بقلم: رضي الموسوي
كأنها ليست ستة عقود من مرت على انتفاضة علمت في جسد هذا الوطن المثخن، اصلا، بجراحات وأزمات كبرى تتوالد واحدة من رحم الأخرى، وكأننا لم نتعلم كيف نعالج أزماتنا التي أخذت تنهش في الجسد وتدميه حتى الإنهاك.
في الخامس من مارس، تمر الذكرى التاسعة والخمسون على الإنتفاضة المجيدة التي تفجرت في ذلك اليوم المجيد وشملت مختلف مناطق البحرين من المحرق إلى المنامة والرفاع والنويدرات وسترة وقرى شارع البديع، وقد سقط فيها 6 شهداء موزعين على تلك المناطق، ومرات الجرحى واستمرت نحو ثلاثة أشهر أكد فيها العمال على حقهم في العمل اللائق الذي انتِزع منهم وتم تسريح 1500 عامل من شركة النفط "بابكو" التي أنجزت مهمتها على مراحل آخرها نهاية فبراير 1965 عندما قررت التخلص من الدفعة الأخيرة والتي شملت 400 عامل، والتي كانت جزءًا من أهداف واستنتاجات اللجنة الأمريكية التي قدمت إلى البحرين في مطلع عام 1961 ووضعت مخطط التخلص من العمالة البحرينية على مراحل..وهذا بالفعل الذي تم وفجّر الانتفاضة المجيدة التي انطلقت من مدرسة المنامة الثانوية، لتنتشر كالنار في الهشيم في مختلف مناطق البحرين.
كانت القوى المحرّكة للانتفاضة وهما جبهة القوى القومية وجبهة القوى التقدمية، واعيتين لمتطلبات المرحلة والمطالب الشعبية للانتفاضة، فجاءت مذكرة جبهة القوى القومية الموجهة إلى الحكومة واضحة وتركزت في ستة مطالب أوردها الكاتب إبراهيم خلف العبيدي في كتابه القيّم "الحركة الوطنية البحرينية (1914-1971)". وتمثلت المطالب في:
1-إنشاء مجلس تاسيسي يمثل الشعب بكافة فئاته الوطنية من عمال وفلاحين ومثقفين وكسبة.
2-بدء مفاوضات مع قوات الاحتلال على أساس منح الاستقلال الذاتي وإلغاء القواعد العسكرية.
3-إيجاد مناخ ديمقراطي تتوافر فيه حرية العمل النقابي والمهني والطلابي، كما يعطي الحرية للصحافة لتعبر عن إرادة الشعب.
4-محاكمة كل العناصر التي وقفت وراء الأحداث الأخيرة.
5-إطلاق سراح المعتقلين الذين زجّوا في السجون منذ عام 1956 وإعادة المبعدين السياسيين ليمارسوا حقهم السياسي.
6-إعادة جميع العمال المسرّحين إلى أعمالهم.
عمر هذه المطالب، كما أسلفنا قرابة ستين عاما، وهي تعالج وضعا عماليا توسّع ليؤول إلى وضع سياسي ضاغط يشبه حالة اليوم. فإلغاء القواعد العسكرية الأجنبية ظلت مطلبا ملحًّا للقوى السياسية المعارضة باعتبارها تمسّ السيادة الوطنية وتنتقص منها. ووجود مجلس منتخب كامل الصلاحيات التشريعية والرقابية ولا ينافسه أو يشاغبه أي مؤسسة أخرى ، هو مطلب لا يزال قائمًا، حيث الخلاف بين القوى المعارضة والجانب الرسمي إزاء ذلك واضحة وجليّة. ثم إن قضية المعتقلين السياسيين الذين تم اعتقالهم في عام 1956 و1965 وطالب بيان الجبهة القومية بالإفراج عنهم، هو مطلب يتكرر بمطالبة القوى المعارضة الحكم بالإفراج عن معتقلي الرأي والضمير وإعادة الاعتبار إلى مرحلة الانفراج الأمني والسياسي وتعزير قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. أما إعادة العمال المسرّحين من شركة النفط في عام 1965، فإنه يتكرر اليوم كمطلب شعبي لا لبس فيه بوقف عملية التسريحات الجماعية والفردية التي تتم في العديد من الشركات الكبرى والمتوسطة.
نضيف إلى ذلك أن قضية حماية المنشآت والشركات الوطنية التي تحتضن عمالة مواطنة بنسب مهمة يتوجب أن تكون تحت إطار الحفاظ عليها وحمايتها من الإغلاق، فما حدث مع إحدى الشركات المحلية واضطرارها إلى إعلان افلاسها واغلاقها بسبب المنافسات غير المتكافئة وبسبب عدم الالتفات الحكومي إلى هذه المنشأة التي تشكل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، واحتضانها مئات من العمالة المواطنة، ما يجعل انتشال هذه الشركات من براثن الإفلاس والإغلاق يعتبر واجب لحماية الاقتصاد الوطني وتعزيزا لاستقلاليته وتشجيعًا للرأسمال المحلي على الاستثمار في البلاد وتوظيف العمالة المواطنة.
إن إدارة الظهر للشركات المحلية بحجة تطبيق قوانين السوق وعدم التدخل في معادلاتها، يعتبر تفسيرًا بائسًا وقاصرًا وغير مهني لحالات التعثّر التي تتعرض لها العديد من المؤسسات المواطنة ومنها شركة أوال الخليج التي ذُبحت دون أن يسمي عليها أحد ولم يصلِّ عليها أحد، وأدى الأمر إلى رمي مئات من العمالة في طابور البطالة والفقر وفقدان ثقة رأس المال المواطن بالاستثمار في البلد. فكل البلدان تدعم وتحمي صناعتها واستثماراتها المحلية التي تولِّد فرص العمل للمواطنين.. فما بال الوضع عندنا؟!
ما يزيد القلق أن عناصر جديدة دخلت على الخط لتضع موانع تطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وعلى رأسها العجز المتكرر في الميزانية العامة للدولة وتضخم الدين العام إلى أرقام قياسية، حيث تخطّى حجم الاقتصاد الوطني بمسافات طويلة وأصبح عبئاً كبيرًا معرقلا لأي تغيير حقيقي ينتشل نحو الاقتصاد الوطني من الغرق والانزلاق إلى مستويات لا يمكن معها تحقيق أي إنجازات من شأنها خلق معطيات جديدة مضادة للحالة السلبية القائمة التي قادت إلى الإعلان عن إطلاق رؤية جديدة تطمُر النتائج المعروفة لحالة التِّيه التي بلغتها رؤية 2030 والهروب إلى الأمام نحو خطة أخرى.
في ذكرى انتفاضة مارس، نترحم على الشهداء الذين سقطوا في الانتفاضة المباركة ونثمن ونحيي التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب البحريني الذي واجه رصاص الاستعمار البريطاني الذي خلق طابور من الجرحى والمصابين والمنفيين والذين فرض عليهم مغادرة البلاد هروبا من البطش والعقاب والانتقام. فرغم مرور ستة عقود على الانتفاضة إلا أن أغلب المطالب التي رفعتها القوى الوطنية التي قادت الانتفاضة هي مطالب مشروعة ولا تزال صالحة اليوم وعلى رأسها حق المواطن في العمل اللائق والمشاركة السياسية وتحقيق آمال المواطنين في احترام حقوق الانسان والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وإقامة دولة المواطنة المتساوية، أساس الدولة المدنية الديمقراطية وعمودها الفقري.