بقلم: رضي الموسوي
تمنّى المواطن العربي أن تكون الدول العربية أو بعضها أو إحداها، هي التي بادرت ورفعت قضية على الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية لتعرية جرائم العدو التي يرتكبها في قطاع غزة والضفة الغربية وأراضي الــ48، حيث يمارس نهجا تدميريا بتشريد الفلسطينيين من أراضيهم تطبيقا لسياسة الاقتلاع والابادة الجماعية التي تضاعفت بعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023. لكن المواطن العربي من المحيط إلى الخليج أُصيب بالإحباط والغضب من نهج أنظمته التي ادارت ظهرها للقضية الفلسطينية وأشاحت بوجهها عندما كان جيش الاحتلال يمارس أكثر أنواع البربرية بشاعة ضد الاطفال الرضع والخدج والنساء الفلسطينيات، وكأن هذه الانظمة لا تنتمي للأمة أو أن مخدرا أمريكيا قد حقنت به ولم تفق بعد من غيبوبتها، وبالتالي لا يبدو أن قرارها في أيديها، بل ربما هو في مكان آخر.
لم تقم الدول العربية بواجبها الوطني والقومي والإنساني، فجاء الفعل من جمهورية جنوب افريقيا التي خاض شعبها معارك الحرية والعزة والكرامة وقدم التضحيات الجسام في سبيل الانعتاق من نظام الفصل العنصري (الابارتهايد)، وقد تمكن من تحقيق هدفه بالقضاء على النظام العنصري وإعادة السلطة للأكثرية السوداء وتأسيس جمهوريته بقيادة الزعيم التاريخي الراحل نيلسون مانديلا الذي قاد النضال الوطني ودخل السجن لربع قرن من الزمن. مانديلا الذي وضع بمعية كوادر حزب المؤتمر الوطني أسس إقامة دولة العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية واحترام حقوق الانسان والديمقراطية ومكافحة الفساد. ومانديلا هو الذي اطلق مقولته الشهيرة "ليس حرًا من يهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة". ويبدو أن هذه المقولة ومقولات الأخلاق والقيم والمبادئ السامية والمبادئ قد تشرّب بها شعب جنوب أفريقيا بعد أن انهى حقبة نظام الفصل العنصري وانتصر عليه، ويرى واجب القيام بما يمليه عليه ضميره كإنسان لنصرة شعب فلسطين.
ففي التاسع والعشرين من شهر ديسمبر الماضي تقدمت جمهورية جنوب أفريقيا بدعوى قضائية ضد العدو الصهيوني في محكمة العدل الدولية في مدينة لاهاي بهولندا، اتهمت فيها الكيان بالسعي للإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، حيث بدأت المحكمة اليوم النظر في الدعوى بالاستماع لمرافعة الفريق القانوني لجنوب افريقيا الذي قدم مرافعات مهنية أكد من خلالها على أن الكيان غارق حتى أذنيه بجرائم الابادة الجماعية، مستندا على وثائق دامغة صادرة عن قيادة الكيان نيتهم القيام بحرب الابادة الجماعية ثم انطلق المحامون في مرافعاتهم مسنودة بوثائق تؤكد حصول هذه الابادة، التي لا تحتاج لجهد كبير لكي يتم اثباتها، حيث حصد العدوان الصهيوني أكثر من 23 ألف شهيد، بخلاف آلاف المفقودين، ونحو 60 ألف جريح ومصاب وتدمير آلاف الوحدات االسكنية والمباني والبنى التحتية بما فيها المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية والطرق ومحطات الكهرباء والمياه، أي أن العدوان الممنهج أراد إنهاء الحياة الطبيعية في قطاع غزة واستخدم كل الوسائل الإجرامية لكي يحول القطاع إلى منطقة لا تصلح للسكن الآدمي، خصوصا باستخدامه الأسلحة المحرمة دوليا بما فيها استخدام الفوسفور الأبيض بكثافة عالية أحرق الأخضر واليابس ودمّر كل شيء، ومارس الكيان عمليات تهجير قسرية جماعية ضد المواطنين المدنيين العُزّل، فضلا عن تجويعهم.
لقد فرضت دعوى جنوب أفريقيا نفسها على المجتمع الدولي وأحدثت فرقًا واضحًا وبدأت الخطوات الأولى لعملية الفرز، حيث أعلنت الأردن وإيران وبوليفيا وتركيا وليبيا وماليزيا، تأييدها ودعمها للدعوى الشجاعة بهدف الكشف عن حقيقة هذا الكيان. وفي نفس الوقت دولة مثل إيرلندا التي تعرض شعبها لاضطهاد تاريخي شبيه في بعض مقاطعه لما يتعرض له الشعب الفلسطيني، تمتنع وتعارض الدعوى.
من الواضح أن النظام الرسمي العربي ليس في وارد الفعل المتناغم مع الجماهير الشعبية للأمة، فهو لم يقدم على خطوات فعلية منذ السابع من أكتوبر، بل أن بعض عناصر هذا النظام متواطئة مع العدو الصهيوني وتشجعه على ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، ليس فقط في غزة، بل أيضا في مختلف مناطق فلسطين التاريخية في أراضي الـ48 والضفة الغربية والقدس التي تتعرض إلى عملية تهويد لم يسبق لها مثيل.
خطوة جنوب افريقيا مقدرة ومشكورة وهي التي فعلت ما لم يفعله أي من عناصر النظام الرسمي العربي المتخبط والتائه وكأنه في ورطة من أمره بعد أن ضيّع مفاهيم القيم والأخلاق والعدالة، وتخلى عن شعب شقيق ظل في خط الدفاع الأول عن شرف الأمة وعزتها وكرامتها، لكن النظام الرسمي العربي مثخن بجراحات فشله في جل القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولم يعد صالحا للعمل.
شكرا جنوب افريقيا بحكومتها وشعبها وبمؤسسها الزعيم الراحل نيلسون مانديلا الذي قاد بلاده من زنزانته في جزيرة روبن إلى الانتصار على نظام الابارتهايد فأسس قيّم الحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة ورفض الظلم والإبادات الجماعية..
والخزي للمتخاذلين.