيع.. هو وعدٌ حق.