بقلم : رضي الموسوي
ثالثا: تغلغل الكيان الصهيوني في مجلس العاون الخليجي
ينظر الكيان الى دول مجلس التعاون على أنها البقرة الحلوب التي تمنحه ذهبا، نظرا لما تتمتع به هذه الدول من ثروات طبيعية لا تقتصر على النفط الخام الذي فحسب، انما تمتلك في باطن أرض بعض بلدانها الكثير من المعادن الأخرى المهمة للصناعات الحديثة.
يبلغ الناتج المحلي الاجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي في العام 2022 نحو 2 تريليون دولار، حسب تقديرات البنك الدولي. وهذا يشكل 63.2 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي للبلدان العربية، بينما يبلغ الناتج المحلي الاجمالي للكيان الصهيوني 552 مليار دولار نهاية 2022 وفق تقديرات البنك الدولي. يقابله قرابة 45 مليار دولار الناتج المحلي الإجمالي للبحرين أي ما يعادل أكثر بقليل من 9 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي للكيان. وبلغ الناتج المحلي الاجمالي للامارات نحو 600 مليار دولار في 2022 حسب الدوائر الرسمية في حكومة دبي، فيما بلغ الناتج المحلي الاجمالي للمغرب 132.72 مليار دولار في نفس العام، والسودان 34.36 مليار دولار. أي أن الناتج المحلي الاجمالي للبحرين والمغرب والسودان أكثر بقليل من 43 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي للكيان الصهيوني، الذي يشكل أكثر من80 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي للامارات، وهو الأمر الذي توليه دولة الاحتلال أهمية كبرى وتعمل عليه، حيث ترى في الإمارات مركزا يمكن الانطلاق منه للتجارة مع أكثر من ملياري نسمة في العالم. لكن الإمارات ليست الهدف النهائي للكيان، بل أن الهدف هو كل دول المجلس وخصوصا السعودية، حيث يشكل اجمالي ناتج الكيان المحلي 24.4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي.
تسعى المؤسسات الصهيونية لتضع موطئ قدم في الاقتصاديات االخليجية، وتجتهد لزيادة صادراتها للمنطقة. ففي الجانب العسكري تسعى وزارة الدفاع الصهيونية الى زيادة صادراتها من الصناعات الدفاعية إلدول المجلس، مستفيدة من ارتفاع قيمة صادراتها في يونيو/حزيران 2021 بنسبة 15 بالمئة لتصل إلى 8.3 مليار دولار. وقد أكد هذا وزير الدفاع الصهيوني في ذلك الوقت، بيني جانتس بالقول: "إسرائيل لديها أسواق جديدة وفرص كبيرة للتطوير ستسهم في ضخ مليارات في الاقتصاد المحلي، وتتيح فرص عمل جديدة وتسهم في تعزيز أمن إسرائيل"، في اشارة غير مباشرة الى الاسواق الخليجية التي فتحت بعض دولها لبضائع الكيان ومعداته العسكرية.
قاد هذا لتسارع الإختراق الصهيوني للدول الخليجية، فبدأ التبادل التجاري بين الكيان والإمارات في التزايد مع الوقت. فبعد نحو عام على توقيع اتفاقات التطبيع، بلغ حوالي نصف مليار دولار، حسب بيانات للمكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل، التي نشرتها صحيفة جيروزاليم بوست وقالت إنه بعد مضي عام على التطبيع تجاوز حجم المبادلات التجارية بين البلدين 570 مليون دولار. وأنه "خلال 2020 (منذ سبتمبر إلى ديسمبر) والأشهر الستة الأولى من عام 2021، صدرّت "إسرائيل" حوالي 197 مليون دولار من السلع والخدمات إلى الإمارات، واستوردت منها حوالي 372 مليون دولار". وقفز التبادل بين الجانبين من 1.22 مليار دولار في العام 2021 الى 1.4 مليار دولار حتى شهر اغسطس/اب 2022.
وجاءت اتفاقية التجارة الحرة بين الامارات والكيان الصهيوني في مايو/ايار2022، لتضع اهدافا جديدة، حيث يسعى الجانبان إلى مضاعفة التبادل التجاري ليصل الى 10 مليارات دولار في غضون 5 سنوات.
استغل الكيان الفرص المتاحة أمام التيه الخليجي والعربي فتغلغل أكثر وضاعف سرعة اندفاعة التطبيع وضغط للتوقيع على العديد من الاتفاقيات في مختلف المجالات. وهو الأمر الذي اشار له المستثمر الصهيوني والمؤسس المشارك لمجلس الأعمال الإماراتي الإسرائيلي دوريان باراك، بقوله في تصريحات لصحيفة جيروزاليم بوست "أن الإمارات منصة فريدة للوصول إلى العالم بأسره (..) الإسرائيليون دائما يبحثون عن طرق للقيام بأعمال تجارية في جنوب آسيا وشرق أفريقيا والهند وبنغلاديش (..)، في حين أنها أسواق بها مليارا شخص ولا يمكن العمل معهم من تل أبيب، أما الإمارات فهي المكان الذي يتجمع فيه الجميع للقيام بأعمال تجارية، وتم قبول إسرائيل أخيرا في هذا النادي".
أما فلور حسن- ناحوم، عضو المجلس ونائبة رئيس بلدية القدس، فقالت إن العام الأول للتطبيع مع الإمارات كان "ناجحا جدا" على الرغم من مواجهة العديد من التحديات، وأبرزها جائحة كورونا.
وأوضحت أن الجائحة أعاقت السياحة ورغم ذلك "لا يزال لدينا حوالي 230 ألف إسرائيلي يزورون الإمارات (..) تخيل ما كان يمكن فعله إذا لم تكن هناك جائحة". (تذكروا السرقات التي قام بها السياح الصهاينة من فنادق دبي)
تهتم الدولة العبرية بمصالحها الاستراتيجية وبمشروعها المتمثل في أن تكون مركز القيادة، تنتج مختلف السلع والبضائع، بينما يقتصر فعل باقي الدول العربية على الاستهلاك وتغذية المركز بالمال والعمالة الرخيصة باعتبارها اطرافا في مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي نضّر له شيمون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، وتشكل دول مجلس التعاون الخليجي مصدر التمويل الأول لما تتمتع به من ثروات نفطية ومالية هائلة.
لقد جاء تركيز الكيان الصهيوني والولايات المتحدة على دول مجلس التعاون الخليجي، بناءً على دراسة ديموغرافية ومالية واقتصادية، لمنطقة تعتبر واحدة من أغنى المناطق في الشرق الأوسط والعالم. يبلغ عدد سكان مجلس التعاون الخليجي أكثر من 60 مليون نسمة في العام 2022، ويتمتع المقيمون الوافدون وأسرهم بأغلبية في أربع منها هي الإمارات وقطر والكويت والبحرين.
ويشكل الوافدون في الإمارات 88 بالمئة من إجمالي السكان البالغ عددهم 10 ملايين نسمة، ونفس النسبة تقريبا في قطر البالغ عدد سكانها نحو 3 ملايين نسمة وفق التقديرات الرسمية للعام 2022. وفي الكويت يشكل الوافدون 69 بالمئة من أصل عدد السكان البالغ 4.33 مليون نسمة وتصل في البحرين إلى 53 بالمئة البالغ عدد سكانها 1.6 مليون نسمة، بينما تبلغ النسبة 45 بالمئة في سلطنة عمان من اجمالي عدد السكان البالغ 5.22 مليون نسمة، وفي السعودية 37 بالمئة من اجمالي عدد السكان البالغ 36 مليون نسمة.
ويعتبر الاقتصاد الخليجي عامل جذب للمستثمرين وللعمالة الوافدة، فهو يحتل مرتبة متقدمة عالميا. فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لدوله الست أكثر من 2 تريليون دولار ، ويبلغ في السعودية تريليون دولار ، تليها الإمارات بنحو 600 مليار دولار، ثم الكويت بناتج 184.56 مليار دولار، فقطر 180 مليار دولار، ثم عمان 114.67 مليار دولار، وأخيرا البحرين 45 مليار دولار. ويبلغ حجم التجارة البينية بين دول المجلس أكثر من تريليون دولار، تتصدرها الإمارات بـ53%، ثم السعودية 26%.
أما الاحتياطيات الأجنبية، فتبلغ لدى لدول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة نحو 664.9 مليار دولار، منها 81% للسعودية. وتنتج دول الخليج نحو 17.2 مليون برميل يوميا تمثل 22.8% من الإنتاج العالمي، وتبلغ حصة السعودية من الإجمالي الخليجي نحو 57%، حيث بلغ متوسط إنتاجها 9.81 مليون برميل يوميا ويصل سقفها الانتاجي الأعلى إلى أكثر من 12 مليون برميل يوميا.
هذه أرقام فلكية يسيل لها لعاب الكيان الصهيوني من أجل اقتناص مئات مليارات الدولارات بصفقات أسطورية تتركز في التكنولوجيا والتجسس والسلاح والسياحة، إذا ما جرت رياح التطبيع وفق ما تشتهيه سفينة الكيان. لذلك فأن تل أبيب تشعر بانتعاش، وخصوصا رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، الذي يواصل سعيه للهروب من اتهامات بالفساد ربما توصله إلى السجن، كما أوصلت زعماء صهاينة قبله مثل رئيس الوزراء الأسبق اولمرت. لقد أسس الاختراق الصهيوني لبلدين خليجيين أرضية خصبة للتوسع نحو بلدان خليجية وعربية أخرى، وهذا ما يسعى له الكيان بهدف تشكيل تحالف اقليمي في مواجهة إيران ودول الممانعة الأخرى (محور المقاومة) وتأسيس الحلم الصهيوني "الشرق الاوسط الجديد".
وقد تقدم الكيان في ذلك خطوات كبيرة من حيث التطبيع الكامل مع الدول التي وقعت اتفاقات ابراهام (الامارات والبحرين)، وتمكن من إرخاء قبضة دول أخرى في الخليج من خلال السماح للطيران الصهيوني باستخدام اجواء هذه الدول، وفتح نوافذ لعلاقات تجارية مواربة إلى حد ما مع بقاء الاتصالات قائمة، ما يعزز الخطى نحو التطبيع الكامل وفتح السفارات وإقامة العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية. وقد ساعد على ذلك استمرار الانقسام الداخلي الفلسطيني الكارثي والمستمر منذ أكثر من عقد ونصف العقد، تراجع بسببه الاهتمام بالقضية الفلسطينية على المستوى العربي والخليجي على وجه الخصوص، كما تراجع الاهتمام الدولي بها لحساب الحضور الصهيوني، ما أدى بالدوائر المعادية استثمار هذا الانقسام إلى أقصى حد أُستخدمت فيه وسائل الإعلام المختلفة في فرض وقائع جديدة عبر ضخ مواد إعلامية وترويجية للتطبيع مع الكيان وتسويق شعار الدولة القُطرِية أولا والبحث عن سراب الحلول الفردية والهروب إلى الأمام بدلا من معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بأغلب الدول العربية. يحدث ذلك على حساب القضية المركزية للأمة وخلق أرضيات خصبة لطرح موضوع التطبيع والتحالف مع الكيان وحرف بوصلة الإعلام العربي الموجهة للكيان الصهيوني كعدو رئيسي للأمة، وتوجيهها صوب إيران التي تشاطئ الخليج العربي مع دول مجلس التعاون الخليجي.
الخلاصة
تؤكد الاحداث التي تعصف بالمنطقة أن الإستمرار في مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني هو القرار الأصوب والصحيح في سبيل مواجهة نظام الأبارتهايد الفاشي الصهيوني الذي يمارس ابشع حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني مستخدما المستوطنين الذين تسيرهم إرادة قادته المتعطشين للقتل والانتقام، امثال وزير الأمن الداخلي اتمار بن غفير ورئيس وزراءه بنيامين نتنياهو. لكن عملية طوفان الأقصى أكدت أن مسيرة التطبيع قد تفرملت بسبب تغير المعادلات وانتفاضة الشعوب التي هبت ضد العدوان وما شكلته من إحراج للدول المطبعة التي أُجبِرَت حكوماتها على أن تُحني رؤوسها حتى تمر عاصفة الطوفان وتبعاتها، ما يفرض على هذه الشعوب وقواها الحية استثمار عودة الوهج للقضية الفلسطينية في الشارع العربي بعد أن أخمده اتفاق أوسلو المشين (1993)، والشروع في عمل جماعي على المستوى الخليجي والعربي في عملية تشبيك فاعلة بين مقاومي التطبيع في دول مجلس التعاون الخليجي وخصوصا مع الدول التي طبعت مع العدو، ويمد تشبيكاته إلى بلدان الوطن العربي والدول الاسلامية ودول العالم، بما يحقق الفعل الحقيقي لمواجهة واحدا من ابشع الاحتلالات في التاريخ الإنساني. وهذا يحتاج إلى جهود كبيرة، تبدأ من دول مجلس التعاون الخليجي عبر خلق أرضية صلبة لاستمرار وتعظيم مقاومة التطبيع ومقاطعة الكيان الصهيوني وداعميه من دول وشركات تفرض تشكيل مرصد دائم لها، بما فيها الشركات الخليجية التي هرول بعض مسؤولوها للكيان بعد التوقيع على الإتفاقات "الإبراهيمية". كما يحتاج الامر إلى عملية تشبيك جدية دائمة مع منظمات المقاطعة مثل (بي دي إس) ومنظمات مقاومة التطبيع في بلدان الخليج والدول العربية وتأسيس شبكة تعمل على حماية بلداننا من الغول الصهيوني الذي يتربص ببلداننا، فالخطر كبير، ولنا في تجارب الدول التي طبعت مثل مصر والأردن والسلطة الفلسطينية عبرة ينبغي دراستها بعمق، فقد كانت النتائج كارثية على البلدين والسلطة. ويكفي الإطلاع على التدهور الاقتصادي والسياسي وحجم الديون والفقر والبطالة، لنتأكد أن الصهاينة إذا دخلوا دولة أفسدوا فيها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.